في منتصف ديسمبر الماضي, أتيح لي حضور فعاليات مهرجان الشارقة للفنون الإسلامية في دورته التاسعة عشرة, والذي تقيمه دائرة الإعلام والثقافة بحكومة الشارقة في مثل هذا التوقيت من كل عام. وقد أثار دهشتي التنوع الثقافي والفني المشارك في المهرجان والذي ضم فنانين ونقادا ذوي تجارب ومصادر ثقافية وحضارية وجغرافية متعددة, من أقصي الشرق اليابان إلي أقصي الغرب الولاياتالمتحدةالأمريكية, ومن أقرب نقطة في جنوب الكرة الأرضية إلي أبعدها في الشمال. كما كان اختيار اللجنة المنظمة لتيمة بنيان كشعار لهذه الدورة موحيا وموفقا, فكلمة بنيان في المعجم تشير إلي العمارة والعمران,إلا أن دلالاتها واستخداماتها العلمية والعملية تتسع وتنبسط لتشمل كذلك كل- أو بالأحري جميع- أشكال وألوان وتجارب البناء والفنون الزخرفية والهندسية المصاحبة لعملية البناء بوصفها تعبيرا عن اكتمال البنيان أو البناء. وبالتالي تعد مفردة بنيان المستخدمة في هذا الشعار,وحدة لغوية وبنائية تتكامل بداخلها الأداة أي اللغة والرؤية بمعني التعبير العملي والفني في آن واحد. فمن ناحية يعبر هذا الزخم الفني والتشكيلي المتنوع بجلاء ووضوح عن أمم وشعوب وثقافات خلقها الله لتتعارف وتتنافس في مسارات الحياة عبر وسائط الإنجاز والعمران, لا باستخدام أدوات القتل والهدم والإرهاب. ومن ناحية أخري فإنه يكرس عمليا وواقعيا لثقافة البناء التي يحرص علي نشرها وتعميمها الشيخ الدكتور سلطان القاسمي في كل ربوع الإمارة,باعتبارها القاسم المشترك الأعلي لفلسفته ورؤيته الثقافية والحضارية, والتي من شأن شيوعها وانتشارها علي هذا النحو أن تؤدي بدورها إلي دورة حضارية أخري أعم وأشمل في المستقبل القريب. وبدون شك فإن مظاهر وتجليات هذه النهضة العمرانية ذات الجذور الإسلامية, وإن كانت لا ترفض الحداثة, تقوم علي نظرة عرفانية خاصة, تمثل في تقديري المدخل والعنوان نحو فهم مشروع القاسمي العمراني والجمالي للشارقة كمدينة عصرية تأخذ من الماضي والتراث أصالته, وتواكب منجزات الحداثة في مختلف المعارف والعلوم والتكنولوجيا, بحيث تنصهر في بوتقة واحدة فتمتزج وتتأصل في عقول ووجدان الأطفال والشباب, فلا ينسلخون عن الجوهر المكنون والثري للتراث العربي والإسلامي. لا سيما في ظل ما تشهده بعض المدن الإماراتية, من عمليات تطوير وعمران تتبني في مجملها صورة وهيئة وطرز المعمار الغربي ذي الارتفاعات الشاهقة والبلاستكية, وهي في ظني مبان بلا روح أو حياة,لا تعبر حقيقة عن الثقافة العربية أو ترتبط بهويتها الشرقية الأصيلة, بل هي خلطة مرتبكة من الغربة الموحشة والفردانية المقيتة في أبرز صورها وأشكالها. وبموازاة آيات الجمال العمراني والروحي المنتشرة في عشرات المباني التراثية والمساجد ذات الطرز الإسلامية المتنوعة, هناك فعاليات ومهرجانات فنية وثقافية ومسرحية تقيمها دائرة الإعلام والثقافة جنبا إلي جنب مئات الأنشطة والندوات الأخري التي تعقد هنا أو هناك في مختلف أروقة الشارقة وميادينها وشواطئها المزهوة برقتها ووداعتها, وكأنها طيور ظلت سابحة سارحة في ملكوت الله الواسع الفسيح, فحطت بها بعد عناء سفر طويل, أو عقب رحلة تاريخية استغرقت مئات السنين, لم تجد فيها هذه الأرض عناية ولا رعاية من أحد إلي أن قيض الله لها رجلا بقدر وقامة سلطان القاسمي ذي البصر والبصيرة, فأعاد صياغتها وتعميرها متخذا من الطراز العمراني الإسلامي رمزا ومضمونا لها,فتدفقت الدماء في أوردتها وشرايينها بالمعاهد العلمية والجامعية والمباني التراثية, وبدأت تدب في أوصالها حياة متجددة وسعادة دائمة, تظلها روح عربية وإسلامية تشع نورانية ومحبة. يلتف حول هذه الأنشطة فنانون وباحثون وصحفيون من شتي بقاع المعمورة.. مصريون وسوريون ولبنانيون, ومن الأردن وفلسطين والسودان وموريتانيا, يشكلون جامعة دول عربية مصغرة, ولكنها فاعلة ومتناغمة, إضافة إلي عشرات الكتاب والأدباء والشعراء والمسرحيين, وغيرهم من أصحاب الحرف والصنائع الذين تجمعهم هذه المهرجانات والمؤتمرات, فيتكلمون ويبحثون ويتبادلون الحوار والنقاش, وكذلك الصور والعناوين وأرقام الهواتف والفيس بوك والواتس آب.. وهلم جرا... غير أنهم جميعا- نعم جميعهم- يتفقون علي جملة واحدة, رغم تعدد لغاتهم وألوانهم. إن الشارقة أصبحت مثالا يحتذي لمدن الثقافة والفنون والجمال.. فقد صارت حقا مدينة مدهشة في هدوئها ورقتها وإنسانيتها. خذ علي سبيل المثال لا الحصر, حدائق النور والفراشات والأطفال المكسوة بالعشب الأخضر والأشجار والنخيل, ومسرح المجاز ومقاي الشناصية التراثية المطلة علي الخليج, أو غيرها من الأماكن والمنتديات المفتوحة للجمهور في قلب الشارقة القديمة النابض بعشق التراث العربي الأصيل, وكأنها كانت علي موعد مع حلم صعب المنال, فأصبح حقيقة بفضل تلك الرؤية العرفانية التي أشرنا إليها أنفا, فضلا عن جهود وعرق عشرات أو مئات المثقفين والإداريين في دائرة الثقافة والإعلام. صحيح أن زائر الشارقة سوف يشعر بأنها مدينة تفتخر بتاريخها الطويل والغني عبر استضافتها كل هذه الفعاليات الفنية والثقافية والإسلامية البارزة علي مستوي العالم, وصحيح أيضا أنها تلعب الآن دورا كبيرا في الحفاظ علي الهوية العربية والإسلامية, وتدعم كل أشكال المساهمات التي تضمن استمرار تألق هذه الثقافة بمختلف أشكالها ورموزها. غير أن الشعور الذي يبقي في وجدانك وعقلك, ويداوم علي الظهور والتجلي بعد مغادرة أرضها المضيافة الطيبة.. وهو شعور طبيعي وملموس لا مصطنع أو متخيل, بأن هناك خلف الستار ناسا يمتلكون أرواحا نقية وأحلاما قادرة علي إزاحة العتمة والجهل من القلوب بما يفعلونه ويقدمونه للإنسانية من قيم راقية وفضائل سمحة, رغم ما يشهده عالمنا المعاصر من صراعات دامية ومشكلات مميتة. وأخيرا فإنني أعتقد أن إمارة الشارقة في ظل حكم الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلي للاتحاد, أصبحت منارة ثقافية تنشر الأدب والعلم والثقافة العربية, في وقت تمر الثقافة العربية بأشد أزماتها ضراوة, إذ تحرص دائما علي إطلاق مشاريع ثقافية فريدة من نوعها, إضافة إلي بناء مرافق معمارية شامخة تنطلق من قناعة الشيخ سلطان بدور الثقافة في المجتمع, وأثرها في تطوير الذائقة الفنية والجمالية, وتهذيب النفس وتوسيع المدارك والملكات الفكرية والإبداعية, والحفاظ علي التراث الثقافي والتفاعل الإيجابي مع الثقافات الأخري.