محيط – سميرة سليمان غلاف الرواية اعتاد محمد البساطي أن يقوم بزيارات خاطفة إلي المدينة الواقعية في "ليال أخرى" والمدينة الأسطورية "الخالدية" والمدينة البين بين في "دق الطبول". ولكنه بين زيارة وأخرى يفضل العودة إلي بئره الأولي، ومستودع حكاياته في القرية.. العالم الذي بني منه نحو مئة قصة ورواياته "بيوت وراء الأشجار"، "صخب البحيرة"، "ويأتي القطار"، و"فردوس". وفي هذه الرواية "جوع" يعزف البساطي سيمفونية من ثلاث حركات، حيث تروى حكاية الجوع للخبز والحب من خلال ثلاث وجهات نظر الزوج والزوجة والابن. هذه الكلمات مسطورة بغلاف رواية "جوع" للروائي المصري محمد البساطي الصادرة حديثاً فى طبعتين عن "دار الآداب" اللبنانية ومؤسسة "أخبار اليوم" المصرية. والتي كانت ضمن القائمة القصيرة للروايات المرشحة لجائزة البوكر العربية التي فاز بها د.يوسف زيدان. تصف الرواية تصف حال أسرة يتجسد من خلالها الجوع بشدة ويغلف حياتها البؤس، من أجل البحث عن رغيف خبز، وكأن الكاتب يريد أن يكشف لنا حقيقة الدنيا التي سرعان ما تدير لنا وجهها بعد ابتسامة قصيرة منها وهذا هو حال تلك الأسرة التي نقترب منها بوضوح عبر سطور الرواية. المقطع الروائي الذي يربط حكايات الزوج والزوجة والابن هو " ..كعادتها حين ينفد العيش من البيت تصحو سكينة في البكور و تقعد على المصطبة، يلحق بها زوجها و الولدان و النعاس لم يفارقهما، كانا في الثانية عشرة و التاسعة، الصغير – رجب - يرمي بنفسه ورأسه على فخذها و يروح في النوم، الكبير- زاهر- يقرفص جنب حلق الباب وزوجها بالطرف الآخر من المصطبة يسلك أسنانه بعود قش". ومن خلال هذا المقطع يحكي لنا البساطي مستخدما "الفلاش باك" أو العودة إلى الوراء في الرواية ولنبدأ المقطع الأول مع الزوج زغلول. زوج عاطل تقول سكينة الزوجة عن زغلول زوجها القروي : "..ما إن يأخذ كفايته من الكسل والتسكع حتي يبحث عن عمل. هو يجيد أي شيء. قهوجي، مبيض نحاس ، شيال. أعمال بناء، سمكرة. لا يبحث طويلا. يقبل بأول ما يقابله، يشتغل بثلاثة رجال. في المقهي يعمل ورديتين متواصلتين، يرسل لها غلاما يعمل في المقهي، يعطيها النقود، تطبق يدها علي النقود والبهجة تغمرها. الخبيز. النهارده . ودلوقتي . يتبقي قرشين . شوية سكر وشاي . وقرص جبنة، كفاية نص قرص. وطبق عسل أسود . ويمكن شوية رز وعدس" ، فجوع الأسرة ليس دائما ولكنه مرتبط بأوقات بطالة الأب . نصف الخبيز تلتهمه الديون حيث تستلف سكينة بعض الأرغفة من جاراتها وعند الخبيز تسدد ما عليها، ولكن تقول لنفسها: يكفي أنها ستسدد ديونها التي طال زمنها. ويعرفنا البساطي بشخصية زغلول على لسان زوجته التي تقول: "لا تطول أيام عمله، تراه قادما والجلباب ملقي علي كتفه، ينقبض قلبها لمجيئه، وكانت تفكر في الخبيز بعد أن كاد العيش في القفص أن ينفد، وعند سؤالها عن عودته تعرف أنه ترك العمل قائلا: ما حبش حد يشتم أمي. الزباين مرة. والمعلم صاحب القهوة مرة. شتيمة الأم مزاج عندهم". جوع للمعرفة الزوج لا ينشغل كثيرا بأمر العمل وتوفير الخبز لأسرته بل ينشغل بالأحاديث التي تدور بين مجموعة من طلبة الجامعات، الذين جاؤوا إلى القرية في إجازة الصيف، وراح يتتبع مجالسهم ويسمع حكاياتهم وينصت دون أن يشعروا به إلى مناقشاتهم حول حياة المدينة وآرائهم السياسية. يقول عما سمعه من التلاميذ: ".. بيقولوا الواحد المفروض ما يشتغلش كل يوم زي الجاموسة في الساقية. لابد يكون عنده وقت يفكر. طب يا جماعة يفكر في إيه ؟ ما قالوش. وعايز أسألهم، وأبص عليهم، وأسكت" . تقول زوجته عن ذلك "..كان يوماً أسود يوم عرف التلاميذ. يخرج كل يوم وقت الغروب ويعود على وش الفجر، يبحث عنهم بطول البلدة وعرضها حتى يعثر عليهم... صحيح أنه لا يفهم الكثير مما يقولونه غير أن بعض الذي يفهمه يشغل دماغه وقتاً طويلاً". ثم سافروا، وعاد إلي تسكعه في شارع السوق حتي كان لقاؤه مع الشيخ رضوان، كان أستاذا للفقه والشريعة بالجامعة، ويأتي في الأجازات إلي البلدة، يرى أطيانه ومصالحه الأخرى. قال زغلول للشيخ: " أسئلة كتيرة. تروح وتيجي في دماغي. وقلت انك تشرح لي. أقول لنفسي هو الله سبحانه أرسل أنبياء كتير، كل كام سنة واحد. أعرف منهم ثلاثة. موسي وعيسي ومحمد. عليهم الصلاة والسلام. الثلاثة بيدعوا لعبادة الله . وكل دعوة ولها طريقتها، واللي معاها يقولوا إنهم الأفضل عند ربنا ويكدبوا غيرهم . وييجي الزمن ونشوف الثلاث دعوات في وقت واحد ونازلين في بعض ضرب وقتل، وأقول لنفسي طب ليه ؟ إذا كان ولابد، نبي واحد كفاية" . كان رد الفعل رفصة قوية من الشيخ رضوان لزغلول يقول عنها البساطي: "..أدهشته الرفسة قبل أن توجعه، أطاحت به خطوات للوراء، وقلبته علي ظهره، صيحة الشيخ أوقفت الحركة في الشارع، صوت زغلول ضائع وسط الصياح: الجلابية. حاتقطع الجلابية. فوجيء الشيخ بالجلباب ينشق بسهولة في يده". أعطى الشيخ قماش لزغلول لتفصيل جلباب جديد إلا أن زغلول رفض فقد أبت عليه كرامته ان يأخذ القماش..هو فقير ولكنه عفيف. ثم تنتقل بنا الرواية إلى قصة ابتسم فيها الحظ لزغلول حين عمل عند الحاج عبد الرحيم الذي غادر البلدة ليعود بمال وفير وبوزن زاد خمسة أضعاف، يعمل زغلول لديه يساعده على ركوب البغلة أو دخول المرحاض. أصبح الحاج يثق في زغلول ويغدق عليه فيعود لأبنائه بما يلذ لهم ويطيب. تفانى في خدمة الحاج عبد الرحيم إلى أن مات الحاج، وعاد زغلول إلى بطالته مرة أخرى، وهكذا ينتهي المشهد الروائي الأول على لسان الزوج. هم طويل المقطع الثاني عن الزوجة سكينة ويبدأ قائلا"..سكينة في قعدتها على المصطبة، ضاقت من انتظار طلعة النهار، الشمس بانت والناس مازالوا نياما، ولا دبة قدم واحدة في الحارة، هي لا تستطيع ان تنتظر، مغص الجوع خفت وطاته، يشتد في البداية، مثل ما يجري في شهر الصوم، تتحمل الأيام الأولى في صعوبة، وجع البطن ودوخة، يومان أو ثلاثة وتروح الأوجاع". أكثر ما يشغل سكينة هو البيت الكبير بلونه الوردي المواجه لبيتهم، تتعلق سكينة بالبيت، تتمنى لو دخلته لتشاهد بنفسها ما يحكي عنه الناس نظرا لما يضم من خيرات. ولعل الحدث الأبرز في حياة سكينة وأولادها هو عندما تضطر الخادمتان الشابتان في البيت الكبير بعد وفاة سيدته الاستعانة بسكينة حتى تبيت في المنزل مع صاحبه الحاج هاشم لتؤنس وحدته وتسعفه بشربة ماء إن جاءت ساعة الوفاة لئلا تظل روحه معلقة بين السماء والأرض. وتشترط سكينة أن تصحب زوجها وابنيها في الليل وينصرفون في النهار في حال سبيلهم، وتذوق معهم للمرة الأولى في حياتها أنواع المأكل الطيب في هذا البيت، إلى أن أسلم الحاج روحه مع الليل وحانت المغادرة. أرادت سكينة أن تتزود قبل خروجها من البيت فقالت لزوجها: "كنا أكلنا لقمة قبل ما نخرج"، وتقصد قبل العودة إلى البؤس والشقاء ثانية. اغتيال البراءة يقول البساطي: ".. جسدت معني الجوع في الرواية عندما جعلت طفلا لا يتعدي عمره أحد عشر عاما يحملق في هذه البقع البنية الصغيرة التي تعلو رغيف الخبز وهو داخل الفرن. الطفل هنا لا ينظر لمشهد الرغيف الجمالي ولكنه فقط يحلم بأن يصبح الرغيف بين أصابعه لكي يقضم منه ولو قضمة واحدة ولكن حتي هذا الحلم غير قابل للتحقيق". وهكذا نجد كل شخصيات الرواية مشغولة بالبحث عن رغيف الخبز حتى الابن الكبير، يبدأ هذا المقطع الروائي على لسان الابن بالقول: "سكينة في قعدتها على المصطبة، النسوة في البيوت لا يتركن الفرشة قبل طلعة الشمس، كل الرجال خرجوا بدري، عندهم أشغالهم، زوجها من دونهم قاعد على طرف المصطبة، هذه المرة طال بقاء زغلول في البيت، استلفت فيها العيش ثلاث مرات من كل من تعرفهن بالحارة، ولم ترد الدين بعد، وتخشى لو ذهبت إليهن مرة رابعة يجدن الدين يصبح كبيرا لا تستطيع سداده فيختلقن أعذارا يوجعها سماعها". حين يضيق الابن بكسل والده يذهب إلى فرن عباس حيث يعطيه عم عبده الفران "العيش الكسر" وهي الأرغفة التي احترق جانب منها أو اهترأت فتفتتت. أخذ زاهر يومها كمية كبيرة وهرول خارجا، وهي المرة الأولى التي يأخذ عيشا إلى البيت، لهم يوم ونصف لم يأكلوا شيئا. كانوا في قعدتهم على المصطبة وقف زاهر أمامهم لاهثا، ثم فتح حجره فجأة، أمه صاحت وقفزت، أبوه لم يقل كلمة غير أن وجهه كان راضيا. وجاءت أمه ببصلتين كانت تخفيهما ليوم يكون فيه طبيخ، كسرهما أبوه بين كفيه، وتحلقوا حول القفص، يومها أكلوا حتى الشبع، وبقى القليل في القفص وكان راضيا يكتم زهوه وهو يرى عيشه معلقا في السقف. مظلة الصداقة يكشف لنا البساطي عن طبيعة الصداقة بين زاهر وعبد الله الذي يسرق الخبز واللحم من بيته من أجل أن يعطيه لزاهر،أما والد عبد الله فكان له شكل آخر كان لايريد أن يصاحب ابنه زاهر، فضرب ابنه بالكف على وجهه لأنه يصادق هذا البائس. ثم قال لزاهر مرة: "..أنا مش عارف ربنا ابتلانا بكم ليه. مافيش إلا ابني؟ عندك عيال الدنيا. وجاي لغاية بيته. أعمل فيك إيه؟ رد. يهزه في عنف، وزاهر يحدق في وجهه ولا يتكلم، الحارة دي. من أولها. والحارة اللي جنبها. واللي بعدها. أشوفك في واحدة منهم حا أقطم رقبتك". ثم يضربه الوالد ويمزق جلبابه ويعطي له جلباب آخر ولكن زاهر يرفض أخذه مثلما فعل أبوه في السابق لأنه على الرغم من فقره عفيف. تنتهي الرواية بمشهد سكينة في قعدتها على المصطبة ".. تنتظر طلعة النهار التي اقتربت، الشمس بانت في الأفق، رجب رفع رأسه عن فخذها ونظر حوله، وزغلول بالطرف الآخر من المصطبة يمص عود القش، وزاهر في قرفصته عند الباب يتجنب النظر إلى أمه، يخشى أن تطلب منه الذهاب إلى فرن عباس بعد أن غادره عبده الفران من يومين – رآه يحمل صندوقه متجها إلى المحطة، وتوقف عبده حتى لحق به وقال: ايه يا زاهر – آن الأوان، وزاهر لا يتكلم وعبده الفران سكت". على هامش الرواية يقول الناقد يسري عبد الله عن الرواية أن البساطي يلتقط عائلة معدمة في الريف المصري، حيث ثمة شخوص يتضورون جوعاً "زغلول/ زاهر/ سكينة/ رجب"، أملاً في لحظة شبع مبتغاة، غير أنها لا تحين!، وإذا حانت فسرعان ما تنتهي، هذا هو المسار السردي الرئيسي في رواية "البساطي"، و الذي تدعمه عدد من الحكايات الفرعية التي يضفر بها الكاتب روايته. يبدو جليا في رواية البساطي "جوع" أن هذه الأسرة رغم الفقر والعوز إلا ان الحياء هو السمة الغالبة عليها، فالزوجة تستحي من كثرة السلف وترغب دائما في سدادا ديونها سريعا، والابن يخجل من صديقه ولا يتذوق الطعام الذي أعطاه له في حضرته. أيضا يظهر في الرواية نقاء هذه الأسرة التي لم يلجأ فيها أحد إلى الانحراف أو الطريق الخاطئ رغم الفقر المدقع والجوع الشديد. ونختم بما قاله الروائي المبدع محمد البساطي صاحب "التاجر والنقاش"، "ليال أخرى"، "فردوس"، "الخالدية"، وغيرها من الأعمال الأخرى عن سبب اختياره لعنوان روايته "جوع": مستوي الجوع الذي وصل إليه البلد هو الشيء الوحيد الذي كان يشغلني لأنه عندما يصل الجوع بمستوى أسرة إلي درجة أن تبحث عن طعامها في صناديق القمامة فهذا يعني أننا علي وشك كارثة حقيقية.