يزعم كاتب هذه السطور أن لديه حلولا سحرية لهذه المعضلة. ولكنه يدعو جميع القوي الحريصة علي الديمقراطية المصرية الناشئة إلي صياغة ميثاق شرف أو مدونة سلوك للحياة الحزبية لا تسمح للمال بأن يصبح المتحكم الأول في قنوات التأثير في الرأي العام. لالا يدخل المواطنون عالم السياسة من باب القناعات الأيديولوجية, وإنما يدخلونها أساسا من بوابة المصالح الاجتماعية للأفراد والجماعات. وإذا كان العمل الحزبي هو بالأساس عمل تطوعي يقوم علي قناعات سياسية وفكرية عند قيادات وعضوية الأحزاب, فإنه في الوقت نفسه عمل مكلف يحتاج إلي ميزانيات مالية كبيرة إذا أريد للحزب أن ينتزع مقاعد في المجالس المنتخبة أو أن يكون قوة تأثير إعلامية واجتماعية في الشارع. فحتي في بلاد الغرب الرأسمالية المتطورة تلعب الأموال دورا كبيرا في تعبئة الرأي العام لصالح مرشحي الأحزاب. بل إن الحزبين الكبيرين في الولاياتالمتحدة يفضلان المرشح الحزبي القادر علي جمع أكبر كميات ممكنة من التبرعات المالية والعينية. وإذا امتلك الحزب بحبوبة مالية فإنه سيستطيع القيام بحملات إعلامية ضخمة وتوظيف عدد معقول من الموظفين والمستشارين, فضلا عن الانفاق علي المطبوعات والمقرات والانتقالات والاتصالات والتكنولوجيا الحديثة. وإذا نظرنا إلي الأحزاب المصرية اليوم سنجد الحزب الوطني الذي تبخر واستفاد استفادة هائلة وغير مشروعة من الامكانات الحكومية.. هذا الحزب يحاول الآن العودة إلي الساحة تحت مسميات حزبية جديدة مستغلا ما تراكم لدي اساطينه في الماضي من ثروات خيالية تستخدم الآن في شراء مساحات الإعلام واستئجار البلطجية.. وإن قلت امكانات فلول الوطني بالطبع في استغلال الخدمات الحكومية لتقديم الرشاوي السياسية وشراء الولاء.. أما الأحزاب الليبرالية الجديدة والقديمة فهي تعوم علي ثروات هائلة هي الأخري, تحققت في الداخل والخارج, ولديها الآن العديد من الصحف والفضائيات والمواقع المتطورة علي الانترنت, ومن ثم تستطيع أيضا الانفاق بسخاء علي مؤتمراتها وتحركاتها.. والجديد في الساحة السياسية المصرية اليوم هو تلك الأعداد الوفيرة من الجماعات والأحزاب ذات المرجعيات الدينية التي تبين أن امكانات الانفاق لديها تفوق الجميع دون مبالغة.. فهي تملك مشروعات ومصالح اقتصادية ضخمة في الداخل والخارج.. فضلا عن قنوات للتبرع غير خاضعة لرقابة مجتمعية جدية.. وتستطيع الانفاق علي أنشطة تقوم بها أعداد كبيرة من الدعاة والمحرضين والمنظمين والإعلاميين.. حتي وإن عمل الكثير منهم علي سبيل التطوع. أما الأحزاب اليسارية والناصرية فهي في وضع مالي شديد البؤس لأنها بالدرجة الأولي أحزاب للفقراء ومحدودي الدخل. وإذا كان لديها عدد لا بأس به من النشطاء المتطوعين فإن هذا لا يكفي لمجاراة الانفاق الباذخ علي الأنشطة الدعائية لليبراليين والإسلاميين. وبعد ثورة25 يناير دخل إلي عالم السياسة, بل عالم الحزبية أيضا, أعداد هائلة من الشباب الذين لا يملكون أموالا بالطبع, إن لم يكن معظمهم بلا عمل أصلا. ومن أجل هذا ثاروا. فقد اكتشف هذا الشباب انه استطاع انجاح الانتفاضة في الشارع, ولكنه لا يستطيع وضع الثورة في السلطة. ولذلك أسباب كثيرة بالطبع, ولكن المشكلة التي سيستحيل علي الشباب حلها هي مشكلة الانفاق علي أنشطة إعلامية وتنظيمية مستديمة.. وهذا ما أدركته جيدا قوي عديدة في الخارج فسارعت إلي محاولة الدخول إلي الشباب الثائر من باب التدريب وتمويل بعض الأنشطة. ولكن الوعي العام للشباب المصري الثائر لايزال صامدا في وجه هذه المحاولات الخبيثة. لا يزعم كاتب هذه السطور أن لديه حلولا سحرية لهذه المعضلة. ولكنه يدعو جميع القوي الحريصة علي الديمقراطية المصرية الناشئة إلي صياغة ميثاق شرف أو مدونة سلوك للحياة الحزبية لا تسمح للمال بأن يصبح المتحكم الأول في قنوات التأثير في الرأي العام. وقد يكون من الملائم إنشاء مفوضية قومية مستقلة لمتابعة انفاق وإيرادات الأحزاب, وتتاح لها سلطة إبلاغ الرأي العام والهيئات الرقابية الرسمية أيضا بما تراه من مخالفات أو منافسة غير متكافئة. كما تلوح هناك حاجة ماسة لأن تتضمن القوانين المنظمة للعمل السياسي ما يسمح للأحزاب الوليدة التي لم يمض علي عمرها خمس سنوات مثلا بأن تمارس أشكالا محددة من الأنشطة الاقتصادية ذات المعاملة الضريبية التفصيلية, لتمويل عملها الحزبي حتي لا تلجأ إلي ممارسات غير شرعية أو تقع تحت سطوة الممولين. أضف إلي هذا أن هناك ضعفا كبيرا في ثقافة التبرع للعمل العام, وخاصة السياسي, في مصر.. وهذا بالطبع من نتائج الإرث الطويل لمصادرة الحياة السياسية في المجتمع لصالح الحزب الوحيد أو المدلل. ولابد من تشجيع المواطنين علي الاشتراك دون خوف في حملات اكتتاب تطوعي للأحزاب التي يؤيدونها. أخيرا يقع علي عاتق الأحزاب نفسها أن تتعلم كيف تنجز الأنشطة الكبيرة بتكاليف أقل. وألا تحاول تقليد الأحزاب الثرية في أنشطة بعينها. وأن تسعي للوصول إلي الجمهور في القري والأحياء الشعبية بطرق مباشرة ومبتكرة. إذا لم تتمكن الحياة السياسية المصرية من حل مشكلة المال السياسي فإنها تكون مرشحة للتعثر أكثر من التقدم.. حتي لو جاء الدستور أولا. هذا ما كشفت عنه تجربة الاستفتاء علي التعديلات الدستورية, ثم أكدته الممارسات الحزبية الأخيرة. والمهم هنا أن الأحزاب الليبرالية والدينية هي أحزاب مؤيدة للنمط الرأسمالي بوجه عام, أما الأحزاب ذات التوجه الاجتماعي اليساري, والقوي الشبابية الجديدة, فهي لا تستطيع التفاعل المتواصل مع جماهيرها المفترضة بسبب نقص الامكانات المالية. وفي هذا خطر علي استقرار العملية الديمقراطية نفسها. لأنها عندئذ لن يكون أمامها غير العودة للشارع.. ولكن ضد ديمقراطية يتحكم فيها الأثرياء. عضو مجلس إدارة مركز البحوث العربية والإفريقية بالقاهرة ..مترجم وباحث في العلوم السياسية.. مدير تحرير مجلة إفريقية عربية( مختارات العلوم الاجتماعية)