مقهي, وانت مع الجريدة جالس, لا, لست وحدك, نصف كأسك فارغ والشمس تملأ نصفها الثاني, ومن خلف الزجاج تري المشاة المسرعين ولا تري( إحدي صفات الغيب تلك: تري ولكن لا تري). كم أنت حر أيها المنسي في المقهي, فلا أحد يري أثر الكمنجة فيك, لا أحد يحملق في حضورك أو غيابك, أو يدقق في ضبابك إن نظرت إلي فتاة وانكسرت أمامها. هكذا عبر الشاعر محمود درويش في قصيدته مقهي وأنت مع الجريدة عن روح المقهي وعن تأثيرها في الانسان بما تعطيه من حرية يكون لها تأثير خاص علي المبدع, ولم يكن درويش الوحيد الذي اهتم بالمقهي فلم يغفل الكاتب والروائي جمال الغيطاني في كتابه ملامح القاهرة في ألف سنة ان يتحدث عن المقاهي خاصة التي كان يرتادها نجيب محفوظ وتأثير المقاهي علي المبدع أمر مختلف خاصة في القاهرة التي تمتاز بمذاق خاص فكتب عنها المستشرق الانجليزي إدوارد وليم لين, في كتابه المصريون المحدثون بعد أن عاش في مصر في مطلع القرن التاسع عشر, كما جاء في كتاب وصف مصر الذي أعدته الحملة الفرنسية جزء خاص عن المقاهي. وتأثير المقهي امتد علي مر تاريخ مصر فيقول الفنان ماهر شريف كثيرا ما لعبت المقاهي أدوارا تجاوزت إلي حد بعيد وظيفتها الأولي وهي استقبال الرواد الراغبين في تمضية بعض الوقت حول فنجان قهوة أو كوب من الشاي. ولعل دور المقهي الثقافي كان من أبرز هذه الأدوار المضافة علي الوظيفة الأساسية, حتي أن بعض المقاهي دخل عالم الأدب والثقافة بفعل رواده الذين من خلال طغيان حضورهم علي حضور غيرهم, حولوا هذه المقهي أو تلك إلي مكان أقرب إلي المنتدي أو المكتبة العامة, منه إلي المقهي. وعلي هذه الخلفية للمقهي قررت مكتبة أكمل مصر بالاسكندرية أن تقدم ندوات عن المقهي والمبدعين بعنوان الطاحونة وهو اسم المقهي الذي بدأ فيه جابرييل جارسيا ماركيز حياته الأدبية, وتقدم من خلاله رصد تجارب شخصية لبعض الفنانين كان للمقهي الدور الرئيسي فيها, في محاولة لتقديم تفريعة أكثر خصوصية في إطار المقهي, يشارك في تلك التجربة الفنان التشكيلي هاني المصري, والفنان علي عاشور, ويدير النشاط المخرج أحمد السمرة, ويصاحبها عرض لأعمال الفنانين المشاركين والتي تعبر عن تأثرهم بفكرة المقهي. يقول الفنان علي عاشور المقهي منذ زمن يمثل مركزا للحياة في التجارة والتواصل ولقاء المبدعين, تاريخا ثقافيا وأدبيا مع المقاهي تصاحبه ذكريات مدهشة, لانه بالنسبة للمبدع مكان يطل من خلاله علي العالم أو منظور يراقب منه الحياة من حوله, ويكون موجودا في وسط الناس مما يضيف له الكثير, وأنا عن نفسي تنقلي من واحدة لواحدة أثر في تجربتي, فكيف يبدع الفنان في الكتابة أو الرسم وهو في برج عال لابد أن يتواصل مع الشارع والأحداث, فمثلا المقاهي في باريس لها أهمية كبيرة يجلس عليها كبار المبدعين, كما أن المقاهي في الاسكندريةوالقاهرة لها تاريخها المعروف. وتذكر عاشور موقفا يدل علي تأثير المقهي في الابداع قائلا جاءني كاتب قصة من الشباب ومعه قصتان وبعد قراءتهما قلت له انه كتب الأولي في مكان مغلق والثانية في وسط الناس, وهذا لأن المقهي يضفي علي النفس شيئا من الحيوية ويضفي ظلاله علي العمل, هناك فرق ليس ملحوظا لكن حيوية الكتابة ومذاقها يتأثر, فالتوحد مع النفس للإبداع غير كاف ولابد من التواصل الذي يعطي التجربة شيئا أغني, فيذهب المبدع لمعمله ومعه مادة خام حية للكتابة, فأنا جلست مع نجيب محفوظ مرتين في السبعينيات وكانت المقهي بالنسبة له طقسا يوميا ومهما, كما أن الكاتب الساخر محمود السعدني له تاريخ مع المقاهي, لم يبدع أو يرسم أحد غيره وهو هناك علي المقهي, وأنا عملت معرضين من بورتريهات رسمتها في المقهي عرضت في باريس وجنيف كانت بهما جرأة في الألوان وفي وسط الناس مما زادني خبرة.