في عدد بالأهرام المسائيا الصادر بتاريخ العاشر من أغسطس الماضي جاءت الذكريات والحكايات تهنئ الأخ والصديق والزميل صاحب الأسلوب العذب والكلمة الرشيقة والإذاعي الفذ فاروق شوشة بجائزة النيل, ولم يكن يدور في الذهن أنه بعد أسابيع قليلة من هذه التهنئة أن تجيء الذكريات والحكايات لترثيه وتنعيه بعد أن رحل عن دنيانا الفانية, ولكنها إرادة المولي عز وجل الذي لا راد لقضائه.. نعم هي إرادة الله سبحانه وتعالي التي قضت برحيل معلم الأجيال الإذاعية أصول الإلقاء أمام الميكروفون, والذي جعل الفصحي معشوقة للملايين الذين كانوا ينتظرون طلته عبر الأثير مساء كل يوم يسمعون ويستمتعون وهو يقدم لهم درة البرامج الإذاعية لغتنا الجميلة التي أرجو ألا تتوقف برحيل الفارس بل يجب إعادة حلقاتها دوما, وفي نفس الموعد علي أثير البرنامج العام. لأن لغتنا الجميلة هي السيمفونية الخالدة في خريطة الإذاعة الأم هنا القاهرة مثلها مثل السيمفونيات الموسيقية التي تتردد علي مسارح دور الأوبرا العالمية, والتي لا يكل ولا يمل الإنسان من سماعها, والتي وضعها عباقرة الموسيقي العالميون منذ عشرات السنين, وإذا كنت أجد عنتا ومشقة وأنا أتخير كلماتي التي أرثي بها فاروق شوشة فإن عذري أنني مهما جاهدت نفسي بحثا عن هذه الكلمات فإنني لن أستطيع أن أوفيه حقه, فهو القيمة والقامة التي لا تتطاول إليها كلماتي, وماذا أستطيع أن أقول في رثائه؟ هل أقول إنه المذيع ومقدم البرامج الأشهر علي مستوي كل الأجيال الإذاعية السابقة واللاحقة. وهل أقول إن ميكروفون الإذاعة المصرية لم يصافحه صوتا وأداء وإتقانا وسلاسة في اللغة وجمالا في مخارج الألفاظ وحسنا في تقطيع الجمل ورصانة في الوقفات بين كل جملة وأخري إلا فاروق شوشة, إنني أبصم بالعشرة كما يقول المثل العامي أن ميكروفون الإذاعة لم يسعد بعدد من أبنائه النجباء قدر سعادته بهذا الوافد الذي وفد عليه عام1958, مذيعا متدفق الثقافة غواصا في دروب اللغة العربية عارفا بمفرداتها مجيدا نطق كلماتها إنه فاروق شوشة الذي ما أن حل في موقعه كمذيع تحت التمرين حتي فاق من يقومون بتدريبه حيث لمع كالشهاب بمجرد أن صافح صوته أذان المتلقين, لقد كنا نحن الذين نسبقه بسنوات في العمل الإذاعي نتساءل كيف لهذا الوافد الجديد, وليس في أدائه لنشرة الأخبار هنه, وليس له من وقفة فيها نشاز ولا أكتم سرا أننا كنا نلجأ إليه في شرح معني من المعاني أو تصحيح نطق لفظ من الألفاظ. فاروق شوشة وهو في سن اليفاعة الإذاعية كانت له إسهاماته المشهودة في البرنامج الثقافي وكانت له في هذا البرنامج حوارات ولمحات مع أساطير الأدب والثقافة ضيوف هذا البرنامج, ولقد ارتكز فاروق شوشة في بناء شخصيته علي احترام الذات.. كان يعرف قدر نفسه ويعرف أيضا قدر الآخرين, لم نسمع منه تلاسنا مع زملائه, ولم تصدر منه كلمة في حق واحد منهم, كان خفيض الصوت دائم البسمة متسما بالأدب الجم والاعتداد بالنفس في غير غرور, كان فاروق شوشة جديرا بأن يكون رئيسا للإذاعة في وقت مبكر عن التاريخ الذي ارتقي منه الموقع, وذلك لأنه لم يكن من حملة المباخر أو كدابي الزفة وكان هو رئيس الإذاعة الوحيد الذي جدد له رئيس الجمهورية لمدة عام بعد بلوغه سن المعاش فاروق شوشة يا صديقي العزيز لا أستطيع أن أوفيك حقك في مجال إشعارك وأدبياتك وتبحرك في عوالم الفصحي لأن قلمي يعجز عن أن يخوض في أمواج بحرك الهادر فهناك سباحون يعرفون السباحة في بحرك العميق. لقد قلت ما استطعت أن أقوله بحكم زمالتي لك في مجال الأثير المسموع وأقول جازما أنني لم أوفيك حقك فأرجوا أن تسامحني مع دعائي لك بالمغفرة والرحمة.