رغم مرور ما يزيد علي ثمانية عشر عاما علي رحيل المفكر والناقد الأدبي الدكتور غالي شكري, لكنه سيظل ذلك الصوت الصارخ في البرية, المفكر الذي أخذ علي عاتقه طرح الأسئلة المسكوت عنها ولا يطيق التبرع بالإجابات, في ذكري رحيله, نحاول الإبحار قدر استطاعتنا, مع بعض من مواقف الرجل ورحلته الفكرية, وفي قلب بحيرة النسيان الراكدة, نلقي بأحجار بعض أسئلة نراهما مهمة; لماذا صار النكران آفتنا؟! وأين ذهب أهم كتب غالي شكري وآخرها وهو نقد بلا سلطة؟! ولماذا لا يتم تدشين جائزة في الفكر أو النقد الأدبي تحمل اسمه؟! لم يكتف غالي شكري بالشهادة المتوسطة رغم أنها; وبمقاييس عصره وقتها وتقاليد جيله, كانت تصلح لتعيينه في وظيفة لا بأس بها, وواصل مشواره في تحصيل العلم والثقافة وحصل علي دبلوم الصحافة والأدب الإنجليزي من الجامعة الأمريكيةبالقاهرة عام1960:, ثم في العام1967 يحصل علي دبلوم الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية, من جامعة باريس, وفي العام1977 أنجز دبلوم الدراسات العليا المعمقة جامعة السوربون, باريس, وفي العام1978 ينال درجة الدكتوراه في سوسيولوجيا الثقافة المصرية, وكانت في أطروحة بعنوان النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث منذ عصر محمد علي وحتي جمال عبدالناصر- جامعة السوربون, باريس. ولم يتوقف البناء, بناء الذات فكريا, بعد الوصول لمرحلة التحقق في الوسط الثقافي, خاصة بعد صدور أهم كتبه( برأيي) في الفترة مابين1962 حتي1969; أزمة الجنس في القصة العربية وسلامة موسي وأزمة الضمير العربي وشعرنا الحديث إلي أين؟! والمنتمي- دراسة في أدب نجيب محفوظ, وعبر كتب عديدة أخري إضافة إلي مقالات ودراسات في دوريات ثقافية داخل مصر وخارجها, واصل غالي شكري طرح الكثير من الأسئلة الحادة الحارقة, مثلما تجد في كتابيه من الأرشيف السري للثقافة المصرية-1975, ودكتاتورية التخلف العربي: مقدمة في تأصيل سوسيولوجيا المعرفة-1986, وغيرها من الكتب المهمة التي انتهج فيها غالي شكري نهج الحفر عند جذور الأزمة الفكرية والإبداعية في مصر والعالم العربي. وظل غالي علي نهجه, يبني ذاته شغوفا بطرح الأسئلة الحادة أحيانا, الناسفة طوال الوقت, لأوهام ترسخت حقبا طويلة, وهي التي كان ينشد منها أن تسهم, ولو بقدر يسير, في إعادة تشكيل طرق التفكير علي غير ما ساد آنذاك, ولا يزال سائدا!. الكتاب الضائع قصة هذا الكتاب بدأت معي في يناير1996, حين كنت أعمل مع المفكر الراحل, الدكتور غالي شكري الذي كنت أسميه المعلم بضم الميم وبكسرها أيضا, في مجلة القاهرة, وتشاء الأقدار أن يصاب الدكتور غالي بجلطة مفاجئة, سافر إثرها إلي باريس للعلاج, ومكث هناك مدة زادت علي الشهر, وعاد الدكتور غالي إلي القاهرة, وفوجئت باتصال هاتفي من إحدي كريماته, أظنها د.إلهام غالي شكري, قالت: الدكتور عايزك ضروري, وحين ذهبت إليه, بادرني بالسؤال: فين الكتاب؟! كتاب إيه يا دكتور؟! نقد بلا سلطة, وأنا في باريس, تذكرت أن الكتاب ناقص له فصل! أنا سلمته للأستاذ حسني شرقيات كاملا يا دكتور!. عارف.. عارف, باقول لك النسيان كان من عندي, وتذكرت هذا الفصل الناقص وانا في المستشفي!. وصاح قائلا: يا هدي هاتي أوراق فولسكاب كتييير وقلم حلو للأستاذ يوسف. جاءت السيدة هدي بالأوراق والقلم, وقال: جاهز؟!, أجبت طبعا يا دكتور تفضل. وبدأ غالي شكري, يملي علي ما ارتآه ناقصا من كتابه, الذي انتهي من كتابته منذ شهور! ها هو الرجل يدهشني أكثر, رغم ما سببته له الجلطة من صعوبة التحدث, لكنها لم تنل من عقله أو ذاكرته, أملاني غالي شكري من ذاكرته ما يزيد علي37 صفحة من الفولسكاب, وكنت كثيرا ما أتوقف مشدوها, أمام عبارات وجمل من عينة وكما يقول محمد مندور في كتابه الصادر عن دار كذا, عام كذا ويذكر اسم دار النشر وسنة نشر الكتاب, وكأنه كان ناقصا أن يقول رقم الصفحة!, أو حين يقول لي هنا بعد هذه الكلمة الأخيرة التي نطقتها نقطة توقف, أو فاصلة أو فاصلة منقوطة, وهلم جرا حين يأتي موضعا لأي علامة ترقيم أو تعجب أو استفهام, ويا ويلك وسواد ليلك, لو نسيت التشكيل المناسب لإعراب أو نطق كلمة ما تكون في حاجة إلي ذلك!. لا ينسي أدق التفاصيل; حتي التي كنا نراها شكلية في الكتابة!. بعد مرور كل هذه السنوات, ومن ناحية شخصية بحتة, لم أحزن علي جهد بذلته سواء بأجر أو بدونه, مثلما حزنت علي جهدي في هذا الكتاب, ومتعتي في التعلم خلال مراجعته أو حين أملاني الدكتور هذا الفصل الأعجوبة الذي تذكره بهذه السلاسة والتدقيق, وهو المصاب بجلطة في المخ!, أما لماذا حزنت هكذا, لأن هذا الكتاب الفريد من نوعه في المكتبة العربية, وخاصة في النقد الأدبي لم يصدر حتي الآن, ولا أدري إن الدكتور وائل غالي, الأستاذ بأكاديمية الفنون وهو ابن المفكر الراحل, يعرف قصة هذا الكتاب, أو نسي بسبب مشاغله الفكرية ومشاغل الحياة, أم ماذا؟!, وأتمني, بل أبعث برجائي هذا للدكتور وائل غالي, ولكل أفراد أسرة المفكر الراحل, أن يبادروا بنشره إتماما لمشروعه الفكري والنقدي الرائد, وخدمة وفائدة لقراء وعشاق غالي شكري في ربوع الوطن العربي, ولكل القارئين للثقافة والفكر في اللغة العربية في العالم أجمع.