نحن نعيش الآن مرحلة المجتمع الجديد المنكوش الذي يحتاج إلي تمشيط ليبدو الوجه واضحا جليا.. مرحلة تأسيس جديدة.. هكذا سمعت الدكتور المرموق محمد حسني الحفناوي يقول.. والمعني واضح إننا نبحث مع الحرية عن هوية مصرية صميمة تتجاوب مع المجتمع العالمي الجديد المفتوح بين الأرض والسماء.. مجتمع يعيش ع الهواء. وهنا أتذكر كلمات الأستاذ محمد حسنين يقول في تقديمه لكتابه في دهاليز الصحافة: إن هناك ثلاثة أسس لشرعية نظم الحكم في الدنيا وفي التاريخ. * هناك في البداية الشرعية التقليدية.. وهي في الغالب تقوم علي عوامل دينية أو قبلية يستند إليها الأمر والطاعة في كل شيء, والسعودية مثلا نموذج لهذا النوع من النظم. * وهناك الشرعية الدستورية والقانونية.. وهي الشرعية التي تقوم علي التوازن بين الطبقات وقوي اجتماعية حققت داخل وطنها قدرا من النمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي سمح كل منها بدور في عملية الإنتاج وتوزيع عوائدها بما يحقق لها الحد المقبول من مطالبها, ويدعوها إلي الحوار الديمقراطي لتحقيق أي زيادة في هذه المطالب, وما يترتب عليها من حقوق وواجبات, ونموذج هذا النوع من النظم بريطانيا.. مثلا. * وهناك بين الاثنين.. بين الشرعية التقليدية ذات الأصول الدينية أو القبلية.. والشرعية الدستورية والقانونية.. شرعية أخري.. هي في الحقيقة شرعية مرحلة الانتقال بينهما.. شرعية تمثل نظما مستمرة للانتقال بالمجتمع من الماضي إلي المستقبل, وفي بعض الأحيان فإن هذه الشرعية تكون شرعية نظام رجل تاريخي يصبح عصره زمن تحولات عظمي. لقد قلت والكلام للأستاذ هيكل في بعض الأحيان لأن الظروف مرات تدفع رجلا واحدا إلي موقع شاغر دون أن تكون له الأهلية لتحمل مسئولياته, وهو في هذه الحالة ينزل بالدور من قمم التاريخ إلي مهاوي الديكتاتورية, مما يفقد أساس شرعيته.. ثم إن الظروف في بعض الأحيان تجيء بفترات من الاضطراب تختلط فيها الأمور والظواهر وتضيع الواحة في السراب, والسراب في الواحة! ونماذج هذا النوع من النظم الذي يقوم علي شرعية الرجل الواحد ودوره كثيرة في التاريخ, وكرومويل في انجلترا, ونابليون في فرنسا, وبسمارك في ألمانيا, وفي عصرنا الحديث فإن دول العالم الثالث بحكم التطور تعيش مرحلة انتقال حفلت وتحفل بنماذج متعددة من شرعية الرجل الواحد مثل ديجول في فرنسا, وعبدالناصر في مصر, وتيتو في يوجوسلافيا. إن الصحافة في أي بلد من بلاد العالم جزء من السياسة فيه, ففي ظل نظم الشرعية التقليدية فإن الصحافة مثل كل شيء آخر, ملك للأسرة أو ملك لرضاها. وفي ظل الشرعية الدستورية والقانونية حيث تتعدد القوي الاجتماعية ويصبح الحوار الديمقراطي ممكنا فيما بين هذه القوي, فإن الصحافة يمكن أن تكون وسيلة لهذا الحوار الحر, وبالتالي يتاح لها أن تقوم بدور مسئول ومستقل في العملية الديمقراطية كلها. كلام الأستاذ في حاجة إلي تأمل ودراسة في مرحلة إعادة ترتيب الأوراق المصرية! هو يستطرد.. في ظل النظم التي تقوم علي شرعية الرجل الواحد, سواء ارتفع إلي مستوي التاريخ, أو هبط إلي مستوي ديكتاتور لتتآكل من تحت مقعده دواعي شرعيته.. إن الحياة السياسية كلها تذوب في مصدر واحد, ويصبح لها مركز وحيد. إن الصحافة في تلك الحالة.. وهذا حكم طبائع الأمور نفسها تجد نفسها قرب هذا المركز, وربما كان الخيار الوحيد الممكن لها هو تحديد مكانها: هل تكون قرب الرأس من هذا المركز, أو تكون قرب الذيل؟! هو يتحدث عن الحركة التاريخية: الحركة التاريخية ومسيرة النضال الإنساني شيء أرحب من ذلك وأخضب, والحقيقة أن كل مرحلة من المراحل لا تنقضي إلا عندما تبدأ قوي مرحلة تليها في الهجوم عليها وتطويقها ومطاردة بقاياها, وهكذا فإن هوامش الحركة التاريخية كثيرا لحظات تداخل مهيب.. يبدو فيها كأن الماضي والحاضر والمستقبل معا.. أطراف في ساحة واحدة يدور عليها صراع ليصبغ الأفق كله بمزيج من الألوان الباهرة! { هكذا نحن الآن * إن مراحل التطور وشرعية النظم السياسية لا تنتهي وحدها, وإنما تجيء في النهاية حين تكون الظروف الموضوعية قد هيأت وأظهرت القوي التي تستطيع أن تهاجم وتطرق وتطارد, وهكذا يتهاوي قديم ويبرز جديد وتمضي العجلة في دورانها. * إنه علي هذا النحو فإننا نستطيع أن نتصور أن مرحلة الشرعية التقليدية تواجه أزمتها حين تنمو في مجتمعاتها قوي جديدة تتحدي قواعد وقوائم شرعيتها, وغالبا ما تكون قادرة علي تحدي التقليد دون أن تكون قد بنت لنفسها قواعد وقوائم بديلة لنقل مجتمعاتها إلي الهدف الأكبر والأعظم, وهو الشرعية الدستورية والقانونية, ثم إن هناك لحظات التداخل المهيب حين يحتدم الصراع بين بقايا التقليدي.. واحتمال الرجل الواحد.. واحتمال طلائع الحقيقة الديمقراطية. ويبقي أن نعود إلي السؤال الأول عن المجتمع المنكوش.. إننا في حاجة إلي أمن الشارع.. رجل الأمن الرصين يقود عودة أمين الشرطة إلي الشارع. إن أمين الشرطة لا يقل عن ضابط الشرطة, وأحيانا يكون راتبه أكثر من الضابط لأنه يعمل ليل نهار, وطبيعة عمله في الصيف والشتاء كانت تستدعي ذلك, وكذلك زيادة دور بوليس النجدة, وبعد ذلك علينا أن ننتظر ونهدأ ثلاث سنوات حتي تنمو البذرة في أرض التحرير.. حديث المستقبل طويل.. طويل.. أطال الله في عمر الجميع.