أثارت التغييرات الصحفية المنتظرة, العديد من العواصف, وأيقظت الكثير من المواجع النائمة, لتتحول من كونها تغييرات, إدارية ذات طابع قانوني, لأنقضاء الدورة القانونية لتولي رؤساء التحرير لمناصبهم مما يخول للجهة المالكة الحق في التمديد, أو تعيين أخرين مكانهم, إلي قضية تشغل الرأي العام. بأطروحات وأسانيد بات فيها الخلط واضحا بين الأماني والمصالح, حتي بات التصدي للقضية نوعا من المقامرة لكل صاحب رأي يؤمن بأمانة الكلمة, فما بين أمال وأحلام باصلاح هذا الكيان الشائه المسمي الصحافة القومية, والتي صيغت عبر عشرات من الأطروحات الجامعية, التي أكدت في مجملها ضرورة تحرير تلك المؤسسات من سيطرة الحكومة من خلال الغاء أواصر الملكية والادارة بين المؤسسات القومية والمجلس الأعلي للصحافة, باعتبار ان ذلك يمثل حجر الزاوية في اصلاح المؤسسات الصحفية والقيام بدورها الطليعي كقاطرة للتنمية, من خلال تنوير وتثوير الرأي العام. اذ أن قانون سلطة الصحافة سنة1980 وتعديلاته1996 المنظم لحالة المؤسسات الصحفية في مصر, يقنن سيطرة الحزب الحاكم تماما من خلال عدة مواد تعطي الحق للمجلس الأعلي للصحافة الذي يتشكل بدوره من الحزب الحاصل علي أغلبية مقاعد مجلس الشوري( الوطني) سابقا( الاخوان) حاليا في تعيين رؤساء مجالس الادارات, ورؤساء التحرير,6 أعضاء من مجالس الادارات أي50% تقريبا, نصف أعضاء الجمعية العمومية تقريبا, مما يضمن السيطرة الكاملة علي مقدرات صناعة القرارات التحريرية والادارية بتلك المؤسسات, فضلا عن الأشراف المالي والاداري علي تلك المؤسسات. وقد سبق أن حذرنا قبل انتخابات مجلسي الشعب والشوري2012, أن المنظومة التشريعية الحاكمة للاعلام القومي ستهدي هذه المنظومة الضخمة الي الفصيل السياسي الحائز علي الأغلبية ايا كان انتماؤه, مما سيؤدي حتما الي تكريس الوضع المأساوي لهذه المؤسسات, ويتغافل عن الاستحقاق الإعلامي لثورة يناير والمتمثل في صحافة حرة ومستقلة باعتبارها الضمانة الرئيسية لحرية الرأي والتعبير, إلا أن القائمين علي أمر البلاد, والمستفيدين من التشريعات المقيدة والمسيطرين بدورهم علي النوافذ الاعلامية, لم ينتبهوا سهوا أو عمدا لعل رياح الانتخابات تأتي بما تشتهيه مآربهم. ليستيقظ أصحاب القلم فجأة من سباتهم الذي استغرق عقودا علي مالك جديد, يطالب بتاجه وصولجانه في ظل سيادة قانون فاحش وفي اطار ممارسة أكثر فحشا. ولنزيد هؤلاء فخرا, ان الأمر تعدي ذلك إلي استئذان السيد الرئيس المخلوع في السماح لكاتب رأي معارض بالكتابة أسبوعيا في صحيفة يومية كبري. وقد نسي هؤلاء أوتناسوا, أن استئثار المخلوع بتعيين القيادات الصحفية كرس الولاء المطلق للتعيين وللاستمرارية في المنصب, حتي وصل الأمر برئيس تحرير صحيفة يومية كبري إلي تصدير جريدته يوم ميلاد المخلوع بمانشيت اليوم ولدت مصر من جديد في الوقت الذي كانت تشهد فيه البلاد احدي موجات الاحتجاج الاجتماعي. كما أفرزت ألية الرئيس المخلوع/ رئيس التحرير ظاهرة رؤساء تحرير مكافأة نهاية الخدمة, لتتراجع معايير المهنية إلي أسفل سافلين, اتساقا مع مجمل المشهد في عصر المخلوع, وليس أدل علي ذلك من أرقام توزيع تلك الصحف يندي لها الجبين, مما يجعلها نزيفا من الخسارة لتلك المؤسسات. أما عن الرقابة المالية والادارية التي تخلت عنها مجالس المخلوع الصحفية, وعهدت بها إلي الجهاز المركزي للمحاسبات, والتي تندرج طبيعة عمله علي متابعة الاجراءات والورقيات دونما الخوض في تطبيق المعايير المهنية التي ينبغي أن يخضع لها أي منتج صحفي من قبل صدوره, مثل دراسة الاحتياجات التي يلبيها, وشرائح القراء المستهدفة, ومصادر تمويله, وطبيعة الصحف المنافسة وغيرها من المحددات التي تؤطر شكل المنتج الصحفي ومضمونه. كنت أتصور وغيري من الباحثين أن تعلي الجماعة الصحفية من المصلحة العامة للمهنة ومستقبلها بدلا من الانخراط في جدل عقيم, واعلاء المصالح الانتخابية علي مصالح مؤسسات تنهار ووطن ينزف, من خلال تبني استراتيجية تهدف إلي تحقيق الاستقلالية, واعلاء قيم المهنية, مدركة متغيرات واقعها الذي اغفلته منذ منتصف التسعينيات والتي سمحت لمنظومة الاعلام الخاص مقروء ومرئي بالوجود كنتاج للتطورات التشريعية والتكنولوجية مما أرغم تلك المؤسسات القومية علي العمل في بيئة تنافسية وهي مكبلة في الوقت نفسه بقيود الولاء أولا وأخيرا, مما انعكس سلبا علي أدائها الاعلامي وهياكلها المالية والادارية. وذلك بعد ان نمت وترعرعت في كنف نظام هيأ لها احتكار السوق الاعلامية لأكثر من30 سنة, أحتكرت خلالها موارد العمل الاعلامي من التوزيع والاعلانات, فضلا عن الامتيازات والاعفاءات, التي عجز النظام في العقد الأخير عن ضمانها لها بفعل المساحات التي استولت عليها منظومة الاعلام الخاص الهادف للربح, من خلال الالتزام بمعايير المنافسة والمهنية, دون ضوابط أخلاقية تحترم عقل القاريء وتلبي احتياجاته الحقيقية. بعبارة أخري يجب أن يدرك صحفيو المؤسسات القومية أنهم أمام تحد حقيقي وليس مجرد تغيير قيادات بأخري, أو تغيير تيارات سياسية بتيارات أخري, بل تتطلب ادارتها فكرا علميا يتبني قيم المهنية والتنافسية ويضع نصب عينيه التزاماته الاخلاقية والوطنية والاجتماعية, حتي تستعيد الصحف القومية مكانتها المحلية والاقليمية التي هبطت إلي الحضيض. ويعمق من مأزقيتها إرثها الهائل من المديونيات التي تقدرها المصادر الرسمية بستة مليارات جنيه, فضلا عن التضخم الهائل في أجهزتها التحريرية والفنية والاداريه, وما يستتبع ذلك من التزامات مالية تثقل كاهلها, مما يدفع أجهزتها الأنتاجية إلي قبول أعمال بسعر التكلفة, بهدف تشغيل معداتها وأجهزتها الفنية فقط. وحتي ندرء عن أنفسنا التهم الجاهزة بالدعوة إلي خصخصة تلك المؤسسات, وغيرها من الشعارات المرفوعة زورا وبهتانا لتمرير مصالح فئة أقتاتت ونمت وترعرعت وفسدت وأفسدت من دماء هذا الشعب, الذي ما عملت ولن تعمل يوما لصالحه. فالخصخصة الأن في ظل الأوضاع الاقتصادية والمهنية المتردية لتلك المؤسسات, بما تملكه من امكانات تكنولوجية وبشرية كامنة, يتم تغييبها عمدا, تعني اهداء تلك المؤسسات علي طبق من ذهب إلي رأسمال أجنبي سيمرر مصالح لا يعلمها الا الله ويفتح الباب واسعا أمام سحل وتشريد المئات من الصحفيين والمئات من الاداريين. ومن ثم نقترح للخروج من هذا المأزق أن تبقي الملكية للشعب ويمارس حق الملكية عنه المجلس الأعلي للصحافة بشكل مؤقت علي أن يتم ايجاد صيغة لتحرير الادارة بالكامل وتخضعها للقواعد العلمية للادارة من الشفافية والمحاسبة وتدوير السلطة, بما لا يخلق أصناما جديدة, ويبعث الحياة في جسد أخشي أن يكون قد مات اكلينيكيا بالفعل. أما غير ذلك من التراشق وتبني اطروحات صراع الديكة بين مؤيد ومعارض للتغيير, الأول استفاد من الأوضاع المتردية والآخر يجدها فرصة لسرقة الصحافة القومية بالاكراه, فلا طائل من وراء ذلك الا مزيدا من الانحسار لمنظومة الاعلام القومي سيدفع ثمنه المواطن المصري الغائب في المعادلة الاعلامية المصرية.