الثورات هي عمل قانوني, هي جهد جماعي لاسترداد القانون ومعه الوطن والمواطن لتكون الدولة والوطن ملكا للناس وليس لفرد أو مجموعة الثورة قبل ذلك وبعده, هي لحظة تأسيسية في التاريخ تعيد تأسيس الأمم, وتعيد إلهام المشرعين, فالثورات تلهم الأمم دساتير جديدة وقوانين جديدة وموازين جديدة ومؤسسات جديدة, وتحيط ذلك كله بدفعة من الطموح والدوافع والرغبة في الحياة التي تفور في عروق الشعب, فإذا به شعب آخر يمتلئ بروح النصر ويتزود بروح الاقدام علي الخاطر دون هيبة ولا وجل. عندنا في مصر عرفنا أربع ثورات, الأولي ثورة المشايخ في نهاية القرن الثامن عشر, وكانت آخر ثورة دينية وأول ثورة قومية, فقد طردت الغزاة الفرنسيين ومكنت لأول حكم حديث تولاه محمد علي باشا, وهي في النهاية ثورة شعب بقيادة الأزهر, ثم شهدنا بعد ذلك ثلاث ثورات, ثورتين للجيش المصري الأولي بقيادة أحمد عرابي, والثانية بقيادة الضباط الأحرار, وبينهما الثورة الشعبية بقيادة الوفد في1919. ثم جاءت ثورة الخامس والعشرين من يناير لتمثل ذروة العطاء المصري في رصيد الثورات الانسانية, فهذه الثورة الخامسة قد استحضرت وأحتوت علي خلاصة الثورات الأربع السابقة عليها فهي ثورة شباب وشيوخ, وثورة أزهر وكنيسة, وثورة شعب وجيش, وثورة أغنياء وفقراء, وقد اثبتت أن التاريخ المصري لا يعرف شيئا اسمه آخر الثورات. الثورات لها دور لا استغناء عنه في تطهير قنوات التاريخ وتصويب حركة الزمن, هذه الوظيفة التاريخية للثورات هي إلهام شعبي وإرادة إلهية فوق قدرة أولائك الذين يظنون أنهم قادرون علي التحكم في الواقع بنسبة مائة في المائة. وإذا أردت أن تتخيل جدوي الثورات في حياة الشعوب ما عليك إلا أن تفكر لحظة: هل يمكنك أن تتخيل لك ولوطنك هوية أو وجودا أو مزاقا أو طعما دون هذه الثورات الخمس التي أشعلناها, ودفع هذا الشعب العظيم ثمنها من دماء أعز أبنائه؟ يكفي ثورة الخامس والعشرين من يناير شرفا أنها دفنت تاريخا كان قد مات وأوضاعا جعلت من الوطن مقبرة للحلم والأمل ويكفيها شرفا أنها أسست لتاريخ جديد, عادت فيه مصر من ميدان التحرير كأنها ولدت من جديد, وقد تخلصت من كل العوائق التي تحول دون اندفاعها إلي آفاق المستقبل.