الرسالة الجديدة لون محبب من الصحافة الأدبية, بمعني أنها مجلة أدبية حقيقية, ولكنها ليست من النوع الجاف أو الصارم الذي يستلزم من القاريء جهدا وعناء, اللون ضروري لاجتذاب أكبر عدد من القراء الي حظيرة الأدب. وهي من حيث التبويب الصحفي جيدة, ومن رأيي أن هذا النوع يصلح كثيرا أن يصدر أسبوعيا, وخصوصا بعد أن لاحظت اهتمام المجلة بالنواحي الفنية الأخري مثل المسرح والسينما, كما أن عدد الكتب التي تظهر أسبوعيا في مختلف نواحي النشاط الأدبي تزداد باستمرار, وكذلك أخبار الأدب وندوات الشعراء والأدباء والفنانين سواء في الجمعيات والنوادي الأدبية أو في الإذاعة ببرامجها المختلفة. كل هذا النشاط لا يمكن أن تستوعبه المجلة الشهرية, ولذلك أقترح بكل قوة أن تكون الرسالة الجديدة أسبوعية, وسوف تلاقي نجاحا أبرز بكثير من نجاحها الحالي. هذه الكلمات وهذا التشخيص لمجلة الرسالة الجديدة وعنها, مأخوذ من حوار بعنوان جلسة طويلة مع توفيق الحكيم, أجراه معه الكاتبان أحمد حمروش ومحمود أمين العالم في العدد السادس والأربعين, ديسمبر1957, مجلة الرسالة الجديدة. صدر العدد الأول من مجلة الرسالة الجديدة في أول أبريل1954, أي بعد سنة من قفل مجلة الرسالة الشهيرة, واستمرت تصدر شهريا حتي نوفمبر1958, عن دار التحرير للطبع والنشر, وكان مديرها العام أنور السادات, ورئيس تحريرها يوسف السباعي, أي أن جملة ما صدر منها من أعداد بلغ56 عددا. كان شعارها: أدب. ثقافة. فن. قدمها يوسف السباعي بكلمة المحرر تحت عنوان: سوق الأدب وسوق الزلط, حدد فيه أهدافها وأسلوبها, وقارنها بالمجلات السابقة التي تم حجبها, كتب فيه: هذه المجلة التي أقدمها الآن طالما طافت برأسي كحلم من أحلام الدجي, ولست أدري ما الذي يدفعني الي الظن بأنها قد طافت برأس الكثيرين, وأنني حين أقدمها أحقق بها حلما مشتركا. وأنا لا أزعم بتقديمي لها أني قد خلقت شيئا جديدا, وأني أتيت بما لم تستطعه الأوائل, إنما أنا أضع حلقة جديدة في سلسلة حلقات المجلات الأدبية ومنذ أدخلت عملية الطباعة والنشر في مصر والشرق. شرح بعدها يوسف السباعي بإقتضاب تاريخ المجلات الأدبية التي كانت تصدر علي وجه الخصوص في مصر, حتي وصل الي نقطة انقطاع المجلات الأساسية والتي كانت مصدرأ يكاد يكون غذاء ثقافيا للخاصة والعامة في العالم العربي كله, ومنها علي وجه الخصوص, مجلة الرسالة التي كان يرأس تحريرها أحمد حسن الزيات, ومجلة الثقافة التي كان يرأس تحريرها أحمد أمين ومجلة الكتاب التي كان يرأس تحريرها عادل الغضبان, ومجلة المقتطف والتي احتجبت كلها عام.1953 لم يعط يوسف السباعي في مقالته سببا محددا لقفل تلك المجلات الأساسية, لكنه أشار من بعيد بإلقاء قليل من الضوء محاولا محو شكوك الذين أفجعهم ذلك الاحتجاب والقفل لمناهل ثقافية أساسية للقارئ العام والخاص, الذي كان يجد ضالته في قراءة تلك المجلات العظيمة. كتب يوسف السباعي موضحا: وقد إختلفت الآراء الناعية للرسالة القديمة وغيرها من المجلات الأدبية, وتنوعت الظنون في الأسباب المؤدية الي إختفائها. ولست أريد أن أبحث الآن في هذه الأسباب ولكني فقط أريد أن أوضح شيئين يمكن أن يلقيا الضوء علي هذا النوع من المجلات. أولهما أن تذوق الأدب وقراءته لم يعد مقصورا علي فئة معينة بل لقد إمتدت الي سوق الأدب وإتسعت ساحته وتعدد رواده من فئات أضحي من العسير عليها هضم الزلط الذي كان يكدس في سوق الأدب أو سوق الزلط. وأضحي واجبا علي الأدباء أن يكتبوا بحيث لا يتعذر علي غيرهم من غير الأدباء قراءة ما يكتبون بل لقد زادت جمهرة القراء ودخلت فيها عناصر جديدة محدودة الثقافة لا يمكن إنكارها بل يجب أن يعمل حسابها في المجلات الأدبية, بحيث لا تكون هذه المجلات طلاسم يستحيل عليهم فكها. أعطي يوسف السباعي بعد ذلك سببا آخر لقفل تلك المجلات وهو تطور الطباعة والإخراج في الصحافة وحساسية القارئ وتأثره الشديد بهذين العاملين حتي أصبح إقباله علي قراءة مقال أو إعراضه عنه قد يتوقف كثيرا علي طريقة عرض وإخراج المقال. ومن السخف أن يحاول الأدب أن يترفع عن طريقة العرض وأن يدفعه الغرور الي الإعتقاد بأن نتاج الفكر أعلي من أن يحتاج للرواج الي مساعدة رسم أو صورة أو خط. ثم يخلص في توضيحه وسرده ووصفه للمجلة: ولذلك فقد أضحي للأدب ولقارئه واجب علينا لا بد من آدائه, وهو التقديم الجميل لإنتاج الفكر.. إضافة الي ذلك, أعطي لنا يوسف السباعي سببا آخر وراء إصدار الرسالة الجديدة في حيثياته في هذا المقال وهو أنها ستكون منبرا لشباب الكتاب وأنها ستفسح صفحاتها لإنتاجهم, مبتغية وراء ذلك تنمية المواهب ومضاعفة أعداد الكتاب واكتشاف الموهبين: لهؤلاء سنفسح صدر المجلة. وعندما يقفز منهم عشرات الأسماء لتتضاعف أسماء الكتاب الكبار المقروءة في الصحف. وعندما يتضاعف عدد القراء الذين يقبلون علي المجلات الأدبية ويستسيغونها ويهضمونها ولا يحسون بين صفحاتها من الزلط ما يثقل علي أذهانهم نستطيع أن نقول إننا قمنا بواجبنا. صدر العدد الأول للرسالة الجديدة في الأول من أبريل1954 وكان محقا في كثير من الأمر لما كتبه رئيس التحرير. كان الإخراج جميلا وبالألوان, وكان مفعما بالموضوعات الشيقة, وكان عالميا في محتواه الثقافي. شمل العدد موضوعات في القصة والشعر والنقد والسينما والمسرح. في البداية كانت كلمة المحرر للأستاذ يوسف السباعي وفيها قدم للمجلة كما أشرنا أعلاه. تلا ذلك مراجعة بقلم الدكتورطه حسين لقصة الأطماع الخائبة للكاتب الإيطالي المعروف ألبرت مورافيا. تلا ذلك صفحتان كاملتان بعنوان أنباء الأدب العالمي والعربي وأخبار الأدباء والمفكرين. عقب ذلك كانت الحلقة الأولي من قصة أم سحلول بقلم محمود تيمور. بعدها كانت قصيدة نادرة للشاعر كامل الشناوي بعنوان السلوان الكاذب: لا وعينيك.. يا حبيبة روحي لم أعد فيك هائما فاستريحي سكنت ثورتي فصار سواء أن تليني أو تجنحي للجموح واهتدت حيرتي..فسيان عندي أن تبوحي بالحب أو لا تبوحي وخيالي الذي سما بك يوما يا له اليوم من خيال كسيح والحنان الذي غمرتك فيه ضاع مني.. وخانني في جروحي والفؤاد الذي سكنت الحنايا منه.. أودعته نهب الريح لا وعينيك.. ما سلوتك عمري فاستريحي وحاذري أن تريحي تلا ذلك موضوع بعنوان غرام الأدباء بقلم الأستاذ عباس خضر يحكي لنا فيه من خلال المقالة الأولي المنشورة في ذلك العدد, قصة حب وزواج طه حسين, ويتتبع رحلة حياته بداية من الكتاب في قريته في صعيد مصروفي القاهرة وذهابه لباريس عقب إنتهاء الحرب العالمية الأولي مبعوثا مع رفاقه من قبل الجامعة المصرية, وهي قصة رومانسية رائعة, حيث تعرف في الجامعة بالفتاة الفرنسية التي تزوجها بعد أن أتم دراسته. يقول المؤلف: تقدم منها علي استحياء كي تساعده بالقراءة علي أعباء الدرس, فقبلت ورحبت, وأقبلت عليه بحنان ولباقة لم يعهدهما في امرأة من قبل.. فلم يكن يخطر له أن يلقي مثل هذا الحنان الذي وجده من فتاته خالصا صافيا. تستمر القصة في وصف معاناة طه حسين وعودته مع أقرانه الي القاهرة لمدة ثلاثة أشهر لأن الحكومة لم تجد حينها ما تنفقه علي طلاب البعثة فأعادتهم الي مصر, ذاق خلالها طه حسين لوعة الفراق المرير. يصف المؤلف ذلك: غير أن الله أنعم عليهما باللقاء بعد ثلاثة أشهر أليمة, ليقترنا عقب إتمام الدكتور طه حسين دراسته, وليعودا الي القاهرة عقب ثورة1919, وليستأنفا حياتهما الزوجية, محبين متعاونين في السراء والضراء, حيث هيأت له الزوجة الفرنسية أسباب الراحة والإطمئنان في حياته الخاصة, وشاركته في آلام نفسه وأمانيها, وكانت خير معين له في فترات شديدة من حياته, إذ كانت تحاول دائما أن تثبت فيه الصبر والشجاعة, وتربت إحساسه المرهف, فيمر بالشدائد كريما جلدا ظافرا. تستمر القصة الرائعة ونعرف من خلالها أن طه حسين عرف لها ذلك الفضل, وقد أبداه في بعض ما كتب, وعبر عنه بإهدائه إليها بعض مؤلفاته منها كتاب قصص تمثيلية, حيث كتب في إهدائه: الي زوجي التي جعل الله لي منها نورا بعد ظلمة, وأنسا بعد وحشة, ونعمة بعد بؤس, أرفع هذا الكتاب. كما أشار في كتابه الأيام إليها, حيث خاطب إبنته في آخرها, مذكرا بماضيه, بقوله: لقد حنا يا ابنتي هذا الملك زوجته علي أبيك, فبدله من البؤس نعيما, ومن اليأس أملا, ومن الفقر غني, ومن الشقاء سعادة وصفوا. ليس دين أبيك لهذا الملك بأقل من دينك. فلتتعاونا ياإبنتي علي أداء هذا الدين, وما أنتما ببالغين من ذلك بعض ما تريدان. جاء بعد الفصل الأول من قصة الماضي يعود بقلم عبد الحميد جودة السحار, ثم تلا ذلك صفحة تحوي حصرا للكلمات الجديدة التي أدخلت للغة العربية عام1954 والتي أقرها مجمع اللغة العربية: بعنوان كلمات جديدة, وعلقت المجلة تحتها: ننشر فيما يلي طائفة من ألفاظ الحضارة التي أقرها مجمع اللغة العربية, في دورته الحالية, من هذه الكلمات: كرسي, متكأ, أريكة, البهو, أباجور, إطار أو برواز, صوان أو دولاب, برنس الشاطيء, كشكشة, سجاف, المقصورة الأولي, مقعد أمامي, مقعد خلفي, مقعد شرفة, مقعد جانبي,مقعد علوي. حوي العدد أيضا مقالا بعنوان: الإنسانية الجديدة بقلم الدكتور لويس عوض, ومقالا بعنوان: قلم حبر... بين التابعي والصاوي بلسان توفيق الحكيم, وهو فيما يبدو مقابلة مع توفيق الحكيم أجراها معه المحرر أثناء عرضه عليه الكتابة في العدد الأول, فإعتذر الحكيم لأنه كان في فترة انعزال وانقطاع عن الكتابة, غير أن المحرر قرر أن يضم العدد الأول شيئا عن توفيق الحكيم, فكان هذا الحوار بينهما عن محمد التابعي والصاوي, وكتب المحرر في نهايته: أرجو من الحكيم ألا يحاول تكذيب المقال لأني قد أشهدت عليه شاهدين هما الأستاذ محمد سعيد العريان والأستاذ أنور أحمد في آخر لقاء لنا في نادي القصة. تلا ذلك مقال نقدي بعنوان: ليس عندنا أدب, بقلم أحمد فؤاد الأهواني, وتضمنت الصفحة ردا عليه من رئيس التحريرالأستاذ يوسف السباعي بعنوان: بل ليس عندنا من يقرأ الأدب, ذكر فيه: إما أن ينكروجود الأدب فليس هذا ذنب الأدباء, بل ذنب من لا يقرأ إنتاجهم ثم يتحدث عنهم. تلا ذلك نقدا لفيلم الوحش بعنوان: فيلم الوحش بين قوة المناحة وضعف القصة. ثم تلا ذلك نقدا لرواية خان الخليلي من تأليف نجيب محفوظ, بقلم الدكتور محمد مندور عنوانه: البرجوازي الصغير, وملخص النقد أن هذا البرجوازي الصغير أحمد أفندي عاكف كما صوره نجيب محفوظ وأحسن التصوير في دقة وأمانة, ولاحظ أنه إذا كانت هذه الطبقة الوسطي تضطرب حياتها بالألم والسخط والتمرد, كما تضطرب بعض علاقاتها الإجتماعية بسبب طموحها الفاشل وتخبطها في الجهاد للإرتفاع عن مستوي طبقتها الإجتماعي, والثورة علي أوضاع الحياه, وكثرة السخط نتيجة لإيمانها المسرف بحقها المضطهد وعبقريتها الشهيدة- فإنها مع ذلك تحتفظ بالكثير من أسمي الفضائل الإنسانية, التي يأتي في مقدمتها تقديس الأسرة والتضحية في سبيلها, وهذه الفضائل هي التي حملت نجيب محفوظ كما حملتنا علي العطف علي أحمد أفندي عاكف البرجوازي الصغير, الذي هو نموذج للطبقة الوسطي المصرية, بما فيها من هنات وفضائل, قد تتفاوت نسبها, ولكنها في جملتها حقائق يستطيع أن يتثبت منها كل مصري إذا أمعن النظر في سكان خان الخليلي وغيره من أحياء القاهرة, وذلك بشرط أن يحسن الملاحظة. تلا ذلك مقال بعنوان: من أساطير الحب عند الإغريق- غرام جاينميد_ بقلم دريني خشبة. ثم مقال بعنوان: عبد الله النديم- خطيب الثورة العرابية- بقلم الأستاذ أنور أحمد. ثم مقال عن فن الباليه للأستاذ كمال الملاخ. تلا ذلك قصة قصيرة للأديب يوسف السباعي بعنوان: نحيب في الليل. ثم مقالا عن الوجودية عنوانه الوجود والعدم بقلم الأستاذ أنيس منصور. تلا ذلك قصيدة بمناسبة مرور عام علي وفاة الشاعر إبراهيم ناجي الذي وافته المنية بتاريخ24 مارس.1953 ثم مقالا بعنوان: النجاح والفشل في برامج الإذاعة بقلم الأستاذ سامي داود, وقصة ترجمها عن اليابانية ولخصها الأستاذ رأفت الخياط من الأدب الياباني. تلاها مقال نقدي بعنوان: زلة شوقية, بقلم الأستاذ جمال مرسي, نقد فيها أمير الشعراء لقوله في قصيدته اللامية في تهنئة السلطان حسين كامل بمناسبة اعتلائه عرش مصر: حلفاؤنا الأحرارإلا إنهم أرقي الشعوب عواطفا وميولا أعلي من الرومان ذكرا في الوري وأعز سلطانا وأمنع غيلا اعتبر الناقد تلك الأبيات تملقا للإنجليز: ولعمري لئن لم تكن تلك الأبيات ملقا للبريطانيين, فلا ندري أي شيء تكون؟. تلت ذلك قصة قصيرة بعنوان امرأة من خزف بقلم يوسف الشاروني, ومراجعة بقلم الأستاذ محمد سعيد العريان لكتاب الأذكياء لابن الجوزي, وكذلك تضمن العدد الفصل الأول من تمثيلية بعنوان مأساة إبن المقفع من تأليف علي أحمد باكثير, ثم مقال بعنوان من هو المؤلف الحقيقي لقصة كليلة ودمنة, ومقال بعنوان الأزهر والجامعة بقلم الدكتور محمد يوسف موسي, ثم صفحتان كاملتان عن السينما والمسرح المصري والعالمي, ومقال إبداعي بعنوان: وظيفة اللغة.. ليست إخفاء الأفكار بقلم الأستاذ علي أدهم, ومقالا آخر بعنوان عندما يأتي الربيع بقلم الأستاذ عبد القادر السماحي, وقصة قصيرة بعنوان في عالم المجانين بقلم محمد سالم. غير أن أهمية العدد تكمن في نشر قصة بين القصرين لنجيب محفوظ, والتي تم نشرها تباعا في اعداد المجلة التالية. رغم عمرها القصير, فقد حفلت الرسالة الجديدة بالعديد من الإنجازات الأدبية الحقيقية الرائعة, وحفلت صفحاتها بالكثير من القصص التي صارت فيما بعد من كلاسيكيات الأدب العربي. ربما يكون إنجازها الأكبر في هذا المضمار هو نشرها بداية من العدد الأول لقصة بين القصرين لنجيب محفوظ والتي أصبحت الآن جزءا من التراث الإنساني كله, والتي تم نشرها الي غالبية لغات العالم ضمن الثلاثية. أيضا استطاعت تلك المجلة تقديم العديد من الفكر المعاصر والفلسفة المعاصرة مثل الوجودية والإشتراكية, وقدمت مبادئهما ورموزهما للقارئ العربي. بحق هي جزء مهم من ثقافة مصر الرفيعة الذي يضاف الي ثقافتها المتراكمة الخالدة.