لقد خسر الليبراليون الكثير, لا لتشنجهم أو بعدهم عن الشارع الانتخابي فقط, وإنما لتناقض خطابهم الديمقراطي الذي يطلب الديمقراطية من جانب, ويحتكرها لنفسه من جانب آخر لم تبرد الصناديق الانتخابية إلا وبدأ جس النبض, وجس النبض المضاد, بين الديمقراطيين والإسلاميين, وبدأ الإعلام الليبرالي الهوي في اصطياد وتصيد بعض رموز الإسلام السياسي ذات الهوس الإعلامي التي تتميز بسطحية التناول, وسذاجة العرض, بهدف إظهار الإسلامي السياسي عموما في صورة لا تختلف كثيرا عن الصورة النمطية التي يروج لها بعض أروقة الإعلام في الغرب, ومع هذا فالأمر لا يخلو من غرابة تستحق وقفة مبدئية مع الإسلام السياسي بهدف التعارف لا التشويه, وحتي لا تتعقد الأمور بيننا في المستقبلا. أولا: من الملاحظ تعمد الخلط بين السلفيين والإخوان من الجانبين, فالسلفيون معروفون بأنهم الأكثر تشددا وشكلية, مما يدفع الإعلام المتصيد إلي استخدامهم في الترويج السلبي للإسلام السياسي, والإخوان أيضا لم يكلفوا أنفسهم جهدا في إيضاح الفوارق, ربما لحسابات سياسية, وربما لاستخدامهم للسلفيين كمخلب قط بالوكالة لجس النبض والمزاج العام تجاه طروحاتهم دون أن يظهروا مباشرة علي الساحة, مكتفين بإظهار الجانب الذي يبدو متسامحا منهم في صورة إقرارهم بالقوانين الوضعية فيما يتعلق بالحياة اليومية مثل قوانين المرور والتجارة والصناعة التي لا تخالف الدين, تاركين الغلو والتشدد للسلفيين بدءا من وصفهم الديمقراطية الغربية التي أتت بهم إلي البرلمان علي أنها كفر, ومرورا بهجومهم علي حرية الإبداع كنذير لتدخلهم لاحقا في لإبداع اللائق دينيا من عدمه, وانتهاء باستخدام الاستثناءات كالشذوذ, أو الزنا, أو شرب الخمر علي تفاوت عقوباتها الدينية من وجهة نظرهم كمنطلق مزدوج يهدف لإظهار الليبراليين علي أنهم زنادقة, ويؤسس أيضا لاستخدام الشريعة في مرحلة لاحقة, لا كمصدر أساسي للتشريع, وإنما المصدر الوحيد. البشائر إذن كلها توحي بالبدء في جس نبض الجماهير نحو تحويل تفويضهم السياسي للإسلاميين إلي تفويض ديني أيضا, واستشعار رأيهم عن بعد في الوضع التشريعي للبرلمان, والإيحاء بمدي تشريعي أوسع نطاقا تمهيدا لإدخال كل من الدين والشرع والتشريع في بوتقة واحدة يختلط فيها الحابل بالنابل, يصبح التشريع البرلماني معها في مرحلة لاحقة نافذ الأمر أولا, ويحاصر التشريع ثانيا بما لا يتعارض مع شرع الله من وجهة نظرهم طبعا, أي أنه ببساطة جس نبض لمقدمات احتكار تشريعي قادم. وكل تلك المقدمات إن صحت فإنها لا تنذر فقط بالخطر, وإنما تشي بسذاجة الطرح الذي لا يختلف في سذاجته عن التناولات الإعلامية شديدة السطحية للإسلام السياسي, ومصدر سذاجته في أنه يتنافي مع كل منطق, ديني أو فكري, لأنه يفترض بدءا أن فهم البعض للدين هو الفهم الصحيح والمطلق, ويفترض أيضا أن النيابة البرلمانية هي بمثابة تفويض دائم في التشريع لا نقض عليه ولا إبرام, وكذا يفترض امتلاك الحق في إعادة تشريع ما هو مشرع بالفعل ومستقر في الوجدان الجمعي للأمة التي يعبر عنها دستور لا ينفرد المشرع البرلماني به هذا أولا, ولا يعطي الحق حتي للمشرع الدستوري أن يشرع إلا علي مشترك جامع لا علي مفرد خلافي, ويصبح حتي وإن استفتي عليه الشعب وأقره مطعونا عليه, لأنه اعتمد في تشريعه الدستوري أو البرلماني علي الإقصاء لا المقاربة. لقد خسر الليبراليون الكثير, لا لتشنجهم أو بعدهم عن الشارع الانتخابي فقط, وإنما لتناقض خطابهم الديمقراطي الذي يطلب الديمقراطية من جانب, ويحتكرها لنفسه من جانب آخر, ويبدو أن الإسلاميين إن صحت تلك المقدمات كلها يرتكبون الإثم ذاته, فهم جاءوا أو أوشكوا علي المجيء في البرلمان بأغلبية مريحة باستخدام وسائلها القياسية العالمية, ثم ظهروا وكأنهم يريدون الانقضاض عليها وتلفيقها لصياغة ديمقراطية مصرية كما يدعوها البعض منهم بهدف احتكارها, ولأنني كنت من الليبراليين القلائل الذين لم يتناقضوا مع أنفسهم وأيدوا حقوق الإسلاميين في الوصول إلي الحكم إن جاء بهم الشعب في عمومه, فإنه قد وجب علي لفت انتباه الإسلاميين إلي أنه إن كان التدين المجتمعي مأربهم, فإن قضيتهم خاسرة, لا فقط منطقيا أو فكريا, وإنما دينيا أيضا, وأدعوهم إلي أن يتعلموا من أخطاء غيرهم الذين ما أن بدأت بشائر مجيء الإسلاميين إلا وانهالوا علي الشعب المصري يتهمونه بالجهل تارة, وبالسذاجة تارة, وها هم الإسلاميون يبدون وكأنهم يقترفون الخطيئة نفسها, ويفترضون أن هذا الشعب الساذج قد جاء بهم لتدينه لا لتدينهم الذي يوحي في طياته بالعدل والحرية اللذين طال انتظار الشعب لهما, وتوسم فيهم خيرا لإصلاح البنية الاقتصادية والمجتمعية التي أفسدها الدهر, فإذا بهم يظهرون وكأنهم يستخفون به, وإن صح هذا فهم وحدهم السذج والواهمون, والأخسرون أيضا كسابقيهم من جهابذة الليبرالية, ألا هل بلغت, اللهم فاشهد.