عبادة يمكن أن يُثاب عليها الجميع، كلُ في مكانه، دون تكلفة تُذكر..القاضي الذي يتكبد عناء قراءة أوراق القضية من أجل إصدار حكم عادل..والمحامي الذي ينصر موكله مظلومًا لا ظالمًا.. والإعلامي الذي يحرص على نقل الحقائق..والبائع الذي يبيع سلعته دون مغالاة أو تطفيف..والنجار الذي يصمم قطع الأثاث بدقة.. والجزار الذي يوفر اللحوم أو الدواجن بالسعر العادل..والمدرس الذي يراعي ضميره في التدريس لطلابه.. هؤلاء، ومن على شاكلتهم من الحرف والمهن، مُثابون على مائدة "رفع المعاناة عن الناس. إنها عبادة حثت عليها الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والنصوص السماوية، ويحكمها عدد من الضوابط، أبرزها : معرفة قدر هذه العبادة أصلاً، وتبيان كثرة الطرق إليها، وإتباع الوسائل النبيلة، والبدء بالنفس أولًا، والسير فيها بحسب الأولويات، وألا تكون بفعل حرام، وألا تتسبب في معاناة أكبر، مع مراعاة التدرج في إتباعها، والتخلق بالرحمة، والتحلي بالإخلاص، وأخيرًا: شكره تعالى على نعمة هذه العبادة. والأمر هكذا، من آداب وضوابط رفع المعاناة عن الناس ما يلي: 1- معرفة قدر هذه العبادة عند الله: دعا الله تعالى إلى المسارعة إلى استباق الخيرات، ويدخل فيها: قضاء حوائج الناس، فقال سبحانه :"وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".(البقرة:148). وقال :"يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ".(آل عمران:114). وثواب هذه العبادة مغفرة الله تعالى، ودخول الجنة.. وقد شاء تعالى أن تكون هناك شواهد عملية على ذلك، إذ أنبأنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- بمغفرة الله تعالى لبغي من بني إسرائيل لمجرد أن قلبها رقَّ لكلب أخذ يلهث من العطش، فنزلت البئر، وملأت خفّها، ثم سقته. 2- كثرة طرق رفع المعاناة عن الناس: هناك عشرات الطرق التي تدخل ضمن تخفيف العبء، وإزالة العناء عن الناس، ويُثاب المرء عليها، ومن ذلك ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"أَرْبَعُونَ خَصْلَةً -أَعْلَاهُنَّ مَنِيحَةُ الْعَنْزِ- مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا رَجَاءَ ثَوَابِهَا وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهَا الْجَنَّةَ". قَالَ حَسَّانُ : فَعَدَدْنَا مَا دُونَ مَنِيحَةِ الْعَنْزِ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِمَاطَةِ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ، فَمَا اسْتَطَعْنَا أَنْ نَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً". ومعنى قوله : (منيحة العنز) عطية لبن الشاة. كما في "فتح الباري". 3- إتباع الوسائل النبيلة: الغاية النبيلة في الإسلام لا يتم الوصول إليها إلا بالوسيلة النبيلة.. قال تعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.(المائدة: 35).ومعنى "ابتغوا إليه الوسيلة": التمسوا طاعته باتباع الوسيلة التي يرضاها. وفي الحديث عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا الطَّيِّبَ".(رواه مسلم).. فالله تعالى لا يقبل إلا الغايات الطيبة، والوسائل الطيبة. 4- التدرج والبدء بالنفس أولا: البداية الصحيحة في رفع المعاناة عن الناس تكون برفع المعاناة عن النفس أولا، فإن لم تستطع أن تنفع الناس يكفيك أن تكف شرك عنهم، وتلك صدقة تتصدق بها على نفسك، وكما تُؤجر على بذل المعروف؛ تُؤجر على كف الأذى. وعَنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ يَعْتَمِلُ بِيَدَيْهِ فَيَأْكُلُ مِنْهُ وَيَتَصَدَّقُ قَالُوا أَفَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ قَالُوا أَفَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ قَالُوا أَفَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ يُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ".(متفق عليه). وفي هذا المعنى جاء الحديث بأن أفضل المسلمين مَن سلم المسلمون من لسانه، ويده..عن أبي موسى قال: قلت :"يا رسول الله أي المسلمين أفضل؟" قال:"من سلم المسلمون من لسانه، ويده".(رواه البخاري، ومسلم). 5- مراعاة الأولويات: لابد من تحديد أكثر شئ يسبب معاناة للناس كي يتم البدء بإزالته.. ولاشك أن الفقر يحتل الأولوية، لذا افترض الله تعالى فريضة الزكاة لمنعه، وأثنى على الفقراء؛ فقال سبحانه :"واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه".(الكهف: 28). ويُذكر هنا أن أول ما دعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس إليه في المدينة، عند هجرته إليها، إطعام الطعام.. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ : لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ قَبْلَهُ فَقَالُوا : قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ، قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لأَنْظُرَ إِلَى وَجْهِهِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ : "أَيُّهَا النَّاسُ : أَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَأَفْشُوا السَّلامَ، وَصِلُوا الأَرْحَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلامٍ". (صححه الترمذي والحاكم ووافقه الذهبي). 6- ألا يكون بفعل حرام: كتقاضي رشوة أو ارتكاب فعل مخالف للشريعة، أو تشجيع رذيلة أو تسول أو تواكل، أو بالتراخي في تطبيق القانون أو التقاعس عن تقويم منحرف، بدوى تخفيف معاناة الناس. فقد نهى الإسلام عن الغش، وقال النبي عليه الصلاة والسلام :"من غشنا فليس منا".(رواه مسلم)، ونهى عن الرشوة ففي الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الراشي والمرتشي في الحكم ".(رواه الخمسة). 7- ألا يترتب على رفعها معاناة أكبر: على سبيل المثال: يسبب التسول مضرة اقتصادية هائلة للمسلمين، واقتصادهم، لذلك أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الكامل لأصحابه في محاربة هذه الآفة، وتشغيل أصحاب البطالة، وإيجاد فرصة عمل مناسبة لهم.. كما قال المثل الصيني :"بدل أن تعطيه سمكة علمه كيف يصيد السمك". وفي صحيح البخاري قال صلى الله عليه وسلم :"لأنْ يحتطب أحدكم على ظهره خير من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه". 8- إتمام العمل: مِنَ الناس مَنْ يبدأ في عمل ما لصالح الناس، وأحياناً يقارب الانتهاء منه، ثم يتركه ولا يتمه. وفي ذم من ترك العمل بعد أن كان مثابراً عليه، قال سبحانه :"وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ ۚ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ". (النحل: 92). والأمر هكذا، وُصف عمل الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه كان"ديمة". جاء في الحديث عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنْ الْأَيَّامِ قَالَتْ لَا كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطِيقُ".(البخاري).وجاء في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم :"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه". ولاشك أن من إتقان العمل إتمامه. 9- التحلي بالإخلاص: لابد من التحلي بالإخلاص عند قضاء حوائج الناس، ورفع المعاناة عنهم، وعدم المن عليهم بذلك، إذ الإخلاص لله باب القبول، وسبب البركة، وطريق النجاح، قال تعالى:"وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.(البينة 5). فينبغي للساعي في الخير للناس أن يخلص في عمله، فلا يبتغي به غير وجه الله، مما يعرض للبشر من مقاصد الانتفاع المادي أو الشهرة أو الوجاهة.. إلخ؛ ممتثلاً قوله تعالى عن السابقين للخيرات :"وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا*إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا". (الإنسان: 8 و9). ومن علامات الإخلاص -كما قال السلف- :"استواء المدح والذم من العامة، ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال، واقتضاء ثواب الأعمال في الآخرة". [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد