لم تخطر علي بال أردوغان أن تأتيه ضربات الإرهاب بكل هذه القسوة والسرعة, وأن يقضي ليلة رأس السنة وهو يتابع عمليات نقل الضحايا من ملهي اسطنبول الليلي, ومحاولات الشرطة التعرف علي المهاجمين, وقبلها بأيام كان قد قطع اتصالات الإنترنت عن تركيا, حتي لا يري الشعب المشهد المروع لحرق الدواعش اثنين من جنوده الأسري وهما أحياء, بعد أن وضعهما الدواعش في قفص حديدي, وكانوا يجرونهما زحفا علي الركبتين واليدين, إهانة لا يمكن أن يبتلعها ما تبقي من قادة الجيش التركي, ولا تتناسب مع أحلام استعادة الخلافة العثمانية, فلا يوجد كابوس أبشع من هذا المشهد. أما حادث اغتيال السفير الروسي في تركيا علي أيدي أحد ضباطه, ومن بين حرسه الخاص, والخطاب التكفيري الذي أدلي به, كشف أن الإرهاب قد تغلغل في عمق مؤسساته الأمنية, ووضعه في موقف بالغ الحرج. لم يعد أردوغان يحلم إلا بالخلاص من هذا المأزق, وأن يبدأ محاولة احتواء هذه الأزمة, التي كان أهم المساهمين في تخطيطها وتنفيذها, واعتقد أن الولاياتالمتحدة سوف تكون إلي جانبه في كل خطوة, حتي يصعد إلي عرش الخلافة, وإذا بها تمد أيديها إلي خصومه الأكراد, وتمدهم بالسلاح الذي سيرفعونه ضده, للمطالبة بالاستقلال وتفكيك تركيا. كان أردوغان يعتقد أنه يمسك بجميع الحبال في يديه, وكل الأطراف في حاجة إليه, ويقفز من هذه الجهة إلي تلك, لكنه وجد أن حبال الأزمة ليست بين يديه وإنما حول عنقه, وأن عليه البحث عن الخلاص, ولهذا كان اندفاعه باتجاه موسكو, وأن يجد في بوتين صديقا موثوقا عن الأمريكان, حتي لو لم يربح الكثير, أو حتي تتوقف الأموال الخليجية ليواصل إمداد الجماعات المسلحة بالعتاد. يبدو أن أردوغان مضطر إلي السير في طريق التخلص من الجماعات الإرهابية, فقد أدرك خطورتها الكبيرة عليه, وأنها يمكن أن تنقض علي دولته, وتجد فيها من يتعاونون معها, فلا يمكن أن تتسع مدن أنقرةواسطنبول للجماعات التكفيرية ونمط الحياة الأوروبي جنبا إلي جنب, فالملهي الليلي سيكون هدفا للتكفيريين, ولن يستطيع أن يحول تركيا إلي أفغانستان, وجزء منها يقع داخل أوروبا. لهذا جاء قرار أردوغان بالموافقة بعقد مؤتمر لحل الأزمة السورية في عاصمة كازاخستان, مديرا ظهره لأوباما, الذي سيغادر البيت الأبيض في غضون أسبوعين, وهو صاحب مشروع الاستعانة بالجماعات التكفيرية لتدمير وتقسيم العراق وسوريا, وسيأتي دونالد ترامب الرافض لدعم هذه الجماعات, وعليه أن يسبقه إلي التعاون مع الرئيس الروسي بوتين, الذي يبدو أنه المنتصر في هذه المعركة. لم تتغير لهجة أردوغان, إنما بدأ في ترميم علاقته بكل من العراق وسوريا, وأعلن أن التخلص من الإرهاب يبدأ بحل الأزمة في الدولتين, وسيزور رئيس الوزراء التركي بغداد ليبحث مع رئيس وزراء العراق حيدر العبادي التعاون في مواجهة داعش, وسحب الجزء الأكبر من قواته في بعشيقة, وتوقف عن دعم القوات العراقية التي كان يدربها لتكون موطئ قدم له في الموصل, وجري دمج هذه القوات في الحشد الشعبي العراقي, الذي طالما اتهمه بأنه ميليشيات طائفية, وهو مضطر أيضا أن ينسق مع الحكومة السورية في احتواء التوسع الكردي بمساعدة الولاياتالمتحدة, ووقف المشروع الفيدرالي الذي تتبناه أمريكا, والذي سيؤدي إلي شرخ في الجسد السوري سيمتد قطعا إلي تركيا. هكذا يبدو أن الضربات التي تلقاها أردوغان من الإرهاب والولاياتالمتحدة قد غيرت مسارات سيره, بعيدا عن المشروع الأمريكي شديد الخطورة, والذي يتهاوي, تاركا عشرات آلاف الإرهابيين الذين يضربون بقسوة في كل اتجاه, حتي طال إرهابهم من ساعدوهم, وقد يستوعب أردوغان بعض الدروس, لكن من الصعب أن يكف عن مراوغاته وتقلباته.