ماذا تتوقع من شاب صغير في الثامنة عشرة من عمره, يكاد يودع الطفولة, يكتب أغنية مثل يامزوق ياورد في عود؟ غير ان يكبر هذا الشاب فيصبح مرسي جميل عزيز, الوحيد الذي غني له اركان الأغنية الكلاسيكية الأربعة. عبدالوهاب وأم كلثوم وعبدالحليم وفيروز, والوحيد الذي لحن كلماته الإخوان رحباني والسنباطي وعبدالوهاب وبليغ والموجي والطويل, والشاعر الغنائي الوحيد الذي درس في معهد السينما, إنه الوحيد في أشياء كثيرة, ربما كان أهمها فنيا انه الشاعر الوحيد الذي كان مصورا محترفا بالكاميرا وبالقلم. 1921 هو العام الذي ولد فيه مرسي الجميل العزيز منذ تسعين عاما, حصل علي الثانوية العامة, وقبل أن يحصل علي ليسانس الحقوق دخل عالم الفن, وأصبح له وجود في عالم الأغنية المصرية, لكن انطلاقته الكبري كانت في الخمسينيات مع صعود نجم هذا الجيل الذي تزعمه عبدالحليم حافظ, ولأن مرسي كان غزير الإنتاج, شديد النشاط فقد كتب كل شيء واي شيء لاي شخص, وكانت ميزته الكبري في الصورة, انه يكتب, بل يلتقط كادرات, كمن ينظر للدنيا من خلال شباك, ولذلك كان الشباك منتشرا في أغانيه: الحلوة داير شباكها, من الشباك وأنا خدي علي الشباك, شباكنا ستايره حرير الخ. كانت نقطة ضعف مرسي هي الدخول فقد كان مولعا باقتباس مطالع للأغاني ليست له, ثم يصوغ عالمه من خلالها حتي إن عبدالحليم تحداه ان يكتب اغنية يكون مطلعها عنوان رواية عالمية شهيرة في ذلك الوقت هي: في يوم.. في شهر.. في سنة, فكتب مرسي الأغنية المعروفة التي قال عنها محمود الشريف انها اجمل اغنية سمعها. اوقعت هذه العادة مرسي جميل عزيز في المحظور فالغيرة الفنية كانت موجودة والمنافسة علي النحت لم تتوقف يوما, حتي في زمن النحت الجميل, وهناك وحوش رابضة تنتظر الخطأ للشاعر الصاعد أسرع من الصاروخ, ومن هنا فقد رصد له مأمون الشناوي وجليل البنداري عددا من الأغاني التي تتشابه مطالعها مع اغاني واعمال اقدم منها, وهاجم هو مأمون الشناوي مطالبا اياه بالتركيز في اغاني العوالم التي يكتبها( لاحظ انه يتحدث عن مؤلف اوبريت الربيع) فرد عليه مأمون بأنه هو الذي يجب ان يركز في تجارة البطيخ( كان الحاج جميل مرسي عزيز, والد شاعرنا تاجر فاكهة بالشرقية), وعندما اشتعلت المعركة, تحددت لجنة نقدية برئاسة د. علي الراعي للتحكيم في الأمر, وابرأت مرسي من السرقة, لكنها لم تستطع تجاهل ان مطالع الأغاني, بالفعل ليست له, كما انها لم تستطع تبرئته من أغنية ياما القمر علي الباب التي غنتها الست توحيدة عام1922. لكن هذا لا يؤثر في ان تاريخ مرسي اكبر من كل هذا فالرجل كتب أكثر من ألف أغنية, ويقال إنه كان يعد اغنياته, وعندما وصل إلي رقم ألف, كانت الأغنية رقم1001 لأم كلثوم, فأصر علي تسميتها ألف ليلة وليلة, خاصة انها كانت في الاحتفال بالعام الألفي للقاهرة, وفي كل أغنية من الأغنيات التي زادت علي ألف, عدد من الصور والتركيبات التي لا يكتبها الا مرسي جميل عزيز, كما أنه تنقل بين كل الأشكال والمطربين فايزة, صباح, نجاة, محرم فؤاد, شادية, وكتب أغاني اوبريت عواد باع أرضه وأشهرها أغنية الأرض ارضنا, وكتب أغنيات فيلم أدهم الشرقاوي( ولكنه لم يكن موفقا فيها). وبعيدا عن درس الإحصاء هذا, فإن شاعرنا بالفعل كان أعمق من مستوي كتابات جيله فيما يخص الأغنية, لأن شعراء القصائد فؤاد حداد وصلاح جاهين, وحتي فؤاد قاعود لم يكن لهم باع يذكر في الأغنية, اما شعراء الأغاني مثل حسين السيد ومأمون الشناوي, فقد غلبت عليهم الكتابة العاطفية التي تحتاج منديلا لسماعها, مع احترامنا لخصوصية أبوالسعود الابياري وفتحي قورة, اما مرسي فقد انتقل بالأغنية ولو خطوة لمساحات ارحب قليلا من حبيبي واحشني وقدم أغنيات تشم فيها رائحة أفكار ومناطق إنسانية أبعد, منها أعز الناس التي لحنها بليغ لعبد الحليم عام1970, ولم يغنها حليم في أفلام او حفلات لإدراكها انها لا تلائم الذوق العام وقتها, الذي كان نجمه الأول محمد حمزة, وقبلها أغاني التمر حنة, وبعدها من غير ليه؟ وربما كان هذا هو السبب وراء تحميل أغنية مثل فات الميعاد بمعان سياسية وفلسفية أكبر منها بكثير, وإن كانت الأغنية بالفعل تحتوي علي جمل تصلح حكما وامثالا: والزمن بينسي فرح وحزن ياما. تزوج مرسي1949 وانجب تلات بنات وضابط اما الضابط فهو اللواء المعروف مجدي مرسي, وكان حريصا علي أن يتقاضي اعلي أجر, حتي إن اجره في أغنية فات الميعاد كان ألف جنيه( مايوازي نصف مليون جنيه بأسعار اليوم) ولم يتأثر انتشاره بهذا, لكنه تأثر عندما تبدل الزمن وظهرت منابع أخري للأغنية, وتجاوزت الشكل الكلاسيكي برمته, وقبل أن يصل مرسي إلي سن الستين, توفاه الله عام1980, وربنا يرحم الجميع.