كانت تخرج أمامهم كل صباح بربرية.. لا تعترف بعاداتهم. تكنس الحجرة الوحيدة التي تسكنها علي أطراف البلدة الصغيرة, وترش الماء حولها. ترتدي ثوبا غامقا قليل الخيوط. يشف عما لاتريد أن تخبئه. كان بياض وجهها وجسدها يهوي الأسود, والبني, والأزرق, والأحمر. عيناها خضراوان تعكسان ألقا. شعرها جدائل من الذهب. تهوي طرح الحرير الشفافة التي تنساب من فوقه, لتزين رقبتها وهي تقف شامخة بطولها المحبب, وقدها الملفوف. صوتها معدني سميك كغناء البلابل وهي ترد صباح الخير علي بعضهم. بصبر صياد راقبها الرجال. كانوا يطيلون المكوث أمام مرآة عينيها وهم ذاهبون, أو عائدون من حقولهم. يحبسون صورتها وجسدها في رؤوسهم, عزاء عن لياليهم القاحلة, وبديلا للحواديت, وعن الفضائح التي يمزقون بها الليل علي المصاطب, وتحت عرش القش في الحقول. بخبث راقبت النسوة بطنها. لم تنتفخ. ووجهها لم يغادره المرح. إنسية هي؟! لقد جاء بها احد التجار العجائز المترددين علي القرية النائية. كان يقضي لأهلها بعض المصالح في البندر. بني التاجر العجوز غرفة هشة من طين. متماسكة بوصاياه المتكررة للجميع بحمايتها. قيل: إن الرجل كان أباها. لما ألحوا عليه في السؤال اكثر من مرة وقتها قال: إنني في مقام أبيها. أحميها من باشاوات وأثرياء بلدتي الكبيرة. الطامعين في جمال الفقيرة, لا في نسبها, حتي يحين الأوان, ويعود الغائب. عرف أهل القرية أن الفتاة, أو المرأة, كانت تنتقل بين الاثنتين مع كل ثوب ترتدي بينهم, يتيمة, وأن التاجر العجوز مؤتمن عليها. لكن اي أوان سوف يحين, ليحرمهم منها, أو من كشف سرها؟! وأي غائب محظوظ يكتوي قلب الجميلة التي سماها لهم العجوز أيضا جميلة بنار فراقه؟! كان التاجر العجوز يهل مرة وحيدة أول كل شهر, ويعود في نفس اليوم. يفرغ بقجته القماش عندها. في الصباح التالي تضع أمشاطا, وقطع حلي من فالصو براق, ولبان أمام حجرتها علي طاولة من جريد. تجلس وراء الطاولة علي كرسي قصير من الخشب. إنها تمشي مثلنا علي قدمين, ولها عينان, ولسان لاتحركه كثيرا. حتي مع النسوة اللاتي يشترين حاجاتهن, لكنها تعشق الأطفال. نراها تقبلهم طوال النهار, وتمنحهم: حلوي, ولبان, وفول سوداني, ولب دوار الشمس. هل هي في احتياج للمتاجرة بهذه الأشياء البسيطة التي تتخلي للأطفال كثيرا عن بعض ثمنها؟! أم هي طريقة للألفة؟! ولو كانت فقيرة وطيبة, لكن جمالها غني, وأي غني؟! إنها تتعفف عما يبعثه لها بعض من يملكون أفدنة كثيرة من الأرض سرا, بل وتعاملهم بوجه صلب حينما يلقون عليها السلام, أو يحاولون الأخذ والرد معها في الكلام. هي أيضا ليست فقيرة, لأننا نراها تساعد بعض الناس الذين يحتاجون لمساعدات صغيرة. تذهب لأفراح بعض البنات, وتزينهن. ترش الحلوي علي رجال الله الذين يطوفون شوارع القرية, ثم يبيتون بجوار مقام الولي في أثناء المولد السنوي في صيف أغسطس. يردد أهل القرية ذلك الكلام مع بعضهم البعض كثيرا. لم يعد شباب البلدة ورجالها يصدقون أوصاف ست الحسن ما لم تطابق هيئة الجميلة جميلة, بل إن النسوة أصبحن يتغزلن في جمالها علي مضض أمام أزواجهن, ليشعلن الرغبة في أجساد منهكة طوال النهار, ويفرغها الأزواج الحالمون عندهن, وليطفئن الحب السري من أجساد هؤلاء الأزواج. لكن رغبة الأزواج في المستحيل لم تنطفئ رغم كر السنوات. ذات ظهيرة, كما تصر العجائز القاعدات علي المصاطب, شق أرضهم فارس فوق حصان بني. مرقط بالبياض, ومسرج بحبال ذهبية. شاهدن بانزعاج وتطلع جسد الخيال, فهن لايعرفن في هذه البلدة الصغيرة البعيدة الا سواد الطين, وخضار الزروع, وصفار السنابل, وأحمر الورد علي الشطوط وفي خدود البيضاوات المدعوكة بشمس الظهيرة. الجميلة بألوانها الساحرة أغمضت عينيها, وفتحتهما كثيرا. تنظر إليهن للحظة, وتنظر الي فارسها للحظة أخري. وكأنما تقول لهن: ها هو ذا قد جاء من كنت انتظره. كان اليمام والعصافير يحطان حولها علي افرع الشجر القريب. وهديل الحمام فرح في أبراجه الصغيرة. ألهب الفارس الجميل مشدود القامة حصانه المجنح بالكلمات السحرية حتي طار, وهبط قدامها. نزل الفارس. حط سيفه في غمدة. لمسها, ولمسته. وكأنهما يكتشفان ما زاد علي كل منهما, أو نقص خلال غياب الاخر. دون همس ارتمت جميلة في صدره. لم يكن من المألوف ان تشاهد نسوة البلدة هذا المنظر علانية. نحين تقاليدهن جانبا وهن يطردن فأر الذعر من صدورهن, إذ كان الأزواج سينسون الجميلة, ويعودون الي الرضا عنهن مرة اخري. حمل الفارس جميلة, وأجلسها امامه فوق ظهر الحصان, ثم رمح الحصان جريا. بعد ان مرر الفارس أصابعه علي شعر الحصان. أكدت النسوة أنهن رأين جناحين كبيرين مرة اخري علي جانبي الحصان وهو يحلق بهما في الأفق. حتي اختفي الحصان والفارس, والجميلة. دخلن حجرتها. رأين بعض ملابسها معلقة علي مسامير معقوفة. دولابها الجديد مغلق علي باقي ملابسها المصفوفة بعناية. سريرها نظيف مرتب, مرآتها نصف الدائرية داخل إطار خشبي مزخرف. يزين جوانبه شريط أخضر بلاستيكي من أوراق النباتات. أمام التسريحة أدوات الزينة التي لم يعرفن معظمها. جمعن كل ذلك, ثم أحرقنه امام اعين الأزواج العائدين فوق عرباتهم الكارو مساء لأنهن مرعوبات مما رأين. تقسم العجائز, اللاتي كن وقتها في شبابهن, علي ذلك. ونحن الصغار نؤكد لهن ان ماحدث للجميلة جميلة, التي ما زالوا تحت تأثير سحرها, لا يحدث إلا في حكايات ألف ليلة وليلة يقرصوننا في أفخاذنا, ويقلن: أنتم لم تعرفوا شيئا ولم تروا شيئا هل رأي احد منكم عفريتا, أو جنية؟! آباؤكم انفسهم كانوا أطفالا. لا يعرفون شيئا. زمنكم زمن التليفزيون, المسلسلات, والكلام الماسخ. أما نحن فكنا نراهم, ونكلمهم عند الشطوط, وفي بطن السواقي, وعلي أشجار الجميز. ونكرر الضحك الماكر ونحن بين التصديق وعدم التصديق. لم يستطع الرجال, ولا الشباب, ولا الأطفال الصمود امام صراخ النسوة, وإغماءاتهن المتكررة, وحركاتهن الغريبة حينذاك, لكنهم اقاموا مكان حوائط حجرتها المنهارة حوائط متينة لمقهي رغم توسل زوجاتهن. كان جدي يؤكد لي حين ألح عليه, ليفك لي غموض الحكاية انهم قبلوا بحكاية الفارس العجيب, لأن الزمن كان زمن فرسان, وملوك, وشياطين. لقد قبلوا ايضا بانقطاع قدم التاجر العجوز عن القرية, لأن أمنيته تحققت. وذهبت جميلة إلي نصيبها. بحثوا كثيرا في القري المجاورة والبندر, ولم يجدوا أثرا لها, او للتاجر العجوز. يكمل جدي بأسي: رحلت عنا جميلة, ولم يهدأ الشوق. كنا عاجزين عن اكتشاف السر كاملا. غير ان رائحة عفن أدمي كانت تخرج علينا, وتحاصرنا نحن( الجبناء) من خندق الساقية المهجورة.. رغم تفتح الزهور العطرية التي نبتت علي كومة التراب المبلول العالي حينذاك. فكري عمر