يحلو لكثير من أعداء يوليو وصفها حتي اليوم بأنها كانت انقلابا عسكريا قاده هؤلاء الضباط الشرفاء احتجاجا علي فساد القصر, بينما تؤكد الوقائع علي الأرض أن ثورة يوليو كانت في حقيقتها بمثابة طوق نجاة ألقي به الضباط الأحرار, لانتشال مصر. يذهب كثير من الفلسفات القديمة إلي حقيقة شبه مؤكدة, تقول ان الحوادث التاريخية تسير في نظام صارم, تترتب فيه العناصر علي نحو يكون فيه كل عنصر منها متعلقا بغيره ومرتبطا به حتي إذا عرف ارتباط كل عنصر بغيره أمكن التنبؤ به أو إحداثه, فهل كان من قبيل المصادفة إذن أن تنادي ثورة الخامس والعشرين من يناير, التي اندلعت شرارتها مع بداية العام الحالي, بالمباديء نفسها التي نادت بها ثورة يوليو, رغم مرور59 عاما علي قيام الأخيرة ونحو أربعين عاما علي إسدال الستار علي تلك الحقبة المجيدة من التاريخ المصري الحديث؟ الماركسيون وكاتب هذه السطور ليس ماركسيا يقولون بما يشبه الجزم ان التاريخ لايعرف المصادفات, فهل يمكن أن يكرر نفسه؟ بمعني آخر: هل كان من قبيل المصادفة, أن يخرج ملايين المصريين في25 يناير الماضي للمطالبة بالخبز والحرية والكرامة الإنسانية, في ظروف بدت شديدة الشبه, الذي يصل إلي حد التطابق, مع ما كانت تعيشه مصر في السنوات القليلة التي سبقت ثورة1952 التي تحل ذكراها بعد أيام؟ المؤكد أن أحدا لا يملك علي وجه الدقة إجابة شافية عن مثل هذا السؤال الآن, لكن قراءة متأنية لما شهدته مصر خلال السنوات الأخيرة من حكم مبارك, ربما تكون كافية للدلالة علي ذلك التشابه الرهيب بين ما كانت تعيشه البلاد في نهايات حكمه, ونهايات حكم فاروق آخر ملوك الأسرة العلوية, فقد تآكلت الطبقة الوسطي التي نجحت ثورة يوليو في بنائها( اجتماعيا وثقافيا وسياسيا) بفعل العديد من القوانين والسياسات التي انتهجها النظام السابق, وهي نفسها السياسات التي أدت في السنوات العشر الأخيرة إلي انفجار العديد من الأزمات الاقتصادية, وما صاحب هذه الآزمات من اضطرابات اجتماعية وعمالية, شهدت ميلاد العديد من الحركات الاحتجاجية الموجودة علي الساحة الآن, وفي مقدمتها حركة6 إبريل التي ولدت علي أرض الواقع كحركة سياسية احتجاجية, في إضراب عمال المحلة الشهير في عام2008. ويحلو لكثير من أعداء يوليو وصفها حتي اليوم بأنها كانت انقلابا عسكريا قاده هؤلاء الضباط الشرفاء احتجاجا علي فساد القصر, بينما تؤكد الوقائع علي الأرض أن ثورة يوليو كانت في حقيقتها بمثابة طوق نجاة ألقي به الضباط الأحرار, لانتشال مصر من فوضي اجتماعية واقتصادية وسياسية طاحنة, فما قدمته هذه الثورة المجيدة في غضون أسابيع قليلة من قيامها, كان يؤكد بامتياز هويتها كثورة حديثة تستهدف رد اعتبار فقراء هذا الوطن, في ثورة قادها الجيش والتف حولها الشعب, بعدما وجد أنها تعبر في مبادئها الستة عن أحلامه وطموحاته. وربما تكفي قراءة سريعة لما أنجزته ثورة يوليو في أيامها الأولي ليس فقط للدلالة علي قوة هذه الثورة وعنفوانها, وإنما للدلالة أيضا علي عمق توجهاتها الاجتماعية والسياسية, ففي خلال خمسة وأربعين يوما صدرت قوانين الإصلاح الزراعي(9 سبتمبر1952) التي وزعت الأراضي علي المعدمين من الفلاحين, وقد لعبت هذه القوانين والسياسات التي انتهجتها الثورة تاليا, دورا كبيرا في انخفاض نسبة الأسر المعدمة في الريف المصري, من44% في عام1950, إلي28% في غضون سنوات قليلة, قبل أن تعود النسبة إلي الارتفاع خلال حقبة السبعينيات, لتستقر من جديد عند47% علي مشارف ثورة يناير. لم يكن غريبا إذن أن يقرر ثوار يوليو في نفس الشهر, تخفيض إيجارات المساكن بواقع15% للمباني التي انشئت في الأربعينيات, وأن يعلنوا في نهاية الشهر التالي إنشاء المجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومي, وتعطيل بورصة عقود القطن, وقد كان هذا القرار يستهدف وعلي نحو عاجل القضاء علي سطوة الوكالات التي كانت تشتري الإنتاج حينذاك من الفلاحين, ثم تبيعه لحسابها وتمنحهم جزءا يسيرا من أرباحها, وقد ظل هذا الإغلاق ساريا لمدة ثلاث سنوات تولت الحكومة خلالها المهمة, قبل أن تعيد افتتاح هذه الوكالات فيما بعد بسياسات جديدة تضمن حدا أدني للأسعار. ألغت حكومة الثورة بعد ثلاثة أشهر الفصل التعسفي للعمال, وأنشأت صندوق التأمين والادخار, والذي تحول في وقت لاحق, إلي مؤسسة شاملة للتأمين ضد الشيخوخة والوفاة والعجز وأمراض المهنة, وقررت إعفاء الشركات المساهمة وشركات التوصية من الضرائب علي الأرباح لمدة سبع سنوات لتشجيع رأس المال الوطني علي المساهمة في التنمية وتوسيع فرص العمل, ومع بداية العام الأول لها, وتحديدا في أكتوبر من عام1953, أنشيء المجلس الدائم للخدمات العامة لوضع الخطط الرئيسية في التعليم والصحة والعمران, وأنشيء المعهد القومي للبحوث الذي تحول فيما بعد إلي المركز القومي للبحوث, وقد تفرعت منه في وقت لاحق العديد من المعاهد المتنوعة مثل معهد بحوث الصحراء ومعهد علوم البحار والمصايد وغيرها من المعاهد المتخصصة, وفي سبتمبر من نفس العام تشكلت محكمة الثورة, التي مثل أمامها رموز الفساد بداية من إبراهيم باشا عبد الهادي, رئيس الوزراء الأسبق, مرورا بضباط البوليس الذين تآمروا علي الفدائيين في منطقة القناة, وكتبوا فيهم التقارير إلي قوات الاحتلال والسراي, وليس انتهاء بصغار المستخدمين في معسكرات الجيش الإنجليزي, فحسمت بذلك ما تبقي من أمورها, وعرفت الصديق من العدو لتمضي في طريقها نحو بناء دولة عصرية حديثة, وقد أخفقت يوليو في هذا الطريق حينا, لكنها انتصرت في أحيان كثيرة, ما يجعلها واحدة من أهم الثورات التي شهدتها مصر في عصرها الحديث والقديم علي حد سواء. إنها ليست مقارنة بين ما جري وما يجري الآن في مصر بعد59 عاما, فلكل ثورة إنسانية ظروفها التاريخية والموضوعية التي تحدد مسارها وهويتها, لكنها دعوة فقط للاستفادة من دروس تاريخ لايعرف المصادفات.