من المؤكد أن مدرسة التحليل النفسي التي ظهرت في القرن التاسع عشر علي يد العالم النمساوي سيجموند فرويد لم تكن نقلة نوعية في مفاهيم علم النفس فقط بل ان ذلك كان له تأثيره الكبير عل فنون القص والرواية والمسرح في الفترة التي تلت انتشار افكار تلك المدرسة ومن المؤكد ايضا ان تلك الافكار بالتالي كان لها تأثيرها علي الفن الجديد الذي تلي تلك النظرية بعدة سنوات في نهايات القرن التاسع عشر وهو فن السينما إن العديد من تقنيات تعميق الشخصيات المعروضة علي الشاشة الفضية استند لكثير من مفردات التحليل النفسي, هذا بغض النظر عن نوعية الدراما التي تقدمها السينما في بدايات القرن العشرين وحتي وقتنا هذا إلا أن بعض كتاب السيناريو اهتموا بشكل أساسي بالدراما الداخلية التي قد تثار من رصد شخصيات ذات أبعاد نفسية مركبة, و من أهم تلك الأفلام فيلم برسونا الذي أخرجه السويدي انجمار برجمان عام1966. من تلك الأفكار والمفاهيم التي قدمت علي الشاشة الفضية وارتبطت بعلم النفس كانت إزدواج الشخصية ولعل فيلم نادي الملاكمةFightclub الذي أخرجه ديفيد فينشر في عام1999 كان واحدا من ألمع الأفلام التجارية التي قدمت في العشر سنوات الاخيرة, ويعد هذا الفيلم واحدا من الأفلام التي قدمت ذلك المرض النفسي بشكل مبالغ فيه لكنه ممتع في ان واحد من خلال قصة محبوكة ومتميزة. فيلم مارتن سكورسيزي الجديد Shutterisland يقدم خليطا من مادة درامية قوية ومسلية تسند علي تلك المفاهيم في التحليل النفسي ونظرية المؤامرة التي نقلت معلومات حول قيام بعض الأجهزة الاستخباراتية وبخاصة الأمريكية في الخمسينيات والستينيات بتدريب وبناء وسيطرة علي عقول بعض الأفراد بهدف جعلهم قتلة محترفين يقومون بعمليات الاغتيال بدون أدني خوف أو تردد كانت هناك العديد من الأفلام التي تناولت تلك الفكرة لعل أهمها في السنوات العشر الماضية سلسة أفلام بورن التي أخرجها دوج ليمان في الجزء الأول عام2002 والجزءان التاليان أخرجهما بول جرينجراس في عامي2004 و2007. فيلم شاتر ايلاند يبدأ علي ضابط شرطة فيدرالي, المرشال تيدي دانيالز( ليوناردو دي كابريو), يسافر إلي جزيرة صغيرة بالقرب من بوسطون وهذه الجزيرة لا يوجد بها سوي مستشفي كبير للمرضي النفسيين الذين يعانون من حالات متقدمة من المرض النفسي, ومنهم هؤلاء الذين ارتكبوا جرائم المشهد الأول في الفيلم علي متن العبارة التي تقل تيدي وزميله تشك( مارك رفالو) إلي الجزيرة للتحقيق في اختفاء مريضة وقاتلة تدعي ريتشل, من هذا المشهد الافتتاحي يسعي المخرج لأن يخلق لدي المشاهد نوعا من التساؤلات حول حقيقة ما يحدث فالحوار الذي يدور بين تيدي وتشك يبدو غريبا نوعا, زميلان من الشرطة يذهبان للتحقيق في اختفاء قاتلة ومريضة نفسية من هذا المستشفي الكبير ومن هذه الجزيرة النائية كيف يتعرفان لأول مرة علي متن العبارة وقبيل وصولهما للجزيرة إن هذا المشهد يبدو غريبا نوعا غير أن التتابع في الأحداث يكشف عن أن مقصد المخرج من هذا المشهد لم يكن تعارف الاثنين إنما خلق غموضا يتم تفسيره لاحقا في أحداث الفيلم فالسيناريو في شاتر ايلاند أو كما ترجم الجزيرة المغلقة يسعي لأن يقدم للمشاهد فيلما بوليسيا بالمعني الدرامي أي انه يخفي الحقيقة التي بنيت عليها النهاية بينما يظهر بعضا من تفاصيلها دون الأخر في مراحل مختلفة. ينقسم الزمن في الفيلم إلي فترتين زمنيتين في التاريخ السياسي الأمريكي والعالمي علي حد سواء, فنحن نفهم من سياق الأحداث أن تيدي كان مجندا في الحرب العالمية الثانية وكان من هؤلاء الجنود الذين اقتحموا أحد معسكرات الاعتقال النازية وشاهدوا الأهوال التي قام بها الجيش النازي ضد المعتقلين والزمن التالي هو زمن الخمسينيات في الولاياتالمتحدةالأمريكية وبدايات أسوأ فترة من ناحية الحريات السياسية مرت علي الولاياتالمتحدة, فالفيلم يلمح لأن تلك المنشأة النفسية أقيمت بدعم من لجنة الكونجرس التي يرأسها السيناتور جون مكارثي والتي كانت تسعي لأن تواجه أي نشاط شيوعي داخل أمريكا وكانت تعمل بشكل أقرب لمحاكم التفتيش الأسبانية في العصور الوسطي غير أن التساؤلات التي يقدمها سكورسيزي والمعلومات تقفز واحدة تلو الأخري في عقل تيدي ومن ثم في عقل المشاهد. فأولا كيف هربت ريتشل من حجرتها أو لنقل زنزانتها المحكمة وهي حافية القدمين؟ هذا هو السؤال الأول في الفيلم الذي يشرك فيه بطل الفيلم الجمهور وربما يعتبر بداية عملية للتحقيق الذي يجريه هذان المحققان الفيدراليان غير أنه في مرحلة لاحقة نكتشف ان غاية تيدي ليس الوقوف عن تلك الحادثة الغريبة وهي اختفاء ريتشل, بل أنه لديه رغبتان الأولي قومية وهي كشف مؤامرات الدراسات غير الإنسانية التي يقوم بها دكاترة علم النفس علي مرضاهم في هذه المنشأة والتي من الممكن أن تكون مدعومة من لجنة مكارثي, وتلك المعلومات كان تيدي قد حصل عليها من رجل يدعي جورج نويس( جاكي هالي) وهو النزيل الوحيد الذي استطاع أن يخرج من هذه المنشأة لكنه عاد اليها مرة أخري. من هو ليديس؟ هو السؤال الذي يتبادر لذهن المشاهد ليكتشف في مرحلة أولي في الفيلم أن هذا الرجل هو الذي قتل زوجة تيدي والتي كان يحبها كثيرا ليؤكد السيناريو من خلال الأحلام التي تراود البطل من أن لآخر أن ليديس يعيش في هذه المنشأة كنزيل. الفيلم بهذا الغموض يقدم تقنية بوليسية أقرب ما تكون إلي الفيلم نوار, أقرب وليست من نفس النوعية, من حيث الجو العام والإضاءة والغموض غير أن هناك العديد من العناصر التي تجاهلها السيناريو والتي تبعد الفيلم عن تلك النوعية البوليسية الشهيرة التي ظهرت في الأربعينيات من القرن الماضي فالفيلم لا يحتوي علي ال( فام فاتال) أوالعنصر النسائي صارخ الجمال ولا علي الشرطي الفاسد اللذين هما عنصران من أهم العناصر المشكلة للفيلم نوار. حتي ما يقرب من نهاية الفيلم, المشاهد لديه شعور خفي بنظرية المؤامرة التي يواجهها بطل الفيلم المارشال الفيدرالي الذي يبحث في جريمة اختفاء السيدة غير أن الدكتور كولي( بن كينجسلي) ينفي السبب الذي اتي من خلاله المحققان وهو الاختفاء بعد أن تعود ريتشل ولكن بدون أي إجابة عن كيفية ذهابها أو عودتها ويصبح المبرر الوحيد لوجود تيدي في المنشأة هو البحث حول شبهات الغموض التي تكتنف المكان, إلي أن نصل إلي الجزء الأخير في دراما الفيلم عندما تتعقد الخطوط كلها وتصبح رغبة تيدي المحمومة في اكتشاف الأبحاث والعمليات التي تحدث في الفنار بالقرب من الشاطيء هي العنصر الفاعل في الدراما هنا يقابل تيدي ريتشل الحقيقية وليست السيدة التي عادت إلي غرفتها زنزانتها إن ريتشل الحقيقية تؤكد له أنها لم تقتل أطفالها وأنها كانت طبيبة في تلك المنشأة واكتشفت الدراسات التي يقومون بها وأرادت كتابة تقرير عنها فواجهت مقاومة شديدة وصلت حتي تشويه سمعتها وبالتالي كان حلها أن تهرب من المنشأة, لان الهرب من الجزيرة مستحيل حيث ان إدارة المنشأة هي التي تتحكم في العبارة فإنها مضطرة لان تتحرك من كهف إلي آخر إلي الأبد. ربما تكون النهاية ليست بقوة بناء الفيلم ككل, خاصة أنها تقصف خيال المشاهد من البحث والتفكير حول المؤامرة التي تحاك في تلك الجزيرة لمنتهي الواقعية ولعل هذا ما يمثل احباطا للعديد من المشاهدين غير أن المهم في هذا الفيلم ككل هو البناء الذي قام به سكورسيزي والسيناريست علي حد سواء, فهو بناء يحتاج إلي التركيز الشديد من المشاهد إذ أن القصة الأساسية لا يتم سردها بشكل كامل طوال الفيلم بل تعرض منذ البداية في شكل مقتطفات بين الواقع والأحلام التي تواجه بطل الفيلم ضابط الشرطة تيدي, إلي أن تتجمع كل مفردات القصة التي توضح الخلفية الدرامية لتلك الشخصية.