سرتُ من مقر شركتنا حتي شركة راكتا، وهي في آخر حدود الإسكندرية، وبعدها تبدأ محافظة البحيرة.وجدتُ كل البيوت مبنية علي هيئة حجرات صغيرة واطئة، بالطوب الني. حياة صعبة للغاية، طريق أسفلتي ضيق يقع بين قضبان السكة الحديد، حيث يمر قطار رشيد من هناك، والمصرف الطويل الذي تعتمد عليه شركتا الورق ( شركتنا وشركة راكتا) في صناعة الورق، وترميان فيه مخلفاتهما. كانت النساء تمسك أطفالهن ويسرن في هذا الطريق الضيق، وقد ازدادت السيارت التي تمر فيه؛ فيموت الطفل في يد أمه، فالسيارة تدهسه وتطير إلي بعيد. ثم ازداد عدد الشركات هناك، شركة للسماد تعتمد علي مياه البحر، ومصانع قطاع خاص في شتي المجالات . كنا نركب سيارات الشركة ، وسيارات مؤجرة تأتي من الإسكندرية، وتعود بنا آخر النهار، دهشتُ مما أري عبر نافذة السيارة التي تقلنا إلي هناك ، سيدات يجلسن علي حافة " المصرف " ويغلسن أوانيهن. مياه المصرف ليست عميقة، ولا تسمح بالشرب، لكنهم كانوا يستخدمونها في كل شيء. كنتُ أنا وزميلان، نظل في السيارة مع السائق، وننزل معه أمام شركة راكتا، ونتناول الإفطار في المطاعم الكثيرة هناك ، أو في المقاهي ، الطعام لا يخرج عن الفول والطعمية والجبن القريش، والقديم الذي كان يفضله أحدنا ولا يشبع منه، المطاعم عبارة عن أكواخ من " البوص "، وفتاة سمراء ملابسها متسخة، تلبس شبشباً في قدميها.وسيدات يأخذن ورق الدشت الموضوع في الخارج ، ليشعلن به أفرانهن، أو يذهبن إلي مبني الإدارة، وقد كان في السابق قصرا للباشا " حسن نشأت " ، وهو خارج حدود الشركة، تأتي النسوة لبيع الجوافة التي تُزرع بكثرة هناك، أو الجرجير والفجل، فيقفن خارج نوافذ القصر في الدور الأرضي، ويدخلن لحمل الماء إلي بيوتهن، لاحظت أن معظمهن حفاة، أو يلبسن الشباشب البلاستيكية، وقد عملتْ معي واحدة من هناك، حصلتْ علي دبلوم تجارة بصعوبة، وكانت تحكي لي كثيراً عن حياتها، والعذاب الذي لاقته، فقالت لي: - كنا نسأل المرأة أو الفتاة ، إذا وجدناها تلبس شبشباً في قدميها : " أنت رايحة فرح؟! الكل كان حافياً. ذلك ذكرني بما فعله أحمد حسين - زعيم حزب مصر الفتاة - قبل الثورة إذ قاد حملة صحفية تحت عنوان ( رعاياك يا مولانا ) نشر خلالها علي صفحات جريدته تحقيقات مدعمة بصور العراة والحفاة من أبناء الشعب المصري . ثم مشروع حزب الوفد بجمع التبرعات لمقاومة هذا الحفاء، وشراء الأحذية للناس، لكي لا يمشوا حفاة. وقد حكت لي هذه الفتاة حكايات غريبة عن منطقة الطابية، منها أن واحداً من سكانها، كان يعمل حارساً ليلياً علي محطة الكهرباء هناك، فاتفقت معه عصابة علي أن ترمي قريباً من مكان حراسته كمية مخدرات كبيرة من طائرة هليوكبتر ، مقابل مبلغ كبير، فوافق، وعندما دخل علي زوجته بهذه الكمية الهائلة من الأموال، وهي في حجرتها المبنية من الطوب الني، أصيبت بالجنون، ومازالت مجنونة للآن. هذه المنطقة هي التي اختارها حسن نشأت باشا، وكيل الديوان الملكي السابق، بعد أن أمر المندوب السامي الإنجليزي الملك فؤاد أن يبعده عن أي وظيفة حكومية في الدولة، ففكر في الاتجاه إلي الصناعة، فطلب من الملك فؤاد - صديقه المقرب - قطعة أرض في هذه المنطقة، وأقام ثلاثة مصانع:مصنع للورق، ومصنع للصلصة، ومصنع لتعليب منتحات الألبان واللحوم. كان حسن نشأت صديقاً للممثلين، فدعاهم لتصوير فيلم " أرحم دموعي " في هذه المنطقة، وكان يحيي شاهين يقوم بدور حسن نشأت صاحب مصنع الورق، واتخذوا قصره سكناً لفاتن حمامة ويحيي شاهين، وناموا في حجرة نومه التي كان مكتبي فيها بعد أن تحولت بعد التأميم إلي مقر لإدارة المراجعة بالشركة، وجلس شكري سرحان ( الذي يقوم بدور شقيق فاتن) وزهرة العلا ( التي تقوم بدور شقيقة يحيي شاهين ) ، جلسا أمام القصر، يمدان سنارتين يصطادان بهما السمك من البحر.وكانت الممثلة شريفة ماهر ( التي قامت بدور غريمة فاتن حمامة ) ؛تمسك التليفون وتقول: " مصنع الورق الأهلي"، .ومثل عدد كبير من عمال الشركة في الفيلم . كان حسن نشأت رجلا داهية ، عاش في هذه المنطقة التي تجمع بين الريف والحضر معاً، وأقام علاقات ودية بين الأهالي، وكان يسير بينهم ، ويحدثهم، ويدعوهم للعمل في مصانعه الثلاثة .ويبيع لهم أجزاءً من أرضه، التي وهبها له صديقه فؤاد الأول، أو يهب لمن يشاء أرضاً مقابل أن يحرس مخازن ورق الدشت التي كانت تقام خارج المصنع.وكانوا يسمون المنطقة التي يمتلكها " عزبة الباشا " ويحكون إن حسن نشأت اشتري كمية كبيرة من القباقيب، وصرفها للعاملين في مصانعه الثلاثة، حتي لا يدخلوا إلي مصانعه حفاة . كنا - نحن الأطفال - في حينا ( غربال ) معظمنا حفاة، وقد ذهبنا للعب الكرة أمام الاستاد، في قطعة أرض مواجهة لمبني الإسعاف، كنا نرتدي البيجامات والجلابيب، حتي الذي جاء بحذائه أو شبشبه؛خلعه من أجل اللعب.وجاء بعض السياح، وجمعونا بملابسنا هذه ووجوهنا المتسخة من آثار اللعب والعرق، والتقطوا الصور لنا. وحذرنا زميل لنا أكبر منا قليلاً؛قائلا: - هذه الصورة ستسيء إلي مصر، سيأخذونها معهم، لكي ينشروها في صحفهم، ويكتبون تحتها هؤلاء هم أطفال مصر. كنا نمشي حفاة ونتلذذ بسخونة الأسفلت ؛خاصة في فصل الصيف. كانت القباقيب منتشرة في بيوتنا وبيوت معظم المصريين ، فتسمع دقات القبقاب فوق أسقف البيوت؛ خاصة المصنوعة من الخشب البغدادلي ، وفي كل مكان يقف بائع القباقيب، قطع الخشب علي شكل الأقدام، ويدق الرجل طوال الوقت ؛الجلد في مقدمة الخشب. والأغاني تتحدث كثيراً عن القباقيب، أغنية عبد العزيز محمود : " يا اسمر يا جميل"، والتي يقول فيها: يا اسمر يا جميل آه يا سمارة ، انت أمارة من السما جايه يا أبو الخلاخيل ياللي كعابك فوق" قبقابك " ورد في ميه. وتستخدم القباقيب بكثرة في الشجار بين الناس، فتسمع في عز الليل صوت رجل يصيح من الألم لأن زوجته ضربته بالقبقاب، أو أن تستخدمه النساء في شجارهن معا. وأذكر رئيس الشركة الذي كسر احتكار تجار ورق الدشت الكبار الذين يشترون من " السريحة " الذين يجمعون الورق من الشوارع ثم يبيعونه لشركتنا في بالات كبيرة مكبوسة وبسيارات نقل كبيرة ، فسمح لأي" سريح " بأن يأتي إلي الشركة بورقه، حتي ولو كان في " جونية " صغيرة، وحكي لي أحد التجار الكبار، من أن واحدًا من هؤلاء الذين يجمعون الورق من الشوارع، قد دخل " البنك" وهو حافي القدمين، ويرتدي قفطاناً من العبك، وجلس في انتظار دوره مع المنتظرين، وعندما لمح التاجر الكبير الذي كان يبيع له ورقه، ويتحكم فيه ؛أخرج الشيك من قفطانه المتسخ، وأخذ يهوي به، معلناً للتاجر الكبير بأنه أصبح مثله، يبيع للشركة رأساً، ويصرف من البنك مثله. وعندما قامت ثورة يوليو 1952 كان مستشفي حكومي قد أقيم علي شط ترعة المحمودية ، وقريب جداً من كوبري راغب باشا، وقد كانوا ينوون أن يطلقون عليه اسم ابنة من بنات الملك فاروق كما هو متبع في هذا الوقت ( كل الأشياء باسم الأسرة المالكة ) ، لكن الثورة قامت ونجحت، وأعلنت الجمهورية، فاطلقوا اسم " الجمهورية " علي المستشفي الذي كان مكونا من جزءين، الأول عبارة عن حمام شعبي، للرجال والنساء، والثاني مستشفي يعالج كل الأمراض، وأذكر نساء حارتنا وهن يسرن جماعات ذاهبات إلي حمام مستشفي الجمهورية، يحملن ملابسهن النظيفة التي سيرتدينها بعد الاستحمام، ثم يعدن ، وقد احمرت وجوههن من تأثير الماء الساخن والصابون ، وتعود كل واحدة وهي تحمل ملابسها المبتلة علي رأسها، ومعها المتبقي من الصابونة التي سلموها لها ، فقد كان المتبع في الحمام أن يأخذن ملابسهن المتسخة، ويغسلنها لهم. تم إلغاء الحمام بعد ذلك ، وضُم مكانه للمستشفي. كان بعض الرجال يصنعون الشباشب والصنادل من جلد عجل السيارات، أحدهم يجلس في شارع الخديو، يلصق ظهره في سور " مدرسة الدون بوسكو "، ويمسك مشرطاً يسلخ به قطع الجلد من العجل القديم بجواره، الشبشب بقرشين ولو دفعت ثلاثة قروش ونصف ، يحول لك الشبشب إلي صندل، قطعة جلد تلتف حول مؤخرة القدم، وأبزيم يحكم الصندل علي القدم، ذهبتُ مع صديق لي، صنع له الرجل الشبشب أمامي، ورغبتُ في أن أجرب هذا، رغم أنني لم أكن في حاجة إليه، فقد كنت أمتلك حذاء، ودفعت للرجل الثلاثة قروش والنصف، ولبست الصندل العجيب، التراب والعرق يلتصق به من أول لبسة له.ولا ينفع معه تنظيف. رحلة الحذاء في مصر ، ذكرتني بما حكته لي قريبة لي، جاءت من الصعيد كبيرة لتتزوج، قالت: - كانوا في الصعيد لو رأوا رجلا أو امرأة تحمل زجاجة " قازوزة " يسرعون خلفها في قلق وجزع متسائلين في لهفة: - مين العيان عندكم؟! فقد كانوا لا يشترون زجاجات " القازوزة " إلا للمرضي، ولديهم اعتقاد راسخ أنها تشفي من جميع الأمراض. وقد كنتُ ساهراً في بيت هذه السيدة لأستذكر مع ابنها، وجاءت أخت زوجها من الصعيد، كانت امرأة بيضاء ممتلئة ، تناولت طعاماً فيه لحم أبيض كثير، وهي تشكو من ارتفاع ضغط الدم ، ثم نامت ، وفي الصباح الباكر استيقظت من نومها فجأة وهي تضع يدها علي رأسها صائحة: - أغيثوني، رأسي تدق في عنف . فقالت لي صاحبة البيت: - شوف لها دكان فاتح، واشتر لها زجاجة قازوزة. وذهبتُ بالفعل، فوجدتُ محلا يسهر للصباح، اشتريتُ منه زجاجة قازوزة، وشربتها المرأة وصحت وزال عنها الألم ، ولا أدري للآن ما علاقة هذه الزجاجات بارتفاع ضغط الدم وعلاجه.