بدقة،فكيف تكون الكتابة عنه اذن،ثم كيف يكون النص عند البحث في أوجه الجوع المختلفة حين تكون مادية ومعنوية••؟ العمل الاول هو رواية "بيوغرافيا الجوع" للكاتبة البلجيكية إميلي نوثومب التي تتحدث عن رحلتها مع الجوع في أوجهه المختلفة•لكن رغم هذه الرحلة الشاسعة التي تحكي عنها الكاتبة وما فيها من غوص في النفس الإنسانية فإننا لا نجد جوعا حقيقيا في النص، ذاك الجوع الذي يغير مصير الشخصيات ويحول في حضوره المأساوي مساراتها وخياراتها القدرية في الحياة• إن هذه الرواية التي جعلت من كاتبتها سوبر ستار هي رواية ممتعة عند قراءتها، لكن ليس أكثر من ذلك،إنه التشويق المنسي الذي يزول بعد وقت قليل•فالكاتبة وهي ابنة سفير بلجيكي تحكي عن تنقلاتها الكثيرة بسبب عمل والدها، بين دول عدة،من اليابان الي الصين ثم نيويورك فبنغلادش، وكمبوديا،ودول الشرق الأقصي•لقد كتبت روايتها عن هذا الترحال،وعما فيه من جوع مادي ومعنوي ومن عذاب نفسي نتيجة شراهة كبيرة تقض مضجع البطلة ،وتجبرها علي القيام بمحاولات شتي لخسارة الوزن،إذن هذا الجوع غير المرئي وغير الحقيقي يقبض علي روح الرواية ويلتهمها،فالجوع النفسي في النص هو مطبخ الرواية ،إنه المعدة التي تلتهم الأحداث الواقعية في مخيلة طفلة وتهضمها في عصارتها القاسية،ليس أكثر،لن يجد القارئ ملامسة حقيقية لفكرة الجوع لا من قريب ولا من بعيد،هذه الرواية من الممكن لقارئها أن يجد تجوالا وسفرا ،لكنه حتما لن يعثر علي ما يحاكي المحور الأساسي للعمل أي فكرة الجوع• لكننا نقف علي صور للجوع الحقيقي،الجوع بمعناه الحسي الموجع في رواية للكاتب المصري محمد البساطي تحمل اسم "جوع" وفي هذه الرواية يبدو رغيف العيش البطل الحقيقي، والمحرك الرئيسي للأحداث•• فالجوع علي حد تعبير البساطي تفشي لدرجة أن بعض الناس أصبحوا يبحثون عن طعامهم في صناديق القمامة• اختار البساطي لروايته عنوان "جوع" وقد حرص أن تكون الكلمة غير معرفة بالالف واللام كيلا تتشابه مع رواية أخري للكاتب النرويجي كنوت هامسون تدعي "الجوع"• الفضاء الجغرافي في رواية البساطي هو الريف المصري،وأبطاله هم عائلة ريفية بسيطة تقاسي بؤس الجوع وآفته• يقدم الكاتب لقارئه بلا تردد صورا موجعة للجوع منذ المشهد الأول والعائلة التي تشد علي بطونها الخاوية،فيصير الجوع وحشا قابعا في الأحشاء، وحشا مفترسا يلتهم عصب الحياة وإنسانية الأبطال• في أحد مشاهد الرواية هناك لقطات تدون ألم طفل يحدق في نقوش رغيف الخبز داخل الفرن من دون أن يتمكن من الحصول عليه•علي ما في كتابة البساطي من وجع،لكن هناك جمالية الإبداع في الكتابة عن الألم،تلك الكتابة الراسخة التي تظل مشاهدها في ذاكرة القارئ وروحه•هذا ما لا نجده في رواية إميلي نوثومب،حيث تتبخر الأحداث من الذاكرة بسرعة ولا يظل إلا حكايات البطلة عن الترحال والتنقل،وعن الشراهة الناتجة عن فراغ عاطفي موهوم أيضا•يمكننا القول عن هذه الرواية: إن الجوع فيها هو جوع المترفين،وربما يكون هذا النوع من الجوع مؤلماً لصاحبته،لكنه في النتيجة لن يؤدي للنتائج الكارثية التي يفضي لها الجوع الفعلي• محمد البساطي الذي ينتمي لجيل الستينيات في مصر حين تسأله عن تجربته في كتابة روايته "جوع"،يؤكد ان مسعاه كان رصد الجوع المرعب المتغلغل بين الناس يقول: "الجوع الذي وصل إليه البلد هو الشيء الوحيد الذي كان يشغلني ،يكفي أن نعرف أن الشعب المصري يعيش تحت خط الفقر بمقاييس البنك الدولي ويظل السؤال المطروح راح فين الخير بتاع البلد؟"• تترك رواية البساطي أثرا يشبه طعم الحريق ورائحته،تقبض علي قارئها من دون أن تسمح له سوي بالخوف من الجوع الحقيقي الرابض في مكان ما•إنه الجوع بمعناه الفعلي، لا الحديث عنه وتوهمه•