بمنطقة مصر القديمة وفي شارع أثر النبي وتحديدا أمام مسجد آل محمود ستفاجأ بحارة صغيرة لن تصدق أنها تكتظ بآلاف البسطاء جدا الراضين بحالهم غير المتذمرين الذين لم يخرجوا في أي وقفة احتجاجية للمطالبة بحقوقهم مثل غيرهم إلا في المظاهرات المطالبة بسقوط النظام الفاسد ورحيل مبارك, من هؤلاء الحاج عبد العزيز الساكن في حجرة إن استطعت الوصول إليها بمجرد دخولها, تفاجأ بصغر حجمها الغريب, ولكنه يملؤها عزة وكبرياء لا يسأل أحدا أي شيء وهو الذي بعد أن تجاوز السادسة والسبعين لم يخطر بباله يومآ أنه سيحتاج لزوجة تشاركه همومه وتأخذ بيده وتسهر علي مرضه وتعاونه علي مصاعب الحياة وتذكره بما بدأ يتساقط من الذاكرة كأوراق الخريف التي لاتعود إلي أفرع الأشجار بعد سقوطها. ورغم ذلك لايشعر بالندم ويري أن رعايته لأخيه المريض وأمه التي طال مرضها عدة سنوات حتي ماتت يشعره بأنه فعل الصواب وما يمليه عليه دينه وضميره. وهذا ما يجعله بشوشا رغم فقده إحدي عينيه وتكالب الأمراض المزمنة علي جسده المنهك خاصة( تآكل العظام) المصاحب للشيخوخة. فإن وفاء أمه له وإحساسه بأنفاسها في كل مكان بحجرته الصغيرة وزيارتها له كلما اشتد عليه المرض يرفع معنوياته كثيرا ويجعله يعتقد إن كانت فارقت دنياه بجسدها فإن روحها الطيبة تمده بالزاد النقي المعين علي الشدائد التي يلقاها.. وبصوت يملؤه الشجن يقول الحاج عبد العزيز خليل الجنش, كنا ملاك جزيرة مصر القديمة بوسط النيل التي تصل حتي المعادي وكانت باسم الجد الرابع خليل الجنش وتحايل عليه بالمال أحمد عبد الغفار باشا واغتصبها منه ومات الاثنان ولم يأخذا الجزيرة معهما ولا أعرف عن هذه الأوراق شيئا ولو كانت ملكي الآن لجعلتها سبيلا للمسنين يعيشون فيها حتي آخر أيامهم. ويستكمل قائلا إن سبب تسميته جنش أن والد جدي طيفة الجنش كان قائدا بالجيش المصري أيام الدولة العثمانية وأعجب ببسالته أحد القادة الأتراك وصاح به في إحدي العمليات أنت جنش يا طيفة أنت جنش أي شجاع, فصارت لقبا للعائلة. وبنبرات خافتة يستطرد, العائلة بلدها ووطنها حي مصر القديمة التي يعرفني فيها كل شارع وحارة وحجر وأي بيت وأعرف كل من سكن ومات في كل الشياخات من شياخة الخوخة, ومحمد الصغير وعوني ومسجد محمود خميس والقناية, وغالية وسيدي صدار وخلافه, فهذه المنطقة كانت بها سوق للغلال للترويج لما يأتي من ميناء أثر النبي وتؤكل وتصرف علي جميع الأحياء والبلدان المجاورة وكل الجمهورية. ويتذكر الحاج عبد العزيز كنت أعمل بالمدابغ لمدة60 عاما وتركتها منذ16 عاما وكنت شابا لا أهاب شيئا وعملت بكل المهن الشاقة في المدابغ وتعلمت في كل حياتي ألا أخشي إلا الله وأنام لا أحمل ضغينة لأحد حتي حسادي, الذين كانوا دائما يتندرون بصحتي قديما ولا أقول الآن إلا الحمد لله علي كل شيء. وبقناعة ورضا يقول الحاج عبد العزيز الآن لا أتقاضي من الدولة إلا معاش الضمان الاجتماعي110 جنيهات شهريا ولا تسألني كيف أعيش بها بالرغم من ارتفاع سعر دوائي الخاص بتآكل في عظام الكتف والخشونة بالركبة, بخلاف إصابتي بروماتيزم مزمن منذ حوالي50 سنة بالفقرات القطنية نتيجة عملي بالمدابغ ولكني لا أسأل أحدا أي مال والله هو المدبر. وبكلمات يملأها الدموع يكمل الحاج عبد العزيز أن ما يشعرني بألم يتضاعف باستمرار أنه ليس لدي أولاد أو يسأل عني أحد مطلقا, عدا أولاد أخي الذين يزورونني بين الحين والآخر. وتوجد شماعة لا تبري أبدا كل يعلق عليها أخطاءه اسمها الظروف عندما أقول لأي إنسان لماذا لا تزورونني يقول الظروف. ويستطرد قائلا أريد الآن إجراء عملية المياه البيضاء بالعين اليمني حتي لا تضيع مثل اليسري التي أجريت بها نفس العملية وكنت أري بها جيدا منذ5 سنوات إلي أن حدث انفصال شبكي أدي إلي نهاية الرؤية بها. ويرفع رأسه إلي سقف الحجرة قائلا أن أحد الأطباء أكد له أن من أسباب النسيان وضعف الذاكرة عدم الزواج وإذا تم ذلك ستعود لك الذاكرة تدريجيا, ولا أعلم أن كان هذا صحيحا أم لا ولكني أحتاج فعليا لمن أستند إليه بعد ذهاب إحدي عيني وبدء تآكل كتفي, ولكن من تقبل بزواج الونس. وبثقة يقول إن الطبيب قال أن سيدة في الستين قد تكون في مثل تلك الظروف وتحتاج لمن يشاركها حياتها, يمكن أن يساعد كل منا الآخر. وبكلمات مليئة بالشجاعة يقول أن امتناعي عن الزواج لحملي أمي وأخي المريضين علي كتفي وكانا يسكنان معي في نفس الحجرة وعندما ماتا ظللت وحدي بها لا أشعر بالندم. ويبتسم وهو يقول أن الكل يندهش من بشاشتي رغم كل ظروفي ولكن ما يسعدني ويجعلني بشوشا حب أمي الذي لم يغادر ذاكرتي إلي الآن ويوم وفاة أمي قفزت في المدفن لأواري التراب بجوارها ولا أتركها, وأخرجني الجيران بصعوبة فلم أر إنسانا يحب أمه مثلي ولا أما أحبت ولدها مثلها وفي كل صلاة أدعو لها إلي الآن ولا أنساها مطلقا, وعندما يشتد علي المرض لا أجد حولي إلا جدران حجرتي والأواني وحاجياتي التي استخدمها فأراها أمامي في نفس الحجرة وكأن روحها تقول جئت أطمئن عليك وأحمد الله وليس أمامي ولا فوقي إلا الله كل أموري أسلمها له هو الرحيم. ويستنكر ما يحدث حوله قائلا إنني أرتبط بالعالم الخارجي من خلال الراديو الذي لايغلقه إلا قطع التيار الكهربائي فقط فهو أفضل من التليفزيون100 مرة رغم أني أتابع بعض النشرات الإخبارية من التليفزيون وأعرف منها أخبار علي عبدالله صالح الذي يكيد لشعب اليمن الكاره له وأتابع القذافي الذي يضرب أبناء وطنه بالقنابل ولا أعلم كيف يحكم من يقتل. وتفوح بكلماته الفخر والاعتزاز وهو يقول أنه فخور بشباب منطقة مصر القديمة من ثوار25 يناير الشرفاء الذين قبضوا علي المجرمين والعديد من البلطجية وسلموهم للقوات المسلحة البواسل. وبصوت عال يضيف الحاج عبد العزيز أنه تمني أن تعود له صحته ثانية ليشاركهم طلاء الأرصفة والأعمدة وتنظيف الشوارع والهتاف بالحرية المسلوبة في عهد الظلم السابق. ولكني شاركتهم بالدعوات. وأبكي كثيرا كلما تذكرت من استشهدوا برصاصات الداخلية. وأحتسبهم في جنات الخلد. وبكلمات كلها رجاء يقول انه يشعر بأن الاهتمام بالمسنين الذين لايعرفهم أحد سيكون أفضل الفترة القادمة في ظل حكومة د. شرف القادم من علي أكتاف الجماهير والمحاط بدعواتنا.