شرعت أسواق المال العالمية تدلو بدلوها الاقتصادي في أعقد أزمة سياسية تعصف بالمشهد السياسي في مصر بعد الثورة ففي استطلاع أجرته صحيفة فاينانشيال تايمز أجمعت ثلة من بيوت المال العالمية. علي أنه بصرف النظر عن الفائز في الانتخابات الرئاسية المصرية, فإن الاقتصاد المحلي سيكون من أكبر الخاسرين فيها, وذلك جراء التوقعات بأن تطول الفترة الانتقالية الراهنة, واحتمال أن تشهد هذه الفترة مزيدا من التعقيدات السياسية والاقتصادية, مما يلقي بظلال كثيفة للغاية علي الأداء الكلي لاقتصاد الدولة المصرية التي تتمع بأكبر اقتصاد في شمال إفريقيا. فقد حذر بنك باركليز البريطاني, الذي تبلغ قيمة أصوله تريليونا ونصف التريليون جنيه استرليني, من أنه يتعين علي مصر سداد أقساط ديون تبلغ أكثر من ملياري دولار خلال ما قد يصل إلي أربعة أشهر. ومن المتوقع أن يتسبب هذا الأمر حسبما يري البنك في الضغط علي احتياطيات مصر الاستراتيجية النقدية المتهاوية أصلا, ومن ثم علي سعر صرف الجنيه الذي قد يخسر ما قد يصل إلي25% من قيمته خلال أشهر حسب تقديرات مجموعة سيتي جروب الأمريكية, التي تعد أكبر مؤسسة خدمات مالية في العالم,, والتي تبلغ قيمة أصولها أكثر من تريليون وثمانمائة مليار دولار. كما أن هذا الأمر والكلام مازال هنا لبنك باركليز قد يضغط علي البورصة المصرية التي خسرت أكثر من سبعة وثلاثين مليار دولار من قيمتها السوقية خلال العام الماضي فقط. الاحتياطيات والواردات أما مصرف رويال بنك اسكوتلاند البريطاني, الذي تبلغ قيمة أصوله أكثر من تريليون ونصف التريليون جنيه استرليني, فقد حذر من أن احتياطيات الدولة من النقد الأجنبي التي تهاوت بأكثر من50% بعد الثورة, لا تغطي واردات البلاد إلا شهرين ونصف الشهر فقط. كما حذر البنك من أن حجم هذه الاحتياطيات يقل عن حجم الالتزامات المالية الخارجية التي يتعين علي مصر تسديدها خلال الأشهر الاثني عشر المقبلة, التي تبلغ نحو17 مليار دولار. أما مؤسسة كابيتال إكونومكس المالية العالمية, فقد حذرت من أن الاقتصاد المصري قد لا ينمو بأكثر من1.5% خلال العام الحالي, وذلك بعد انكماشه بنسبة.8% في العام الماضي للمرة الأولي منذ ستينيات القرن المنصرم. هذا الأمر قد ينذر حسب مؤسسة كابيتال إكونومكس بمزيد من الانفجارات الاجتماعية التي قد تصل إلي حد اندلاع ثورة جديدة إذا ما فشلت المساعي الرامية إلي إصلاح الوضع الاقتصادي. أما مؤسسة ميرل لينش الأمريكية, التي تعد أكبر بيت سمسرة في العالم والتي تدير أصولا تبلغ قيمتها أكثر من تريليوني دولار, فتؤكد أن هناك ما يشبه الهروب الجماعي من السندات السيادية المصرية إذ تهاوي حجم الاستثمارات الأجنبية في هذه السندات أكثر من10 مليارات دولار في ديسمبر من عام2010 إلي300 مليون دولار فقط. العائدات السياحية لكن الاحتياطيات النقدية الأجنبية واصلت ارتفاعها للشهر الثاني علي التوالي حيث أعلن البنك المركزي زيادة صافي احتياطي النقد الأجنبي بنحو300 مليون دولار, أي بنسبة1.9%. وقد حدث ذلك خلال شهر مايو الماضي, لتصل قيمة هذه الاحتياطيات إلي15.5 مليار دولار مقابل15.2 مليار دولار في أبريل الماضي. وأرجع خبراء اقتصاديون ارتفاع الاحتياطي النقدي إلي ارتفاع العائدات السياحية, وقيام المملكة العربية السعودية بضخ3 مليارات دولار في صورة أموال سائلة, وشراء أذون خزانة وسندات مصرفية. كما يقول الخبراء: إن حصيلة الصكوك التي طرحتها الحكومة المصرية للمصريين في الأسواق الخليجية أسهمت في زيادة إيرادات البلاد من العملة الأجنبية. كما أسفر تحويل العراق لقيمة الحوالات الصفراء للعاملين المصريين البالغ حجمها500 مليون دولار, فضلا عن طرح أراض للمستثمرين المصريين بالخارج بالعملة الأجنبية, أسهمت أيضا في زيادة احتياطي النقد الأجنبي. ويشار في هذا الصدد إلي أن إجمالي ما فقده الاحتياطي النقدي الأجنبي لدي البنك المركزي المصري بعد ثورة25 يناير بلغ نحو21.6 مليار دولار. قطاع السياحة أما بالنسبة إلي قطاع السياحة فإنه من المتوقع حسب التقديرات الحكومية الرسمية أن يعود عدد السياح هذا العام إلي مستواه الذي كان عليه قبل الثورة الذي كان يدور حول14.5 مليون سائح قبل أن يهبط في2011 عقب الإطاحة بالرئيس المخلوع حسني مبارك, وإن كانت هناك تقديرات مستقلة تشكك في هذا الأمر. وتقول الحكومة: إن هناك بالفعل بعض علامات التحسن حيث ارتفع عدد السياح الذين وصلوا للبلاد بنسبة40% في الأشهر الأربعة الأولي من هذا العام مقارنة مع الفترة نفسها من العام السابق. ويذكر في هذا الصدد أن السياحة تشكل أكثر من( عشر) الناتج المحلي الإجمالي, أي قيمة ما ينتجه المجتمع المصري من سلع وخدمات في سنة, ويعمل فيها واحد من كل ثمانية عمال في مصر, التي كان ارتفاع نسبة البطالة فيها من العوامل التي سببت الثورة. وتقول وزارة السياحة: إن نمو أعداد السائحين ستدفع منتجات جديدة تعرضها مصر مثل إعادة تشغيل الرحلات النيلية من القاهرة إلي أسوان. وأوضحت الوزارة أن14.7 مليون سائح زاروا مصر في2010, وحققت السياحة12.5 مليار دولار, لكن العدد انخفض إلي9.8 مليون سائح في2011, وحققت السياحة في ذلك العام8.8 مليار دولار. من المتوقع أن تنخفض الإيرادات هذا العام مقارنة مع2010 نظرا لانخفاض أسعار الغرف منذ الثورة, وانخفض متوسط إنفاق السائح إلي72 دولارا في اليوم العام الماضي من قرابة85 دولارا في اليوم في عام.2010 ومن الجوانب الإيجابية أن أعداد السائحين القادمين من روسيا وأوروبا الشرقية ظلت علي مستوياتها حيث لم يتأثر هؤلاء بالاضطرابات التي تعصف بالمنطقة. معضلة الحكومة وتتمثل المعضلة المالية الكبري للحكومة في اضطرارها إلي الاقتراض بأسعار فائدة كثيرا ما تكون كبيرة لتمويل عجز الميزانية, وذلك بعد أن وصلت البنوك المحلية إلي طاقتها القصوي في الإقراض. وحتي الآن فإن الجنيه المصري مازال صامدا, إذ لم يتراجع إلا بنسبة4% بعد الثورة. لكن الاقتصاد الكلي للدولة نما بنسبة طفيفة بلغت ثلاثة أعشار في النصف الثاني من عام2011, لكن محللين يرون أنه انكمش العام الماضي لأول مرة منذ ستينيات القرن الماضي وسط الأزمة التي دخلت فيها البلاد بعد الثورة التي أطاحت بحكم مبارك في فبراير من عام.2011 وتشير التوقعات إلي أن الاقتصاد سينمو بنسبة3% تقريبا خلال2012, أي أقل من المتوسط الذي حققه خلال العقد الماضي البالغ5%. مخاوف المستثمرين وذكرت وكالة رويترز في تقرير لها أن قرار حل مجلس الشعب الذي انتخب بعد الإطاحة بالرئيس حسني مبارك في العام الماضي تسبب في انزعاج المستثمرين الذين يخشون أن تنزل مصر بسرعة الآن صوب أزمة في ميزان المدفوعات وانهيار عملتها. وأوضحت الوكالة أنه علي مدي نحو16 شهرا منذ انهيار حكم مبارك الذي استمر30 عاما تقلصت معدلات النمو في مصر صاحبة أكبر اقتصاد في شمال إفريقيا الي مستوي متدن, وتقصلت احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي إلي النصف, مما أضعف قيمة الجنيه المصري, وأربك الدائنين الخارجيين الذين يستحق علي مصر سداد مليارات الدولارات لهم علي مدي الأشهر المقبلة. وقد تسببت التوترات السياسية في تأخير المساعدات من صندوق النقد الدولي وإبعاد المستثمرين الأجانب, وفي الوقت نفسه تضخم العجز في ميزان المدفوعات المصري إلي11 مليار دولار في الأشهر التسعة الأولي من السنة المالية2012/2011, أي أكثر من مثلي مستوياته في العام الماضي. وذكر مصرف بنك أوف أمريكا ميريل لينش أنه من الصعب توقع أن يتشكل توافق سياسي وفي غيابه من الصعب توقع كيف يمكن الحصول علي دعم لسد الاحتياجات المالية الخارجية. وأدت أنباء قرارات المحكمة الدستورية العليا إلي ارتفاع تكاليف التأمين علي ديون مصر إلي أعلي مستوي منذ ثلاث سنوات, أي أن المستثمرين يضطرون لدفع مبالغ أكبر للتأمين علي استثماراتهم في ديون مصر. كما قررت وكالة فيتش: للتصنيف الائتماني, التي تقوم بتصنيف الديون السياسية لبلدان العالم, خفض تصنيفها للديون السيادية علي مصر درجة أخري, وأبرزت احتمالات اتخاذ قرارات أخري مماثلة خلال فترة تتراوح بين12 و18 شهرا مقبلة. وأوضحت الوكالة أنه أيا كانت النتيجة النهائية للأحداث في مصر فإن العملية السياسية وعملية وضع السياسات تعقدت, مما يرجئ التطبيق المحتمل لإصلاحات الاقتصاد الكلي الشاملة, والإصلاحات الهيكلية الضرورية لدفع الانتعاش, وتخفيف الضغوط التمويلية. وضع الجنيه وعلي الرغم من صمود الجنيه المصري حتي الآن فإن هذا الصمود بدا هذه الأيام وكأنه يترنح أو يكاد, إذ هبط سعر صرف الجنيه إلي أدني مستوي له في ثمانية أعوام ليستأسد عليه الدولار, ولتكسر العملة الأمريكية حاجز ستة جنيهات, وذلك للمرة الأولي منذ تعويم العملة المصرية في عام.2003 فالجنيه بدا وكأنه يواجه ضغوطا اقتصادية وسياسية أقوي من قدرة أي عملة علي الاحتمال, ضغوطا وصلت إلي حد تنامي جدل حول احتمال إفلاس الدولة ربما خلال أشهر. جاء ذلك بعد أن قفز الدين الداخلي إلي أكثر من تريليون جنيه كاسرا كل الخطوط الحمراء المتعارف عليها دوليا, وبعد أن تهاوي الاستثمار الأجنبي بأكثر من90%. هذا بالإضافة إلي تفاقم العجز في الميزانية, وتعطل جانب لافت من عجلة الإنتاج جراء حالة الغليان السياسي والعمالي التي تموج بها الدولة. هذا الغليان فاقم ما يعرف بظاهرة الدولرة في سوق الصرف الأجنبي, وهي الظاهرة التي تعني التحول عن شراء الجنيه إلي شراء الدولارات. ووصل الأمر إلي تحذير مصرف سيتي جروب الأمريكي من احتمال أن تهوي العملة المصرية بما قد يتراوح بين20% و25% خلال العام المقبل إذا ما ظل الحال علي ما هو عليه. ولكن في المقابل هناك شبه إجماع بين المحللين علي أن الثورة يمكن أن تكون في نهاية المطاف في مصلحة الاقتصاد المصري برمته, ومن ثم في مصلحة الجنيه شريطة خروج المشهد السياسي المحلي من عنق الزجاجة الراهن, ونجاح هذه الثورة في إرساء قواعد ديمقراطية ليبرالية سريعا, قواعد تطلق ما يوصف بالقدرات الخلاقة للمنظومة الاقتصادية في الجمهورية الجديدة الثانية للدولة المصرية.