يدعو الله تبارك وتعالي الناس إلي أن يستبقوا إلي فعل الخيرات والاستباق هو التقدم, ففي التسابق يتقدم المجتهد علي غيره, في العمل الصالح, ويتبين هنا أن الأولوية لفعل الخير هي للتعجيل, وليست للتأجيل, فمن أراد أن يعمل خيرا, فليسرع في عمله,, فاستبقوا] اجعلوا أنفسكم في تسابق إلي فعل, الخيرات] وانتهزوا الفرص, إن المتسابق يسن سنة لغيره, فقد يقتدي به آخرون في فعل الخير, فيكون هو الذي سن هذه السنة الحسنة باستباقه إلي فعلها. وقد جاءت, الخيرات] جمعا للخير, وذلك يعني أن أبواب الخير كثيرة, ويمكن للمرء أن يفعل خيرات كثيرة في يوم واحد, بل في ساعة واحدة. ويقول الدكتور عبدالله أبوالفتح بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين جامعة الأزهر بالقاهرةلقد أمر الله عز وجل عباده المؤمنين بالمسارعة بفعل الخيرات فقال عز من قائل: ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله علي كل شيء قدير, وقال أيضا سبحانهوتعالي: وسارعوا إلي مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين, وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا, ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا, يبيع دينه بعرض من الدنيا, ففي هاتين الآيتين الكريمتين وهذا الحديث الشريف دلالة علي أهمية المبادرة إلي الأعمال الصالحة قبل تعذرها والاشتغال عنها بما يحدث من الفتن الشاغلة المتكاثرة المتراكمة كتراكم ظلام الليل المظلم لا المقمر, ووصف صلي الله عليه وسلم فيه نوعا من شدائد تلك الفتن وهو أنه يمسي مؤمنا ثم يصبح كافرا أو عكسه, وهذا لعظم الفتن التي يتغير فيها الإنسان في اليوم الواحد كل هذا التغيير. ولقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم لا يدخر وسعا في تربية أصحابه ودلالتهم علي المسارعة إلي الخيرات فعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا قال: جاء رجل إلي النبي صلي الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشي الفقر, وتأمل الغني, ولا تمهل حتي إذا بلغت الحلقوم, قلت: لفلان كذا ولفلان كذا, وقد كان لفلان, ففي هذا الحديث يرشد رسول الله صلي الله عليه وسلم السائل إلي أن الشح الذي هو قريب من البخل غالب علي الشخص في حال الصحة فإذا سارع الإنسان فتصدق ببعض ماله حال قوته وصحته كان أصدق في نيته وأعظم لأجره, بخلاف من أشرف علي الموت ويئس من الحياة ورأي مصير المال لغيره فإن صدقته حينئذ ناقصة بالنسبة إلي حالة الصحة والشح رجاء البقاء وخوف الفقر وأمل الغني, ولهذا كانت المسارعة إلي الإنفاق لازمة. ويوضح د.أبو الفتح: لقد ضرب النبي صلي الله عليه وسلم أروع المثل في المسارعة إلي الخيرات ليكون نبراسا تهتدي به أمة, فعن عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال: صليت وراء النبي صلي الله عليه وسلم بالمدينة العصر, فسلم ثم قام مسرعا فتخطي رقاب الناس إلي بعض حجر نسائه, ففزع الناس من سرعته, فخرج عليهم, فرأي أنهم قد عجبوا من سرعته, فقال: ذكرت شيئا من تبر عندنا, فكرهت أن يحبسني, فأمرت بقسمته, وفي رواية أخري: كنت خلفت في البيت تبرا من الصدقة, فكرهت أن أبيته, و,التبر] قطع ذهب أو فضة. ولما رأي أصحاب الرسول مسارعته صلي الله عليه وسلم إلي الخيرات في كثير من المواقف اقتدوا به صلي الله عليه وسلم فأثر عنهم كثير من القصص التي تدل علي مسارعتهم إلي كل أنواع الخيرات والقربات, فمن ذلك ما رواه جابر رضي الله عنه قال: قال رجل للنبي صلي الله عليه وسلم يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال: في الجنة, فألقي تمرات كن في يده, ثم قاتل حتي قتل. و يتبين لنا أن مسارعة الإنسان إلي الخيرات لازمة لأنه قد تتبدل حياته بين عشية وضحاها فتتغير حاله من الصحة والسلامة وغيرهما مما يرغب الإنسان في الدوام فيه من النعم, فقد يصبح في طرفة عين بعد أن كان صحيحا معافي متقلبا في كثير من النعم يصبح أو يمسي سقيما مريضا, قد تبدلت حاله ولهذا نبهنا رسول الله صلي الله عليه وسلم إلي اغتنام حال الصحة والمعافاة فيشغل وقته بالأعمال الصالحات, فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: بادروا بالأعمال سبعا, هل تنتظرون إلا فقرا منسيا, أو غني مطغيا, أو مرضا مفسدا, أو هرما مفندا أو موتا مجهزا أو الدجال فشر غائب ينتظر, أو الساعة فالساعة أدهي وأمر. ويقول الدكتور نبيل عجيب من علماء الأوقاف إن الأمر بالاستباق إلي الخيرات قدر زائد علي الأمر بفعل الخيرات, فإن الاستباق إليها, يتضمن فعلها, وتكميلها, وإيقاعها علي أكمل الأحوال, والمبادرة إليها, ومن سبق في الدنيا إلي الخيرات, فهو السابق في الآخرة إلي الجنات, فالسابقون أعلي الخلق درجة, والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل, من صلاة, وصيام, وزكوات, وحج, وعمرة, وجهاد, ونفع متعد ومقصور. والناس في الإقبال علي الله تعالي والإقدام علي الإيمان والعمل الصالح ثلاثة أنواع: ظالم لنفسه, ومقتصد, وسابق بالخيرات, ولا شك أن أفضلهم السابق بالخيرات, قال تعالي: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله, سورة فاطر], قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالي: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا قال هم أمة محمد صلي الله عليه وسلم ورثهم الله تعالي كل كتاب أنزله فظالمهم يغفر له ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب, كما قال عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال ذات يوم شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي قال ابن عباس رضي الله عنهما السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد صلي الله عليه وسلم. وقوله:, فاستبقوا]. أي أن الخيرات متوافرة, ولا يحتاج الأمر إلا إلي العزيمة منكم, ففي الصباح عندما تفتح عينيك, يمكنك أن تفعل خيرا بفعل أي شيء طيب في البيت, تؤمن الطعام لعيالك, تقضي لهم حاجاتهم, وعندما تخرج, يفرح برؤيتك الجوار, فتلقي عليهم السلام, وتجيب علي سلامهم, وفي العمل تيسر في بيعك, وفي شرائك, وتقدم عملا متقنا ينتفع به الناس. إن وجدت أذي علي الطريق, أزحته, ابتسمت في تعاملك مع الناس, فرجت كربا عن مكروب, نفست هما عن مهموم, قضيت حاجة سائل, أصلحت بين شخصين متخاصمين, عدت مريضا, أرشدت شخصا إلي مكان سألك عنه, زرعت بذرة, سقيت شجرة, أخرجت حيوانا من ضائقة ألمت به. فإلقاء السلام, والرد عليه خير, وإماطة الأذي عن الطريق هو فعل خير, والتيسير في البيع والشراء خير, تبسمك في وجه أخيك خير, وضعك اللقمة في فم زوجتك أو أبنائك, خير, تفريج كرب عن مكروب خير, تنفيس هم عن مهموم خير, قضاء حاجة سائل خير, صلحك شخصين متخاصمين خير, عيادتك لمريض خير, زرعك بذرة خير, سقيك زرعا خير, إنقاذك حيوانا خير, فتكون في فعل خير حتي تعود إلي البيت. الحياة مليئة بفرص الخير ومجالات التقدم, ويمتلك كل إنسان من القدرات والاستعدادات ما يؤهله لاقتناص تلك الفرص, وارتياد تلك المجالات, لكن الناس يتفاوتون في الانتباه لها والمبادرة نحوها فهناك من درب نفسه علي التركيز في النظر, وإمعان الفكر, ودقة الملاحظة, في أي ميدان من الميادين التي تحيط به في العلم أو العمل, وسلاح اغتنام الفرص, واستثمار الظروف, والفرد المبادر حقق الإنجازات, وحظي بالمكاسب. وكذلك المجتمع الذي تحلي بهذه الصفة, فإنه يتمتع بالحيوية, وطور واقعهإلي الأفضل بشكل دائم مستمر. ونلحظ في الآيات الكريماتتوجه الخطاب إلي الجمع وليس إلي الفرد فقط, لأن المطلوب أن تكون هذه الصفة سمة للمجتمع كله, ونجد في حضارتنا العربية الإسلامية اهتماما وعناية بمفهوم الأولة, حث خصصوا بداة كل شيء وأوله باسم وعنوان خاص, لتمييزه وإبرازه, فأول النهار صبح, وأول الليل غسق.