إنني مسلم وطنا ومسيحي دينا, ونحن من ناحيتنا, لانركن إلي العواطف الجياشة, ولانستسلم للخيال الجامح, ولكننا نستسلم لحب المصريين فقط, وكانت الوثائق المحايدة ومنطق الأمور رائدنا.. هذه العبارة للمفكر الوطني البار مكرم عبيد علي إيجازها, لها دلالتها. إذ يستشف منها, أنه إذا كان تاريخ الوحدة الوطنية متنا حافلا, فإن مايحدث الآن فيها من شروخ, لايعدو أن يكون سطرا علي الهامش, يقع اللوم في ابرازه علي فلول النظام السابق. تضطرنا المعلومات التي تزودنا بها المصادر الجديرة بالثقة, أن نعترف صادقين مع أنفسنا, بأن التاريخ الإسلامي لم يعرف الطائفية الدينية, بل عرف الوحدة الوطنية التي تعدت إطار التسامح والإخاء, إلي دائرة المشاركة في صنع المستقبل والمصير, ونستطيع أن نجد مصداقا لذلك عند العديد من مفكري الغرب نفسه وباحثيه, وحسبنا منهم العلامة إميل درمنغم الذي ذكر في كتابه حياة محمد: أن التاريخ لم يرو أن المسلمين قتلوا شعبا, ومادخول الناس أفواجا في الإسلام إلا عن رغبة فيه, وهنا نذكر أن عمر بن الخطاب لما دخل القدس فاتحا أمر بألا يمس النصاري بسوء, وبأن تترك لهم كنائسهم, وشمل البطريرك بكل رعاية ورفض الصلاة في الكنيسة خوفا من أن يتخذ المسلمون ذلك ذريعة لتحويلها إلي مسجد. وكتب التاريخ حافلة بالشواهد والبينات علي روح التسامح والإخاء هذه, نقتصر منها علي قصة تاريخية ثابتة تروي أن قبطيا مصريا دخل في سباق للجري مع ابن عمرو بن العاص والي مصر وكسب الشاب القبطي الرهان, فاغتاظ ابن عمرو وضربه بالسوط علي رأسه وهو يقول: أتسبق ابن الأكرمين؟ وفي هذا الظرف العصيب والجو المكهرب لم يخابر القبطي اخوانه في الدول الأخري, ولا استعدي دولة علي بلده بل توجه رأسا إلي أمير المؤمنين شاكيا له وسرعان ما استدعي عمر والي مصر عمرو بن العاص وابنه المشكو في حقه, وأمر الشاب القبطي أن يضرب ابن عمرو علي رأسه حتي يشفي غليله قائلا له: زد ابن الأكرمين ولما هدأت نفس القبطي تماما فوجئ بعمر ينزع عمامة عمرو بن العاص أيضا ويقول للشاب القبطي: أضرب علي صلعة عمرو فباسمه ضربك وتردد الشاب القبطي وامتنع عن ذلك فوجه عمر كلامه إلي ابن العاص: منذ متي ياعمرو استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ وعندما وافت المنية عمر قال: أوصي الخليفة من بعدي بذمة رسول الله( ص) أن يوفي لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم ولايكلفهم فوق طاقتهم هكذا يعامل المسلمون الأقباط وهكذا يكون حكم الشريعة الإسلامية وهكذا تكون سياسة الحاكم المسلم في الدولة المسلمة, وأمثلة هذا التسامح في التاريخ الإسلامي نستطيع زيادة عددها بدون عناء, حتي إن علماء من الغرب اعترفوا بل بهرهم هذا التسامح ومنهم فيلسوف الحضارات العلامة جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب والذي قال: إن التاريخ لم يعرف أمة, أرحم ولا أعدل وأكرم من العرب, وأيضا قال العالم الفرنسي جوتيه في كتابه أخلاق المسلمين وعاداتهم, لقد ثبت أن الفاتحين من العرب كانوا علي غاية من فضيلة التسامح لم تكن متوقعة ممن يحملون دينا جديدا ومافكر العربي وهو في أشد حالات تحمسه لدينه الجديد, أن يطفئ بالدماء دينا منافسا لدينه وقد قال العالم الألماني الشهير آدم ميتز في كتابه الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري تفاصيل أكثر دلالة علي هذا التسامح العظيم ومنها إن من أعظم بواعث الاستغراب, كثرة عدد المسيحيين من رجال الأمر في الدول الإسلامية وقد شوهد المسلم في بلاده يحكم عليه النصاري, وحدث في القرن الثالث الهجري أن كان النصاري وزراء حرب مرتين وكان علي القواد المسلمين حماة الدين أن يقبلوا أيدي الوزير وينفذوا أمره والدواوين كانت مليئة بالكتاب من النصاري. وطوال التاريخ الإسلامي لم تتوقف فصول التسامح العظيم ومنها تولي الكثير من النصاري تعليم أولاد الخلفاء والأمراء وقيادة جيوش المسلمين في بغداد والأندلس وتولي منهم في عهد أكثر من خليفة مناصب منها الوزير والكاتب والطبيب الأول في الدولة.. وفي هذا الصدد قال سير توماس أرنولد في كتابه الدعوة إلي الإسلام إن وجود العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة, لهو خير شاهد علي التسامح, ثم يقول في موضع آخر: ولما كان المسيحيون يعيشون في مجتمعهم آمنين علي حياتهم وممتلكاتهم ناعمين بمثل هذا التسامح الذي منحهم حرية التفكير الديني فإنهم تمتعوا خاصة في المدن بحالة من الرفاهية والرخاء. ويورد المؤلف دلائل كثيرة منها أن معاوية بن أبي سفيان قد توسع في توظيف المسيحيين وحذا حذوه آخرون من البيت المالك النبوي وفي عهد الخليفة العباسي المعتصم أخوان مسيحيان أحدهما اسمه سلمويه كان يشغل منصب الوزير علي حين كان أخوه إبراهيم يحفظ خاتم الخليفة وخزانة بيوت الأموال في البلاط, ومن السهل أن نطيل الاستشهادات من هذا النوع لكن ماذكرناه يكفي للدلالة علي عظمة التسامح الإسلامي الذي كان مثار اعجاب وإبهار مفكري الغرب نفسه وباحثيه وكتابه, أما مايحدث أحيانا وعلي فترات متباعدة من التباس في الأمور, أو من فتن مصطنعة, فهي سحب طارئة تظهر قليلا ثم تزول,, ولاتترك خلفها إلا شعبا متحدا عطوفا, لايعرف الفرقة ولا الانقسام. ومادام الأمر كذلك, فمن حق القارئ الذي أفسح صدره لي, أن أشفي غليله في كشف المستور عما آلت إليه الأمور في مسألة الوحدة الوطنية, مما لم نعهده طوال تاريخ مصر الإسلامي, وقد كفانا مؤونة ذلك البيانات التي صدرت عن المجلس العسكري ولجنة تقصي الحقائق في أحداث إمبابة, وغيرها من البيانات الصادرة من جهات مختصة, وكلها تشير إلي تورط فلول النظام السابق في أحداث إمبابة الدامية, ومما لاينبغي إغفاله في هذا المجال, دور الاستخبارات الإسرائيلية وهل هناك دليل أبلغ من ا عتراف المرء علي نفسه, ففي أكتوبر الماضي صرح اللواء عاموس بادليف الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية( أمان) خلال مراسم تسليم مهامه للواء أفيف كوفاخي بقوله: لقد أحدثنا الاختراقات السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية في أكثر من موقع, لاسيما الطائفي والاجتماعي لإيجاد بيئة متصارعة متوترة دائما, ومنقسمة إلي أكثر من شطر بغية تعميق حالة الاهتراء داخل البنية والمجتمع والدولة المصرية ولم تكن هذه الثمرات الصهيونية المرة لتنضج من تلقاء نفسها بل علي شجرة النظام السابق, الذي ارتضي ليصبح كالنعام التي تتجافي الأخطار بدس رأسها في الرمال وهي مستكينة دون وعي. ولإدراك خطورة هذا التغيير نستطيع لحسن الحظ الرجوع إلي مايقوله الفيلسوف الصيني منشيوس: عندما يقهر الناس علي الخضوع بالقوة لاتخضع عقولهم وإنما يكون خضوعهم بسبب عجز قواهم, أما عندما تقهرهم بقوة الشخصية علي الخضوع فإن سرورهم يتغلغل إلي قرارة نفوسهم ويمتثلون للخضوع فعلا. رئيس مركز التراث الفلسطيني