أساتذة فلسفة ل"محيط" : مشروع أركون ينزع عن الدين قداسته محيط – سميرة سليمان محمد أركون ينتظر أن يواري جثمان المفكر الجزائري المرموق محمد أركون الثرى بالدارالبيضاء بعد أن رحل في باريس عن 82 عاما وكان يعمل هناك أستاذا لتاريخ الفكر الإسلامي بجامعة السوربون. وصفته الصحافة الجزائرية ب"وحش العلوم الإسلامية الذى خفتت طلته"، حيث أخضع النصوص الدينية، والتراث الدينى للتحليل والدراسة وفقا لأحدث المناهج العلمية، بينها الانثروبولوجيا التاريخية واللسانيات وأدوات قراءة التاريخ في دراسة الأديان والنصوص الدينية، وقد قال أركون واصفا عمله ضمن ما أطلق عليه مسمى "مجموعة باريس" داخل الجماعة الأوسع للبحث الإسلامي - المسيحي "حاولت أن أزحزح مسألة الوحي من أرضية الإيمان العقائدي "الأرثوذكسي" والخطاب الطائفي التبجيلي الذي يستبعد "الآخرين" من نعمة النجاة في الدار الآخرة لكي يحتكرها لجماعته فقط" ! تسببت أراؤه في مهاجمة كثير من المفكرين والعلماء له حيث نادى بإعادة قراءة القرآن برؤية عصرية وتجريده من القداسة التى تعوق دراسته، وكان يعتبر أن منهجه هذا ليس جديدا تماما على الفكر الإسلامى، بل يرى أنه يسير على خطى مفكرى المعتزلة، الذين أخضعوا، حسب ما قاله، النصوص الدينية للمساءلة العقلية، قبل أكثر من ألف عام، كما قام بالتشكيك في السنة، وفصل بين القرآن والتشريع وغيرها من الأمور التي تسببت في انتقاده إلى حد تكفيره. مقلد وليس مجدد سأل "محيط" دكتور محمد الشرقاوي أستاذ مقارنة الأديان وقال أن ملامح مشروع أركون يمكن أن نختصرها في أنه كان مقلدا للفكر والثقافة الغربية ولم يهتم كثيرا بتمحيص ونقد ما حاول نقله من المذاهب الفلسفية الغربية ويسكنه الفكر الإسلامي مع الاختلاف والتفاوت الشاسع بين البيئتين الثقافتين الغربية والإسلامية من حيث المنطلقات والغايات وحتى الوسائل لاختلاف الواقع الحضاري والتطور التاريخي بين هاتين البيئتين. ويعتقد رئيس قسم الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم أن أركون كان يقف على الجانب المقابل للمفكرين التراثيين التقليديين في الفكر الإسلامي ويعني بهؤلاء الذين يضفون قداسة على التراث الإسلامي دونما تمحيص أو نقد ودنما تمييز للايجابيات من السلبيات ودونما بيان لما كان صالحا في زمانه وبيئته وما هو صالح اليوم لواقعنا الذي تغير كثيرا وبيئتنا الفكرية التي شهدت تحولات ضخمة قليل منها ما هو إيجابي وكثير منها سلبي، فهؤلاء مقلدون وليسوا مجتهدين لأنهم يريدون نقل التراث بحذافيره وتفاصيله ليحكم الحياة المعاصرة. وبهذا يكون كلا الفريقيين التقليديون والدكتور أركون ومن سار على نهجه ليسوا مجددين أو أصلاء مبدعين لأن كلاهما ينقل عن بيئة فكرية ويحاولون تنزيل ما قلدوا فيه غيرهم على واقعنا الفكري الثقافي المعاصر. أما ما يميز مشروع أركون الفكري وفقا للشرقاوي هو أن المداخل التي وظفها لم تكن يسيرة التناول أو سهلة الفهم والهضم وعدم التوفيق في اختيار مداخله جعل مشروعه يبدو غير ناضجا أو متناسقا في كثير من جوانبه. لعل هذين السببين ويقصد -النقل عن بيئة مغايرة وعدم نضج مشروعه- جعلا من مشروعه الفكري والفلسفي قاصرا على جماعة قليلة ولم يكتب له الذيوع والانتشار المتوقع من مثله خصوصا وأنه كان يعيش في باريس ويعمل في جامعة السوربون ويجوب أنحاء العالم للتبشير بمشروعه ولكنه لم يجد الاستجابة المناسبة لجهوده، فلم يتقبله المفكرون والمثقفون بقبول حسن نظرا لما شاب هذا المشروع من نقائص. ويرى الشرقاوي أن خسارة الساحة الفكرية والفلسفية برحيل دكتور أركون تتمثل في أنه كان محفزا فكريا بإثارته قضايا خلافية وجدلية تحفز العقل لكي يفكر فيها بصرف النظر عن موافقته أو مخالفته في تلك الآراء، ومن ناحيتي - يواصل دكتور شرقاوي – أحب هؤلاء الذين يثيرون العقل بمقاربتهم الفكرية والفلسفية حتى وإن اختلفت مع معطياتهم اختلافا جوهريا. مشروع نخبوي يرى دكتور حامد طاهر أستاذ الفلسفة الإسلامية أن الساحة الثقافية العربية والإسلامية لن تفقد الكثير برحيل أركون كما أنها لم تفقد شيئا برحيل نصر حامد أبو زيد. ويؤكد طاهر أنه لن يبقى من أركون شيئا سوى محاولة فردية قام بها هو وبعض المفكرين العرب المتأثرين بالثقافة الفرنسية مبتعدين عن الثوابت الدينية، فأركون برأيه تأثر نظرا لإقامته طويلا في فرنسا ودراسته هناك بال "ابستمولوجيا" وتعني النظرية المعرفية في الفلسفة، حيث كان ينظر للنص الديني نظرة علمانية تجرده من قداسته وتتعامل معه باعتباره نصا أدبيا يمكن مناقشته والاعتراض عليه أحيانا. وهذه كلها أمور مرفوضة من وجهة النظر الإسلامية الصحيحة التي تعتبر أن القرآن الكريم كتاب منزل وأن السنة النبوية مبينة لهذا الكتاب ومفسرة له، لذلك يبنغي تناولهما على أنهما من الوحي الإلهي الذي لا يخضع لمقاييس النصوص اللغوية التي يخترعها الإنسان. ويؤكد حامد طاهر في حديثه ل"محيط" أن مشروع أركون الفكري لم يتحقق منه شئ بل ظل محصورا داخل النخب العربية التي تقرأ بالفرنسية أو التي تقرأ ما يترجم من هذه المؤلفات على المستوى الأكاديمي أو الثقافي المحدود نظرا لاصطدام مشروعه مع ثوابت الدين الإسلامي لم ينتشر على مستوى واسع. سيرة مفكر شهدت قرية "توريرت ميمون" الصغيرة بمنطقة القبائل "شمال شرق الجزائر" مولد أركون عام 1928، بعد إنهاء الدراسة الابتدائية في قريته، أتم دروسه الثانوية في وهران ثم درس الأدب العربي والحقوق والفلسفة والجغرافيا في جامعة الجزائر العاصمة. أعد أركون بمساعدة الأستاذ الجامعي الفرنسي الباحث في مجال الدراسات الإسلامية لوي ماسينيون، شهادة الأستاذية في اللغة والأدب العربيين في جامعة السوربون، ثم تولى التدريس في عدد من الجامعات قبل أن يعين في عام 1980 أستاذاً في السوربون الجديدة ودرس فيها تاريخ الفكر الإسلامي وطور اختصاصاً هو "الإسلاميات التطبيقية"، ومنذ 1993، بات أستاذاً متقاعداً في السوربون، لكنه استمر في إلقاء محاضرات في كافة أنحاء العالم. في عام 2008، تولى إدارة مشروع "تاريخ الإسلام والمسلمين في فرنسا من القرون الوسطى حتى اليوم"، وهو كتاب موسوعي شارك فيه كثير من المؤرخين والباحثين، وهو الكتاب الذي تقصَّى فيه تاريخ الروابط التي جمعت العالم الإسلامي بفرنسا منذ معركة بواتييه 1356 مروراً بالحروب الصليبية وانتهاءً بالوجود الإسلامي في فرنسا ساركوزي. وقد كتب أركون مؤلفاته باللغتين الفرنسية والإنجليزية وترجمت إلى عديد من اللغات من بينها العربية والهولندية والإنجليزية والإندونيسية، وأهم ما ترجم منها إلى العربية: "الفكر العربي"، " الإسلام: أصالة وممارسة"، "نقد العقل الإسلامي"، "الفكر الإسلامي: قراءة علمية"، "الإسلام: الأخلاق والسياسة"، "الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد"، "العلمنة والدين: الإسلام، المسيحية، الغرب"، "من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي"، و"نزعة الأنسنة في الفكر العربي". نال الراحل عديد من الجوائز أهمها: جائزة بالمز الأكاديمية، جائزة ليفي ديلا فيدا لدراسات الشرق الأوسط في كاليفورنيا، وجائزة ابن رشد للفكر الحر عام 2003. منذ بدايته اعتنق أركون مبدأ النقد وهذا ما فعله في بداية الخمسينيات، حيث ألقى أركون محاضرة بسيطة في كلية الجزائر، أمام زملائه الطلبة تحت عنوان "مظاهر الإصلاح في مؤلفات طه حسين" ، فرغم إعجحاب أركون بطه حسين وعكوفه على دراسة أعماله، لم يمنعه ذلك من انتقادها حيث خلص إلى غياب الانسجام في مشروع صاحب "الأيام" مما جعل الطلبة يستاءون منه وقاطعه أغلبهم، ولهذا استوعب الدرس جيدا ليعرف أن النقد ليس هواية عربية، ولكنها الروح التي لم يستطع التخلص منها فيما بعد. المفكر الجزائري محمد أركون أفكار أركون بسبب كتاباته كان من نصيبه التكفير، والنبذ الرسمي أحياناً، حيث لم تقتنع به العقلية العربية حين حاول المواءمة بين القرآن والتاريخ، ولكن الباحث إدريس ولد القابلة يؤكد أن أركون تعرض لسوء الفهم من قبل التيارات الأصولية في الشرق الإسلامي، كما أنه تعرض لسوء فهم مماثل من قبل الغرب. كان أركون يرى أن القرآن عمل أدبي لم يدرس كما يجب إلا من قِبَل ندرة أهمهم عنده "محمد أحمد خلف الله" عندما كتب عن القصص الفني في القرآن وقال إن القصة القرآنية مفتعلة! أيضا يفصل أركون بين القرآن والشريعة، فالقرآن عنده "خطاب مجازي يغذي التأمل والخيال والفكر والعمل ويغذي الرغبة في التصعيد والتجاوز، والمجتمعات البشرية لا تستطيع العيش طيلة حياتها على لغة المجاز" ويرى أن الربط بين القرآن والشريعة وهم كبير، نظرا لارتباطها لدى الناس بحكم إلهي وبالتالي لا يمكن لأية سلطة بشرية أن تقوم بتعديلها أو تطويرها لتتناسب مع مقتضيات الظروف و الأحوال المستجدة. كما شكك في السنة بقوله: "إن السنة كُتبت متأخرة بعد موت الرسول - صلى الله عليه وسلم - بزمن طويل وهذا ولَّد خلافات، لم يتجاوزها المسلمون حتى اليوم بين الطوائف الثلاث السنية والشيعية والخارجية، وصراع هذه الفرق الثلاث جعلهم يحتكرون الحديث ويسيطرون عليه لما للحديث من علاقة بالسلطة القائمة"، كما يرى أن الحديث هو جزء من التراث الذي يجب أن يخضع للدراسة النقدية الصارمة لكل الوثائق والمواد الموروثة. أيضا كان له رأي خاص في العلمانية حيث يعتبرها مشروع أفرزته المجتمعات الغربية, و بواسطتها انتقل المجتمع الغربي إلى التقدم و الحداثة، والعلمانية في تصور أركون لا تعني القضاء على الدين و إنما وضع حد للغزو الذي يقوم به الخطاب العقائدي للمجتمع. كما أن العلمانية والحرية مفهومان مرادفان ، ويرى أن الإسلام بذاته ليس مغلقا في وجه العلمانية, فلقد شهدت المجتمعات الإسلامية تجارب علمانية عبر التاريخ، فمثلا عرفت القرون الأربعة الأولى للهجرة حركة ثقافية مهمة استطاعت الخروج على القيود التي فرضتها السلطة الدينية، فالمعتزلة – في رأيه - عالجوا مسائل فكرية أساسية انطلاقا من ثقافتهم المزدوجة المرتكزة على الوحي الإسلامي والفكر اليوناني. كان أركون يؤكد بعد أن تمت مهاجمته وتكفيره أن جعل القرآن موضع بحث لا يعني الإعراض عنه كمرجعية دينية لجميع المسلمين، قائلا: "أنا أقرأ اتهامات كثيرة لي بأنني أريد أن أعزل القرآن وإخراج الناس من إيمانهم وتراثهم الإسلامي، وهذا افتراء وكذب، لأنني لم أفكر أبدا في هذا الطريق" ..