في نوفمبر 1999 كتب إبراهيم أصلان مقالا مؤثرا للغاية تحت عنوان "في ذكري رحيل كاتب بديل"،وأعيد نشر هذا المقال في كتاب "خلوة الغلبان"، وكان ذلك بمناسبة أن الناقد السينمائي علي أبو شادي طالب بتكريم اسم الأديب عبد المعطي المسيري ، وفي هذا المقال يتحدث أصلان عن مجموعة ذكريات دالة وموجعة عن الأديب الذي صار مدرسة في النقد والإبداع والثقافة عموما . ويبدأ أصلان مقاله بأول لقاء له مع عبد المعطي المسيري ،ولم يكن يعرفه بشكل شخصي ، ولم يكن _حتي _سمع عنه ، رغم أن اسم عبد المعطي المسيري كان ملء السمع والبصر والأروقة الثقافية ، لذلك كان المسيري مفاجأة كاملة بالنسبة لإبراهيم أصلان ،لأن ظرف اللقاء ذاته كان مثيرا للغاية . ويكتب أصلان :"كانت مقاعد القاعة التي أنشأها يوسف السباعي مشغولة بجموع الأدباء والمتأدبين ،والمنصة يعتليها عدد من كبار ذلك الزمان ،والكلام يدور حول بعض الأمور الملموسة ،حين لمحت شيخا عجوزا يغادر مكانه ،ويشق طريقه بقامته القصيرة النحيلة ، ويصعد المصطبة الخشبية أمام المنصة ،ويدق الخشب بعصاه وهو يتطلع من وراء نظارته السميكة حتي خيّم السكون...تكلم الرجل متمهلا عن القصص التي يتم الاشتراك بها في مسابقة نادي القصة ،قال إننا نعرف جميعا أن هذه القصص في مراحلها النهائية ، يتم تحويلها إلي ثلاثة من الكتّاب الكبار لكي يضعوا تقديرهم لاختيار القصص الفائزة ،وأن أعضاء اللجنة ،بسبب مشاغلهم ،لا يجدون وقتا للقيام بقراءة هذا الكم من القصص المقدمة ،لذلك فإنهم يعهدون بها سرّا إلي من يقومون بهذا العمل ،ثم يعطونه نسبة من المكافأة التي يحصلون عليها من إدارة النادي ،وأنه شخصيا واحد من هؤلاء المحكمين من الباطن"!! كان هذا مثيرا جدا بالنسبة لإبراهيم أصلان الذي لم يحضر أي ندوات أو اجتماعات قبل ذلك كما يكتب في مقاله ،وأن الأمر بالنسبة _كما أسلفت_ مفاجأة كاملة ،الندوة والرجل والاجتماع ، ثم الهياج الذي أحدثه ذلك الرجل العجوز ، الذي تشبث بالوقوف علي المنصة ليفضح كل هؤلاء السادة الكتّاب المقاولين ،الذين يؤجرون الكتّاب الأقل شهرة والأقل منصبا ،حتي يقرأوا لهم الأعمال المقدمة للمسابقة. وعندما سأل أصلان صديقه محمد حافظ رجب ،الذي اصطحبه إلي المكان "دار الأدباء" :من هذا الرجل ، فردّ عليه حافظ :"ده عمك عبد المعطي المسيري"، وبعدها يخرج الثلاثة "أصلان وحافظ رجب والمسيري" ، ليتم التعارف بين المسيري وأصلان ، ويسير الثلاثة مشيا علي الأقدام ، حتي وصلوا إلي حيّ الكيت كات، ويكتشف أصلان أن بيت المسيري يبتعد عن بيته قليلا ، ويستضيف المسيري صديقيه الجديدين، ويدرك أصلان أن حياة المسيري في غاية البؤس ، للدرجة التي منعته من زيارته مرة أخري ، رغم السلامات التي كان يرسلها له مع حافظ رجب ، وبعد سنوات يلتقي أصلان بحافظ رجب ، ويسأله عن المسيري ، ويخبره رجب "ده مات"، وللأسف لم يسمع بخبر موته أحد علي الإطلاق ، ولم ينشر له نعي بدا ، ذلك لأنه رحل في اليوم الذي رحل فيه جمال عبد الناصر. وللأسف لم يدرك أحد موت عبد المعطي المسيري، ولا حياته الصاخبة والمزدحمة والمفعمة بالنشاط الثقافي المحترم والنوعي ، منذ أوائل ثلاثينيات القرن العشرين ، ولن يجد القارئ الكريم له أي صورة علي شبكات الانترنت بشكل حصري ، رغم أن بعض تلاميذه ورواد مقهاه الشهير كتبوا عنه مقالات كنوع من تخليص الضمائر وتأدية الواجب ، وحتي الآن لم يتناول أحد ظاهرة عبدالمعطي المسيري بالشكل الذي يليق به ،وأنا أعني كلمة ظاهرة بالفعل ، فهذا الرجل الذي جاءت نهايته علي هذا النحو المأساوي ،والذي وصفه ابراهيم أصلان _في مقاله السالف الذكر_بتوسع ،كان محورا فعّالا في الحياة الثقافية ،وكان أحد رموز الثقافة خارج القاهرة، وكان مقهاه في دمنهور مدرسة لكثير من الأدباء والكتّاب والفنانين ، من طراز أحمد محرم وأمين يوسف غراب ومحمد عبد الحليم عبدالله وزكريا الحجاوي ومحمد صدقي وفتحي سعيد وغيرهم ،وكذلك كانت قبلة لكثير من أدباء القاهرة مثل توفيق الحكيم ومحمود تيمور ومصطفي صادق الرافعي وغيرهم. وفي يناير 1957 ،وفي العدد الأول من مجلة "المجلة" ،كتب رفيع المقام يحيي مقالا عنوانه "ذكريات وآراء عابرة ..القصة :ماضيها ومستقبلها"، وفي المقال لم يستطع يحيي حقي أن يتجاوز المناقشات والحوارات التي كانت تجري علي قهوة المسيري في عقد الثلاثينات ،واعتبرها أحد المحركات للتطور الأدبي في مصر ، فكتب :"..وقد ملأ نفسي شعور بالزهو والثقة حينما ظهر بيننا اسم زميل قيل لنا إنه صاحب قهوة في دمنهور ..هذه هي حلقتنا تتسع ،وهذه هي أقدامنا تستقر علي أرض صلبة ،ولم يكن مما يغاير طبعي أن أسعي إلي لقائه ،فسافرت إلي دمنهور ،لا لغرض إلا لأحجّ إليه ،ذهبت وفي رأسي أخيلة عجيبة ،كنت أجزم أنه صاحب قهوة بلدية جلّاسها يدخنون الجوزة علي مقاعد من القشّ.."،ويرسم يحيي حقي صورة متخيّلة لقهوة شعبية كما كانت المقاهي في ذلك الزمان ، ولكنه يستطرد :"ولكن القهوة التي دخلت إليها كانت في وسط البلد ،مستطيلة ،مرسومة بالمسطرة صفّت إلي جدرانها موائد من الرخام ، عليها غطاء من اللبّاد ، ..تقدمت إلي صاحبها ،وبلغ بي الغرور وقلت له : أنا فلان ! ألسنا أبناء في طريقة واحدة ؟ّ، ثم رجعت ونفسي مكسورة..لأنه لم يكن يعرف اسمي ،ولم يقرأ لي قصة واحدة ". لم يذكر يحيي حقي اسم عبد المعطي المسيري في مقاله ، ورغم أن الحادثة مرّت عليها أكثر من عشرين عاما ،إلا أن آثارها كانت قد تركت أثرا عميقا عند حقي ، فهو قد ذهب إلي المقهي ليحصل علي الشرعية الأدبية من مقهي المسيري ، ولكنه لم يجد أثرا له ولا لرفاقه هناك ، لذلك عاد حقي غير سعيد ، وللأسف كل الذين ذكروا بأن يحيي حقي كتب عن المسيري ومقهاه لم يقرأوا ما كتبه يحيي حقي ، ولم يدركوا مغزاه ، ولم يفطنوا إلي أن حقي أسقط اسم المسيري عمدا حسبما أعتقد وأستنتج. والأكيد أن مقال يحيي حقي أثار أحد روّاد القهوة الكبار ، وهو الباحث والناقد الظاهرة زكريا الحجاوي ، ذلك الكاتب الذي كان يفخر بأنه كان منجّدا، وعندما يعود من عمله بالتنجيد ، يظل مرافقا لصديقه عبد المعطي طوال الفترة المسائية ، يتناقشان في الأدب والثقافة وما تجدّ به الحياة الأدبية ، زكريا الحجاوي كتب مقالا في مارس 1957 ،ونشرته مجلة الرسالة الجديدة ،وكان عنوانه الأساسي "رصيف قهوة المسيري"،وتحت العنوان الكبير جاء عنوانان مقتبسان من أحاديث المسيرة مع الحجاوي، أولهما :"تعرفت علي توفيق الحكيم في النيابة"، والثاني :"تعلمّت كتابة القصص من الكتب أمّ مليم"، ماعدا ذلك جاء المقال مذكرة دفاع حماسية في حق المسيري ، وسرد ممتع لحياته الشاقة والمدرسة ،وذلك منذ أن كان والده يعلمّه القراءة والكتابة أثناء الحرب العالمية الأولي ، حيث إن عبد المعطي كان من مواليد 1909، وعندما قامت الحرب كان هو في الخامسة من عمره ، وبعد انتهائها عام 1918 كان عبد المعطي قد بدأ يفكّ الخط ويستطيع القراءة ،وكان والده الذي أنشأ المقهي منذ السنوات الأولي في القرن العشرين ، يستعين بابنه ليقرأ له الصحف التي كانت تنشر أخبار مابعد انتهاء الحرب ، وقبيل قيام ثورة 1919 ، ومن هنا راح الصبي عبد المعطي يتسلل إلي عوالم أدبية وثقافية أخري بعدما يفرغ من قراءة الأخبار لوالده ، وكان والده في البدايات يستعين بأحد الرواة الشعبيين الذين يعزفون علي الربابة ، وكان هذا الراوي يسرد بمصاحبة العزف القصص والملاحم الشعبية ، وبعدما كبر عبد المعطي واستطاع أن يلمّ بتلك القصص والملاحم ، استغني والده عن الراوي التقليدي ،وأجلس عبد المعطي مكانه ليقوم بدوره في الحكي ، ولكن دون ربابة. هكذا دخل عبد المعطي إلي عالم الثقافة من أبواب عديدة ، وكان هناك ركن آخر للشاعر أحمد محرم ، ذلك الشاعر الذي كان يقف دائما علي يسار كل الشعراء المصريين في ذلك الوقت ، فلم يمدح سلطانا ولا ملكا ولا مسئولا ، وعاند كل الحكام الذين تعاقبوا عليه ، ولذلك فقد حرم من أي مزايا كان يحصل عليها الشعراء ، وهناك حكايات كثيرة تحكي عن ذلك الشاعر الذي كان يهاجم الملوك والمسئولين ويستمتع بتحريض الناس والمثقفين والكتّاب علي مقاومة الظلم والاستبداد والفقر ،وذلك من منبره المتواضع هذا ،وهو قهوة المسيري، وتكّونت حول أحمد محرم مجموعة من الكتّاب ، ونشأت حركة ثقافية جادة ، اتسع فيها قوس المناقشات الأدبية والثقافية والفكرية بشكل ملحوظ ،وكان الشاب محمد عبد المعطي المسيري هو الذي يقود تلك المناقشات بجدارة ، ذلك الوقت الذي ذهب فيه يحيي حقي ، فلم يدركه المسيري ، ولم يكن قد قرأ له قصة واحدة ، ولكن كان من بين المترددين علي المقهي توفيق الحكيم عندما كان يعمل وكيلا للنيابة، وكان يذهب إلي المقهي بعد انتهاء وقت العمل ، وكانت فرنسا في ذلك الوقت قد شدّدت كافة أشكال التنكيل علي شعب الجزائر ، وكان المسيري يكتب مقالات وينشرها في الصحف هجوما علي الفرنسيين ، وفي هذا الوقت كان الحكيم قد ألف مسرحيته "أهل الكهف"، وكان يأتي إلي المقهي شبه ذاهل، ذلك الذهول الذي يصيب الفنانين ، وعندما قرأ المسيري المسرحية ، لم يفهم شيئا ، فما معني تلك الشخصيات التي تسمّي بقمطير وميشيلينيا وبرسكا ، ولم يكن المسيري يعرف عن توفيق الحكيم سوي أنه كاتب للمسرح ، ولكن المسيري وجد نفسه متهما بالقتل ،وتهديد أحد رؤساء تحرير الصحف المدافعة عن الفرنسيين بالاغتيال ، وذهب المسيري إلي النيابة ليلتقي بذلك الساحر المشعوذ وكاتب المسرح توفيق الحكيم ،والذي كان يعمل وكيلا للنيابة ، فأخلي سبيله علي الفور، وسجّل المسيري تلك الحكاية في قصة اسماها "أهل الكهف"،وضمها إلي مجموعته "مشوار طويل" التي صدرت عام 1964 . كان المسيري الذي صار أحد أعلام الثقافة في مصر آنذاك ، ثقافة الرصيف والمقهي والحوار الذي يأتي دون حسابات ، الثقافة التي لا ترتدي الياقة البيضاء والكرافت، يكتب للصحف الرائجة فتنشر له ،وكان يقول آراءه بكل وضوح وشجاعة ، فعندما كتب الدكتور طه حسين مقالا هاجم فيه الشعراء الشباب ،منهم علي محمود طه وإبراهيم ناجي في جريدة الوادي عام 1934، كتب عبد المعطي المسيري رسالة يردّ فيها علي الدكتور العميد ،وكان عنوان المقال :"كتاب إلي عميد الأدب العربي الأستاذ الكبير الدكتور طه حسين ..في الثقافة"، وجاء في رسالته بعد تقديم بعض الآراء :"..إنني يا أستاذي الجليل شاب لم أتعلّم في المدارس ،بل لم أتشرّف بدخولها ،تعلمت القراءة والكتابة وأنا في السوق أكابد العيش ، استطعت أن أقرأ وأكتب ،وكانت مهنتي تحتّم عليّ أن أظل جالسا أربع عشرة ساعة ،كيف يمضي هذا الوقت ؟ أخذت أقرأ وابتدأت بالأدب القديم ككل قارئ يقرأ للتسلية فالتهمت كتب ألف ليلة وعنترة والزير سالم ،هذا في ساعات النهار وفي الليل الصحف والمجلات ..."، ويسترسل المسيري في رسالته ، كل ذلك لكي يقول لطه حسين بأنه كان قاسيا علي هؤلاء الشباب ، وربما تكون تلك القسوة مانعا قويا لتطور هؤلاء الشباب ، بل وربما تصبح عائقا لاستمرارهم في الكتابة ،وكان من الأجدي بطه حسين أن يأخذ بيد الشباب ، ناصحا لهم ، ورفيقا بهم ، وعاطفا عليهم ، بدلا من ذلك الجفاء ، بل راح يقرّعه قائلا :"..سيدي : أراك تتخذ لنفسك في النقد خطة هدّامة لا سبيل للبناء معها ،فأنت تعمل معولك في كل مايصادفك دون رحمة ، قد تقول إن النقد خير مقوّم للكاتب وأنا معك في ذلك ولكن ها أنت تري الدكتور ناجي يصرّح أنه دخل ضيفا علي الأدباء فلم يحسنوا وفادته ولذلك فهو لا يفكر أن يكون ضيفا مرة ثانية ، وتري الأستاذ إبراهيم المصري قد حرم القراء من مقالاته القيّمة واختفي علي إثر نقدك لقصته (نحوالنور) ،ألا تري معي أنك كنت قاسيا حينما شاهدت أثر النقد ولم تلق بالمعول وتمسك بأدوات البناء؟.."، ويستطرد المسيري في تقريعه لطه حسين ، ويخبره بأنه هو وجيله من الشجعان لأنهم يتصدون لمثل هذه الهجمات :"..لذلك أقف منك موقف الناقد ،سأنقدك لتعلم أن شباب الجيل يرجي منه الخير وإن أجهلهم يري لنفسه أن ينتقد عميد الأدب العربي .."،ولايتوقف المسيري في مواجهة طه حسين، بل يعقد مقارنة بين جيله الشاب، والذي يحتاج إلي التشجيع ،وبين طه حسين نفسه في شبابه قائلا له :"أعرض عليك ياسيدي شيئا صنعته وأنت في سن الشباب لتري أن الشباب الآن أقوي من شباب الجيل الماضي ،وأرجو أن تمعن النظر فيه وتنقده معي ورجائي ألا تغضب ،فأنا الآن أتكلم مع طه حسين الأديب الناشئ ،وأنقد قصيدة له نظمها في 26 أغسطس سنة 1909 كما أحب أن تسلم معي أن النقد العنيف لا يفيد أدباء الشرق وإلا فأرني الناقد القاسي يوم قلت أنت (القصيدة) ولتقارن ياسيدي بين ما سأعرضه عليك وبين ما ينظمه شبابنا الشعراء اليوم..."، وراح يعرض المسيري بضع قصائد ضعيفة لطه حسين كان قد كتبها في شبابه ، وافترض أن تلك القصائد لو نالت بعضا من النقد الذي يوجهه للشباب اليوم ، لكان ذلك النقد أسكته للأبد. ويكفي هنا ماعرضنا من الأفكار الشجاعة التي وردت في الرسالة ، حيث أن الرسالة طويلة ، وتعدّ بمثابة دفاع مخلص عن ذلك الجيل الشاب ، رغم أن المسيري لم يكن قد تجاوز الخامسة والعشرين من عمره ، وكذلك لم يكن من النخبة ، بل كان مجرد قهوجي ،كافح من أجل أن يحصل علي ذلك القدر الواسع من الثقافة ، وعندما وصلت الرسالة إلي طه حسين في جريدة الوادي ، وافق فورا علي نشر الرسالة ، وزاد علي ذلك أنه كتب ردّا مطولا علي عبد المعطي المسيري ، وأبدي إعجابه به ، وناقشه في كافة التفصيلات التي وردت في الرسالة ،وأكثر من هذا وذاك خصّص له مقالا أسبوعيا في الجريدة ، وهذا لم يكن غريبا علي رجل مثل طه حسين ، إذ كتب في مستهل رسالته :"كان ظريفا ممتعا هذا الفصل الذي نشرته جريدة الوادي مساء الأحد الماضي للكاتب الأديب عبد المعطي المسيري بدمنهور ، يجادلني فيه حول ما كتبته في نقد الشعراء ،وفي ثقافة الأدباء وقرّائهم ، وأشهد أني قرأت هذا الفصل مرتين ، قرأته قبل أن آذن بنشره ثم قرأته الآن قبل أن آخذ في كتابة هذا الفصل ،ووجدت في قراءته لذة قوية ،ومتاعا خصبا ،وأحسست إعجابا عظيما بهذا الرجل الذي ثقف نفسه كما استطاع ،لم يختلف إلي مدرسة ولم يجلس إلي أستاذ ،ولم يستمع من معلم ،وإنما تعلم القراءة والكتابة في السوق ، وأخذ يقرأ مايذاع في العامة من هذا الأدب العامي اليسير..."، وراح طه حسين يناقش أفكار الرسالة فكرة تلو الفكرة ، غير آبه بعمر ذلك الشاب ، ولا بمهنته ،ولم يتعال عليه ،بل احتفي به كما يليق بكاتب ذي أهمية بالغة. وفي عام 1936، أصدر المسيري كتابه الأول ، وتضمن هذا الكتاب مقال طه حسين الذي اتخذه المسيري بمثابة مقدمة للكتاب ، ووضع للكتاب عنوانا دالا وهو "في القهوة والأدب"، وهو كتاب شديد الإمتاع ،وأعتقد أنه لم يصدر في طبعة ثانية ، وظل المسيري في قهوته يكتب القصص والمقالات ، وينشر في مجلات ذائعة الصيت ، حتي أن أصدر في الخمسينيات مجموعته القصصية الأولي وهي :"الظامئون"، ثم مجموعته الثانية "أقاصيص من القهوة"، وتوالت مجموعاته الأخري منها "روح وجسد"،و" مشوار طويل" عام 1964، ثم مجموعته "ترجمة انسان" 1967، ومن الدراسات الأدبية صدر له كتاب "مع 10 من رواد الأدب العربي الحديث"، وبعد رحيله نشرت له الهيئة العامة للكتاب ،كتابا نقديا وهو "من معالم الطريق ..في الأدب العربي الحديث". وفي كل ما كتبه الكاتب والأديب محمد عبد المعطي المسيري ، كان جادا ومهموما ، ومثيرا للتقدير والاحترام ، مهما كانت درجة الاختلاف مع مايذهب إليه ، ولكن الحركة النقدية والثقافية تعاملت معه علي اعتبار أنه كاتب من الدرجة الثانية أو الثالثة ، رغم أن كتابه الأول الذي أشرنا إليه ينمّ عن عقلية منهجية رصينة ، وشخصية مثقف محترمة ، لا تحتاج الالتفات فقط ، بل نحتاج_نحن_ إلي إعادة نشر أعمال ذلك الرجل الذي أهملناه حيّا وراحلا ، أتمني أن يعاد تقييم عبدالمعطي المسيري ،وتكريم اسمه ، وجمع تراثه حتي نستطيع إدراك المساحات الغائبة في تاريخنا الأدبي والثقافي.