اليوم، دخلت علي الأستاذ، وجدته جالسًا، كالعادة، إلي مكتبه، ليعطي نفسه فرصة يستكمل فيها مقاله قال: حضرت قبل موعدك، فانتظرني. إذن لدي وقت أتصفح فيه أكداس الكتب التي ترد إليه، مجانًا، من مصر والوطن العربي . ومن ثم وجدت 5 كتب جيدة تصلح للاستعارة، الاسم الحركي للاستحواذ، لكنني أخطأت الظن. قال ياسين بصوته الجهوري الخارج من أعماق بئر، دع الكتب مكانها. نسيت أن الكتاب، بالنسبة له، تذكرة وصول آمن إلي عالمه الباطني. ثم إن هناك سببًا آخر، أكثر أهمية، هو أن كل كتاب، قديم أو جديد، هو محل جدل من ياسين. إن أسانيده تعتمد أساساً علي المكتبة. وقد عذرته، فأنا الآخر ، لا أحب أن أعير كتبي لأحد. من منا قد يرغب في إعارة ذاكرته؟ وبعد أن اطمأن لانصياعي، قال بارتياح : اسأل يا دكتور. لم تحدثني عن علاقتك بالفنون! - كانت سلسلة "كتابي " للأستاذ حلمي مراد، مدير دار المعارف، لا حلمي مراد السياسي، مدخلي للفنون، هذا السلسلة ربت أجيالا ً، كان ثمنها 10 قروش، بحجم صغير وغلاف مصقول. كانت تقدم ملخصات للكتب العالمية، منها كتاب داروين عن التطور وكتاب تفسير الأحلام لفرويد، الأهم من ذلك أننا تعلمنا منها الفن التشكيلي، فقد كان ينشر مع كل كتاب مجموعة من اللوحات مع سيرة مختصرة لكل فنان، عبر الزمن تكونت لدي ذائقة في الفن التشكيلي، كنت في الثانوي، مدخلي للموسيقي الكلاسيكية كان الراديو، كنت في القلعة إياها وسمعت سيمفونية ل " هوفمان " أثرت في جدا ً، وفتحت لي باريس الباب واسعا ًبمجموعات مختارة لكبار الموسيقيين.. بيتهوفن مثلا ًالذي فتنت به. ما سر بقاء هذا الرجل؟ - في الاكتمال، اكتمال الشكل والمضمون والخيال، فضلا ًعن إتقان الصنعة، أعتقد أن بيتهوفن هو الذي قنن وضع السيمفونية. بناؤها كقالب موسيقي من الحركة الأولي إلي الثانية حاجة مشبعة. كان لدي بيتهوفن هذا التنوع والأفق الواسع. وقد عبر عن مجتمع تتميز طبقاته بالثبات، لا تتغير بسهولة وقد انعكس هذا علي أعماله، الانتقال من البرولوج إلي الحركة الأولي إلخ، يمكنك التنبؤ بحركاته، إذا تتبعت اللحن الرئيسي. "سترافنسكي" كان يعبر عن الحياة في القرن العشرين التي لا يمكن التنبؤ بها، لأنها تتسم بالانقطاعات، الحرب العالمية الأولي والحرب العالمية الثانية، أعماله انعكاس لمجتمع اضطربت فيه الأوضاع الطبقية وحصل نوع من الحراك. علي فكرة،أنا لا أحب موسيقي سترافنسكي، لهذا السبب، ولكني أفهمه سوسيولوجيا. أعتقد أنك كتبت عنه دراسة. - عملت عرضاً في مركز الأهرام عن سوسيولوجيا الموسيقي، أغراني بهذا الاهتمام الفيلسوف الفرنسي "جاك أتالي" الذي ألف كتابا ًفي غاية الأهمية اسمه »Bruit« ضوضاء، يتكلم فيه عن الاقتصاد السياسي للموسيقي. كيف أن للاقتصاد تأثيراً بالغا ًعلي بنية الموسيقي، وقد كنت مهتما ًبتأثير تغيرات المجتمع علي هذه البنية. هناك علاقة وثيقة بين البنية الاجتماعية والبنية الموسيقية، خذ حالة مصر الآن، قارن بين عبدالوهاب وأم كلثوم وبين عمرو دياب وهشام عباس وتامر حسني؟ - ثم قارن بين العشوائية في الحياة المصرية وبين "شعبولا"، لا بد أن هذه العشوائية تنتج شعبولا، بعد هزيمة 67، نشأ تياران في الأدب وفي الموسيقي، في المجال الأدبي كنت تجد حيرة المصريين واضطرابهم معكوسة في الأدب، اقرأ قصة نجيب محفوظ، " تحت المظلة "، تجد أناسا وضرب نار لا أحد يعرف مصدره، وفوضي، هي تعبير عن الهزيمة، في هذا المناخ نمت العبثية، أحمد رجب كتب "شنبو في المصيدة "، وتجد إفيهات من عينة " العملية في النملية " و " الأكس في التاكس "..إلخ، كلها حاجات تترجم حالة العدمية والعبث في موقف غابت عنه العقلانية، في الغناء كان هناك تياران، أحمد عدوية و" احنا اللي خرمنا التعريفة"، قال يعني الفهلوة وصلت لهذا المدي، وتيار نجم والشيخ إمام، التيار الثوري، هذا ما حاولت فهمه. انعكاس التغيرات المجتمعية علي الموسيقي. حدثتني قبل التسجيل عن شغفك بالفن التشكيلي. - باريس عمقت لدي هذا الشغف ومنهجته، كان هناك مركز جورج بومبيدو واللوفر وكل ما تحتاجه، لتشبع حواسك. هل التكوين مسئولية فردية أم أن المجتمع كله يساهم في تكوينك؟ - هناك عدة عوامل منها نمط المجتمع، ونمط أدوات الاتصال ونوع الإيقاع في المجتمع، جيلي تربي في مجتمع بطيء الإيقاع وإنساني، لم يكن هناك تليفزيون، الراديو فقط، وأم كلثوم وعبدالوهاب والسنباطي وأحاديث طه حسين والعقاد وفكري أباظة، أريد أن اقول إن الوقت كان متسعا ً، لم تكن هناك عجلة كان هناك مجال لتمثل ما تقرأ وما تفعل، حدث الانقلاب عندما جاء التليفزيون. البنية الاجتماعية اضطربت، وأصبحنا خاضعين لإيقاع الفجائيات، فجأة يظهر لك التأميم، أو القرارات الاشتراكية، لم يعد الاستقرار القديم قائما، ولم نعد قادرين علي التنبؤ بما يمكن أن يحدث، وقد انعكس كل ذلك علي طريقة التكوين، الآن، بعد الفضائيات والإنترنت دخلنا في مرحلة خطيرة أصابت تكوين المثقف في الصميم، الأجيال الجديدة من الشباب ومنهم أحفادي، لا يقرأون، إنما هم خبراء في الإنترنت، والوسائط الجديدة. هذا الجيل لن تكون لديه القدرة علي استعمال عقله، لأنه لا يملك الإطار النظري، ولا العقل النقدي، والخوف أن الأجيال المقبلة لن تعرف تاريخها. أعود لك، أي حواسك يربطك بالعالم أكثر؟ - النظرة، وأظن أن جاك أتالي هو صاحب الكتاب المهم " تاريخ النظرة في الثقافة الغربية "، بالنسبة لي العين هي الأساس. أظن أن نابليون بونابرت هو القائل، أنا لا أحتاج أن أعايش الإنسان، لكي أعرف أنه شرير، أنا فقط أنظر إلي عينيه. لهذا أسألك، هل تخونك نظرتك في البني آدميين. - نادرًا، أستطيع التقييم للوهلة الأولي. وهل تعتقد أنك تعلمت من الكتب، أكثر مما تعلمت من الناس؟ - ( بقطع ويقين ) طبعا ً،، عندما تقرأ ديستوفسكي، يغنيك عن المشاهدة المباشرة للمجتمع الروسي، هل بإمكانك أن تذهب إلي هناك لتعرف الإنسان الروسي ؟ أنت تذهب إلي "ديستوفسكي" و"تولستوي"، وهكذا بالنسبة للأدب الفرنسي والإنجليزي، هذا البيئات عرفناها أولا ًمن الكتب، لا من الاختبار الشخصي. متي شعرت، أنك صبي في متاهة؟ - لم أشعر بهذا الشعور،كانت لدي خريطة بما أريد. الطريقة التي نفكر بها في هذه المرحلة، غالبا ًما تكون يقينية. هل أصابك اليقين فيها أو في أي مرحلة؟ - سؤالك مهم، ويبدو منذ فترة مبكرة، نتيجة القراءة، أني اكتسبت مناعة ضد اليقين، كنت، ومازلت، بعيدا ًعن التعصب لتيار أو لفكرة ما، القراءة تبعدك عن القطعية، أذكر أن محمد صبيح أخرج كتابا ًعن وصية لينين بعدم اختيار ستالين، أمينا ًعاما للحزب الشيوعي. مبكرا وضع صبيح يديه علي حقيقة ستالين، بعد أكثر من ثلاثين عاما ، اتضح أن لينين أوصي فعلاً بذلك، وقد تابعت كيف أن ستالين قد عامل لينين، أثناء مرضه، معاملة سيئة وفعل بزوجته نفس الشيء. مثل هذه الكتب تؤكد لك نسبية الحقيقة، وأنه ليست هناك حقيقة مطلقة. اتساع نطاق القراءة، وهذا مرتبط بالشخصية، يجعلك أكثر مرونة في تقبل الأفكار والإيمان بها. حتي لا تتحول إلي دوجما، من أجل ذلك لم أشأ أن أكون عضوا في حزب. بعد خبرة الإخوان المسلمين واختلافي معهم حول الهجوم علي الثورة أو لا، شعرت أنني لا أصلح للانضمام إلي حزب، كي لا يفرض علي، باسم الديقراطية الحزبية الداخلية، أن أتبني وجهة نظر الحزب. ل " نيتشة "، وأنا شديد الإعجاب به، عبارة تقول : نحن معشر الباحثين عن المعرفة لا نعرف أنفسنا، إننا نجهل أنفسنا. - هناك مفكرون كبار عرفوا أنفسهم وأثبتوا ما عرفوه عن أنفسهم جيدا . الاعتراف بالقصور والأخطاء والتجاوزات، هذه مساءلة للذات وسبيل لمعرفتها. وهل يتاح لأي شخص، مهما تكن معرفته بنفسه، أن يعرفها معرفة كاملة ! - معرفتنا بأنفسنا مليئة بالثغرات، ولكن هناك سير استطاعت أن تردم هذه الثغرات . لويس عوض، مثلاً. " أوراق العمر " علاقته بأخيه وعلاقته بأمه وبأخته التي تزوجت مسلمًا وسيرة شكري عياد، رحمه الله العيش علي الحافة. - هذه سير استثنائية،خرجت علي المألوف، ولم يدع أصحابها الكمال، هناك سير تافهة، يدعي كاتبوها الحكمة بأثر رجعي، بحيث يبدو أصحابها ممثلين للاكتمال الأخلاقي والآخرون أوغادا مثل عبدالرحمن بدوي. - هذه سيرة نموذجية في هذا الاتجاه . تضخم الذات وانتفاخها انعكس علي السيرة .أريد أن أقول إن السيرة الذاتية قد تكون فخا ً، ما لم تتحل بالصدق مع النفس ومع القاريء. ومتي شعرت أنك تجهل نفسك . في أي مرحلة؟ - لم أشعر بهذا الإحساس، إنما انتابتني حيرة تجاه المستقبل . ماذا سأكون؟ كان هذا قلقي الحقيقي، ومبعث القلق إحساسي بأن لدي إمكانيات فكرية متفردة، وخشيتي أن أعمل، بعد التخرج، في وظيفة روتينية تبدد هذه الإمكانيات. في مرحلة التكوين يتقاسم قلوبنا البحث عن الذات والبحث عن الله، كلمني عن تجربتك. - تنهد ياسين تنهيدة جارحة قبل أن يقول : أنا كنت أبحث عن المنهج، كانت هناك مغامرات فكرية، إذا استعرت عنوان هوايته، غامرت مع الإخوان المسلمين، مع الفكر الماركسي، كنت أبحث عن المنهج، ولما عملت سنة 1957 بالمركز القومي للبحوث وجدت هذا المنهج . منهج العلم الاجتماعي الذي لا يفرق بين علم النفس والأنثربولوجيا والفلسفة. منهج شامل للرؤية والتنقيب في الذات والوجود. يقال .. لا بد للمرء أن ينكر الكثير، لكي يتقدم في موضوع ما.. ما الذي أنكرته في بحثك عن نفسك وعن الحقيقة ؟ - أنا لم أكن في مرحلة إنكار، بل في مرحلة البحث عن طريق . يمكن للإنكار أن يأتي فيما بعد، عندما تصادفك الخرافات والأساطير التي لابد من إنكارها، لتحكيم العقل . تبين لي، حين كبرت واطلعت علي أبحاث، في مصر وفرنسا، أن مشروع الحداثة الغربي كان ماثلا ًفي ذهني، بشكل لا شعوري. ما شعار هذه الحداثة؟. - العقل هو محك الحكم علي الأشياء وليس النص الديني، إن أوروبا قطعت مشوارا ًمع جمودية النص الديني الكنسي وصارت تحتكم، في إطار العلمانية، للعقل وحده . هذا ما كان يحرضني علي البحث .. محاولة الوصول إلي تفسيرات عقلية للظواهر . وبم أفادتك دراسة القانون في اكتشاف الطريق. - الحقوق تعطيك الفرصة للتنظيم العقلي والمنهجي، أستاذي "حسن كيره"، رحمه الله، في مادة " المدخل للقانون "، علمني جدل الأفكار . كان يدرس لنا "نظرية الحق" فيعرض لمختلف النظريات بأقوي حججها . حتي وأنت خصم للنظرية عليك واجب أخلاقي تجاهها .. أن تعرضها بأقوي حجة، كي تنقدها بأقوي حجة . هكذا يرتب القانون شخصيتك وأفكارك. ما زالت الفجوة قائمة بين دراسة القانون وتحقيق القانون علي أرض الواقع؟ - غير صحيح ما تقول . في علم الاجتماع القانوني هناك إشارات عن الفجوة بين النص والواقع، مشكلة معرفية موجودة في كل المجتمعات، ولكن هناك حالات عديدة تقل فيها المسافة بين القاعدة القانونية والواقع، هذا يختلف حسب طبيعة المجتمع وحسب المرحلة التاريخية التي يمر بها . في المجتمع الأمريكي مثلا ً، نجح رجال الأعمال في تحويل النصوص الجنائية لمحاكمتهم في حالة ارتكاب مخالفات إلي غرامات مالية، فحدثت الفجوة بين القاعدة القانونية والتطبيق، نتيجة نفاذ رجال الأعمال إلي البيئة التشريعية وتأثيرهم علي المشرعين واستصدار تشريع يعفيهم من دخول السجن . وما زال نفوذ رجال الأعمال ساريا ًفي المجتمع الأمريكي إلي الآن . لما "أوباما" ضخ في شرايين الاقتصاد 750 مليار دولار، لينقذ الشركات والبنوك من تعثرها، استأثر مديرو البنوك ب 11 مليارًا منها مكافآت ! فعلق أوباما : this's immoral ، هذا "غير أخلاقي". وهذا ما يحدث الآن في مصر، اتسعت الفجوة بين القانون وتطبيقه، نتيجة نفوذ رجال الأعمال ! خذ حالة قانون منع الاحتكار، استطاع أحمد عز، في البرلمان أن يغيره، قبل صدوره! طبيعة المرحلة التاريخية ونو ع المجتمع إذن هما الحاكم في الموضوع. كنت في حيرة من أمرك، عقب تخرجك في كلية الحقوق، .. ماذا تفعل بحياتك؟ - بعد التخرج ظللت عاطلا ًعن العمل عدة شهور، لم يؤهلني تقديري للالتحاق بسلك النيابة، فكنت حائراً، ماذا أفعل، خاصة أن بعض الأصدقاء تندروا علي العمل بالمحاماة، وفجأة قال لي أحد الزملاء إن هناك إعلانا ًفي الأهرام عن حاجة المركز القومي لباحثين مساعدين، كان هناك امتحان في علم الإجرام، الذي لم يسبق لي دراسته، وامتحان في مادة التخصص (قانون جنائي)، وكتابة مقال بالإنجليزية وترجمة آخر . المهم تقدمت بأوراقي، لكن المشكلة أنني لم أقرأ في علم الإجرام، قبل ذلك، فاشتريت كتاب حسن شحاتة سعفان " علم الجريمة " واستعرت كتابا ًآخر بالإنجليزية عنوانه "" criminology " علم الإجرام " كان صادرا ًفي الثلاثينيات، وقد أعددت منه موضوعا ًعن العلاقة بين الفقر والجريمة، أعددت نفسي جيدا ً، لكنني فوجئت بإشاعة مفادها أن من لم يدرس كتاب مدير المركز الدكتور أحمد خليفة سوف يرسب في الامتحان ! في اليوم الأول للامتحان رأيت رجلا ًقيل لي إنه أحمد خليفة، وكانت لدي الجرأة لأسأله : هل صحيح أن من لم يدرس كتابك، سيرسب؟ وإذا كان هذا صحيحا ًفهذا غير عادل unfair، فنفي الرجل وسألني فيما قرأت فأجبته: في كتاب سعفان . فطمأنني . وبالفعل نجحت في التحريري وفي الشفوي وفي الامتحان الشخصي . ومن وقتها بدأت أتعرف علي المستقبل . إذن شعرت أنك تتحكم في مصيرك، إن جاز التعبير - الأدق أن يقال إنني شعرت أن مساري قد تحدد . باحثاً علميا يحكمه قانون المركز . وقانون المركز ينص علي ضرورة الحصول علي الماجستير، فحصلت عليه، انتقلت من باحث مساعد إلي باحث . بعدها يكون أمامك خياران : إما الحصول علي الدكتوراه أو الترقية إلي درجة أستاذ ببحوثك العلمية المنشورة . وقد اخترت الحل الثاني . سنة 1959 م، ألغي قانون المركز، فصار لزاما ًأن أحصل علي درجة الدكتوراه في غضون خمس سنوات، وإلا تنقل لوظيفة إدارية ! ومن هنا بدأت الحيرة من جديد . لماذا، لأنني هجرت القانون تماما ًوانغمست في علم الاجتماع . مع أنني سجلت للدكتوراه مع الدكتور نجيب حسني، رحمه الله. - رئيس جامعة القاهرة؟ أيوه، وأستاذ القانون . المهم طلبت من المركز أن يوفدني إلي فرنسا للحصول علي الدرجة، وذهبت إلي هناك، امتحنت مرتين ورسبت في المرتين! وعدت من غير الدكتوراه، فقلت لنفسي : سيبك من القانون وخليك في علم الاجتماع . سنتكلم عن البعثة، بالتفصيل، في فصل لا حق، أما الآن فكلمني عن ألاعيب الذاكرة .. أحيانًا نعيد اختراع أنفسنا، أحيانا، تحت وطأة الزمن، نبني ونحذف أحداثا ، تبعا لأهوائنا . الذاكرة لا تبعث الأشياء في تسلسلها الحي . يقول صديقنا المشترك هوايتهد " بين الوقت الذي نمارس فيه التجربة والوقت الذي نعبر فيه عنها ثانية، بالقول أو بالفعل، فجوة لا نعلم عنها شيئا ً" . - أعتقد أنني لم أمارس ألاعيب الذاكرة . منذ وقت مبكر ولدي هذا الميل لممارسة النقد الذاتي، ارجع إلي كراسة "التأملات" التي أعطيتها لك. من ينقد ذاته لا تلعب به الذاكرة، لأنه مستعد للاعتراف بأخطائه . علنا ًحتي . الاعتراف يقطع الطريق علي محاولة تضخيم الأحداث أو التقليل منها . مهما تكن مرارة الأحداث أو حدتها . ولكن للسن، بعيدا ًعن الهوي، أحكامه، كما يقولون. - عندما نحكي عن أنفسنا، فنحن عن عمد أو من غير قصد، نقفز علي أشياء معينة ونركز علي أشياء قد نراها أساسية في تطورنا، من هنا تنشأ الفجوة، أحيانا ًيكون ما نهمله أكثر أهمية مما نثبته . هذا محتمل . والملاحظ الخارجي قد ينبش عن أشياء نسيناها . هذا يتوقف علي أهمية الحدث وطبيعة الذاكرة . يقال إن الأفكار الأساسية التي تسري في أعمال المرء، مدي حياته، قد تتكون في ذهنه عندما يبلغ الثلاثين . - أريد أن أشكك في سلامة هذا الحكم، وإن كانت له أسانيد علمية بحتة في علم نفس الإبداع، هناك قاعدة تقول إذا كان لدي أي منا فكرة لامعة، تتشكل، عادة، بين الثلاثين والأربعين. وإذا عثر عليها يظل يعيدها repeating it يكررها أم يجترها؟ - المهم أنك تعثر علي هذه الفكرة بين الثلاثين والأربعين، ليس أكثر . ولذلك يندر أن تجد من يعثر علي كشفه في سن الستين أو السبعين . ولكن هناك من هو قادر علي التجدد في هذه السن، زكي نجيب محمود، مثلا ً، اعترف، في سن الستين، أنه لم يدرس التراث العربي من قبل . اكتشفه حين كان يدرس في جامعة الكويت . زكي نجيب محمود أصبح له مشروع مختلف تماما ًفي محاولة تجديد الفكر العربي . وماذا عنك .. متي اكتشفت أنك عثرت علي الهيكل العظمي لأفكارك. - في العقد الرابع استقررت علي المنهج الماركسي في تحليل الظواهر الاجتماعية والسياسية. ولكنني، فيما بعد، نقدت هذا المنهج وعدلت عنه إلي منهج التحليل الثقافي. وما زلت عاكفًا عليه؟ - نعم. وما الشيء الذي تعتبره خلفية لحياتك، أثناء التكوين، علي الأقل - القراءة هي اللحن الرئيسي لحياتي. الحلقة القادمة الثلاثاء المقبل