إنها مصر, التي كافح المصريون من أجلها علي مر العصور, مصر إمحوتب وحسن فتحي, سنوحي ومجدي يعقوب, إبن الهيثم وزويل, مصر إبوير ونجيب محفوظ. إن الزائر لشارع المعز بالقاهرة القديمة, إنها مصر التي ما أن يذكر اسمها لأي إنسان في أي مكان في العالم, إلا ورأيت عينيه تلمعان ببريق خاص, وكأنهما تستحضران التاريخ كله في لحظة, ليتدفق منهما في لمحة تطل به علي ذاته وكينونته حين بدأ يحبو نحو الحضارة في تلك الجغرافيا الفريدة التي صنعت التاريخ. فأنت إذا نظرت إلي تلك الجغرافيا في عصور ما قبل الأسرات وحتي الآن لوجدت اعراقا شتي صنعتها أو جاءت بها أقدم حدود عرفتها الإنسانية, أفارقة نوبيون من الجنوب, وأمازيغ حاميون من الصحراء الغربية اللوبية, وساميون من الصحراء الشرقية العربية ومن سيناء وسوريا, وشعوب البحر من الشمال المتوسطي, والنيل يمر بهؤلاء جميعا, ليهبهم مصر فتهبهم بدورها إلي العالم اطباء ومعماريين وفلاسفة وأدباء وكهنة. ليخرجوا إلي الإنسانية حضارة كبري, إن لم تكن الأولي, فهي بالتأكيد الأسمي والأسمح والأبقي أثرا. إن تلك الابتسامة القانعة الراضية الأبدية علي وجه المصري حتي في ظل أحلك الظروف, والتي هي أول ما يقابل زائري مصر وآخر ما يراه مودعوها, هي إرثه الحضاري الكامل يقدمها لضيوف مصر, لا إكراما لهم ولا حسن ضيافة فقط, وإنما تاريخ طويل من تسامح وسماحة الثقة, تراه في مصر القديمة بأهراماتها ومعابدها وبردياتها تماما كما تراه في مصر الحديثة بمآذنها وكنائسها وفنونها, إنه يثق في حاضره ومستقبله تماما كما يثق في تاريخه وتقاليده. فالمصري يمشي بظلاله كلها معه, التي خلفه والتي تحت قدميه والتي أمامه, تماما كشموس الصبح والظهيرة والغروب عند المصري القديم خبري ورع وآتوم, فهو لايتخلي عن ماضيه ولا يتوقف عن تغيير حاضره ولا عن إبداع مستقبله. مصر هي المحافظة دائما والمجددة دائما في آن واحد, تغير لغتها مرارا, ولكنها تحفظها جميعا في عاميتها الفريدة كحجر رشيد ناطق. تتعدد بها المعبودات, لتتوحد, لتتنوع عقائدها من يهودية إلي مسيحية إلي إسلام, ولكنك تري المعبد والكنيسة والمسجد في حيز واحد بل وفوق بعضها البعض احيانا, تتوافد عليها الحضارات, إغريق ورومان وعرب, فتحمل قراها ومدنها نفس معاني الاسماء مع كل وافد. أبوصير, صا البحجر. نقادة, البداري, منف. طيبة. تل العمارنة, الإسكندرية, بابليون, القاهرة, منارات ربما لم يتأت لوطن آخر أن يخرج هذا الكم من الحواضر التي أثرت التاريخ الإنساني علي مدار العصور في شتي فروع المعرفة والثقافة والعمران. إنها مصر, الحاضرة دائما, والفنانة دائما, قبلة المستشرقين, التي إن تأملتها في واحدة من الرحلات النيلية الشهيرة, لفتنتك تلك البانوراما الفريدة التي تجمع الماء والخضرة والصحاري في لوحة واحدة, الخصب والجدب يلتقيان كالتقاء الحياة والموت علي ضفتي النيل الخالد, ليضيفا للفلاح المصري البسيط ثقة علي ثقة, ثقة في الحياة وثقة في الخلود, فتجده يكد في حقله لينعم بالخلود في حقول البارو السرمدية الأبدية مع زوجته وأولاده وأنعامه, جنة في الأرض وجنة في السماء, فيشيد لهما حصونا للقيم والأخلاق الإنسانية الرفيعة, تصل جب ب توت, الأرض بالسماء. إنها مصر, التي كافح المصريون من أجلها علي مر العصور, مصر إمحوتب وحسن فتحي, سنوحي ومجدي يعقوب, إبن الهيثم وزويل, مصر إبوير ونجيب محفوظ. إن الزائر لشارع المعز بالقاهرة القديمة, حيث ولد وتعلم نجيب محفوظ بحي الجمالية, سوف تلاحقه علي الفور تلك الابتسامة المصرية الحميمة الواثقة, وسوف يدرك معها تلك السماحة الفائقة التي تميز هذا البلد الرائع, حيث المعبد والكنيسة والمسجد متجاورة متلاصقة, تماما كما يراها بطيبة( الأقصر) علي بعد مئات الكيلومترات من القاهرة, وكما يطالعها في رواية نجيب محفوظ الأشهر حكايات حارتنا. وإذا مشيت قليلا إلي خان الخليلي في رحاب مسجد الحسين والجامع الأزهر وأدركت مقهي نجيب محفوظ الذي سمي باسمه, وجلست لتطالع رائعته مفتاح طيبة, سوف تدرك سماحة المصري والمصريين تجاه أعدائهم أيضا, فهاهو أحمس طارد الهكسوس من مصر لايستطيع أن ينسي حبه للأميرة الهكسوسية ابنة عدوه. إنها تلك الثقافة السمحة المستنيرة التي تجعلني أقول دائما بأن الشرف كل الشرف, والفخر كل الفخر, أن تكون مصريا. أين ذهب كل هذا الحب الذي جمع المصريين وألف بين قلوبهم علي مدار تلك العهود الطوال, وكيف لشعب يحمل في تراثه كل تلك الجينات الثقافية والمعرفية أن يصل إلي الحال الذي وصلنا إليه الآن من بغضاء وتشاحن وتخوين وإقصاء وعنف, وقد كنا نأمل في عهد جديد تطل به مصر علي العالم بعد تلك الثورة العظيمة وذلك المشهد الحضاري الرائع, وإذا بنا وقبل حلول عام علي مولد الثورة نطل علي العالم بحريق المجمع العلمي المصري, وما كان أحوجنا إليه وإلي كنوزه المعرفية لندشن بها انطلاقة جديدة بعد تجريف علمي ومعرفي طال أمده بنا, أبخس العلم وجهل المعارف وقبح الجمال؟ وكان الأمل كل الأمل في الحب وإذا به قد تبدل مقتا وغضبا. لا بأس, أملنا في تلك الطاقة الشبابية المتفجرة, التي إذا ما أحسن توظيفها واستخدامها إيجابيا, لاستطعنا أن نصف مصر من جديد, نصفها كما كانت, عزيزة, أبية, متطلعة, محبة ومحبوبة, فانصفوا هؤلاء الشباب, دربوهم, وافتحوا أمامهم الآفاق ومكنوهم تصفو لكم مصر صفة ووصفا.