إن الكشف عن جذور التطرف والعنف والإرهاب ومعرفة أسبابه هو موضوع الساعة بل هو أشد الموضوعات خطورة وأثرا, لأن المسلمين اليوم وهم يواجهون مشكلات الحضارة وتحديات العصر ومعركة البقاء لا يواجهون ذلك وهم علي منهج واحد كما تواجهه الأمم الأخري, بل هناك مناهج لدينا نشأت أو قل نبتت عن الابتعاد عن المنهج الأمثل, المنهج الحق الذي ارتضاه لنا رب العالمين يقول عز شأنه( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله..). ومن ثم: فإن الإرهاب والتطرف والعنف لم يأت اعتباطا ولم ينشأ جزافا بل له أسبابه ودواعيه, ومعرفة السبب غاية في الأهمية, لأن معرفة السبب تحدد نوع العلاج وصفة الدواء, فلا علاج إلا بعد تشخيص, ولا تشخيص إلا ببيان السبب أو الأسباب والبواعث التي أدت إلي هذا الفكر الضال. وعن أهم هذه الأسباب يقول الدكتور اسامة الشيخ استاذ الفقه بكلية الشريعة والقانون بطنطا جامعة الازهر: الجهل بقواعد الإسلام وآدابه وسلوكه من أبرزها: فعن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: إنها ستأتي علي الناس سنون خداعة, يصدق فيها الكاذب, ويكذب فيها الصادق, ويؤتمن فيها الخائن, ويخون فيها الأمين, وينطق فيها الرويبضة قيل: وما الرويبضة؟ يا رسول الله قال: السفيه يتكلم في أمر العامة وللأسف أصبح بعض الشباب يتلقي أمور دينه ممن لا علم لهم وممن يجهلون أخلاقيات الدين وآدابه, وما يدعو إليه من الحب والرحمة والتسامح والعفو, فأصبح من علامات الساعة أن يتحدث الرويبضة في شأن العامة والقضايا المصيرية ومن لا هم له إلا شهواته, أو من حمل بأفكار غريبة يتولي تربية الشباب فتستغل عواطفهم بتحميلهم أفكارا تؤدي لتحمسهم بلا ضابط ولا رادع ولا رجوع لأهل العلم الصالحين الذين خبروا الأمور ودرسوا معالم الإصلاح جيدا..ولا نجد تعليلا لذلك إلا الجهل, فالجهل داء عظم وشر مستطير تنبعث منه كل فتنة عمياء وشر وبلاء, قال أبو الدرداء رضي الله عنه(كن عالما أو متعلما أو مجالسا ولا تكن الرابعة فتهلك وهي الجهل, ومنه حديث ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما دواء العي السؤال. بالاضافة إلي الغلو في الفكر, وهو مجاوزة الحد, وهذا الغلو أو ما قد يصطلح عليه ب(التطرف الفكري) خطير جدا في أي مجال من المجالات والإسلام قد حذر منه ولو كان بلباس الدين, يقول النبي صلي الله عليه وسلم( إياكم والغلو) ويقول( هلك المتنطعون) فمن يتصف بهذا الغلو ويجاوز الحد في فهم النصوص فيعمل ويعتقد في العموميات ويترك النصوص التفصيلية الأخري,فهو يعمل بشعار الخوارج, وهو العمل بالنصوص العامة, وإهمال باقي النصوص وعدم استقصاء الأدلة وأحوالها.ومن دلائل هذه الضحالة الفكرية وعدم الرسوخ في فقه الدين والإحاطة بآفاق الشريعة: الميل دائما إلي التضييق والتشديد والإسراف في القول والتحريم وتوسيع دائرة المحرمات مع تحذير القرآن والسنة والسلف من ذلك. وحسبنا قول الله تعالي( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا علي الكذب إن الذين يفترون علي الله الكذب لا يفلحون), وكان السلف لا يطلقون الحرام إلا ما علم تحريمه جزما, فإذا لم يجزم بتحريمه قالوا نكره كذا, أو لا نراه, أو نحو ذلك من العبارات, ولا يصرحون بالتحريم, أما الميالون إلي الغلو فهم يسارعون إلي التحريم دون تحفظ بدافع التورع والاحتياط إن أحسنا الظن أو بدوافع أخري يعلم الله حقيقتها.ويشير الدكتور أسامة الشيخ نري هؤلاء مثلا إذا كان في مسألة من المسائل للفقهاء فيها رأيان رأي يقول بالإباحة ورأي يقول بالكراهة قالوا بالكراهة, وإذا كان هناك رأي يقول بالكراهة ورأي يقول بالتحريم أخذوا بالتحريم, وإذا كان هناك رأي ميسر ورأي مضيق ومشدد فهم مع التضييق والتشديد, والدين براء من كل هذه الترهات, فقد ورد عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال( سددوا, وقاربوا, واعلموا أن أحدا منكم ليس بمنجيه عمله, قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا, إلا أن يتغمدني الله برحمته ولذا: فإن من شذ بفكره وانحرف بجهله وقع في المحظور وطوته تيارات الغلو والإرهاب, فتراه يقوم بأفظع الجرائم باسم الدين, فالحقيقة التي لا مراء فيها أن لكل شيء في هذا العالم مقدار قدره الله بعلمه وحكمته( وكل شيء عنده بمقدار) فلا إفراط ولا تفريط في خلق الله. يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله فما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما إلي تفريط وإضاعة وإما إلي إفراط وغلو, ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه كالوادي بين جبلين, والهدي بين ضلالتين والوسط بين طرفين ذميمين, فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له فالغالي فيه مضيع له هذا بتقصيره عن الحد وهذا بتجاوزه الحد. ويقول الشيخ محمد شعلان وكيل مديرية أوقاف القليوبية إن الانحراف لغة هو الميل والعدول والمجانبة واصطلاحا هو مجانبة الفطرة السليمة واتباع طريق الخطأ المنهي عنه.والشخص المنحرف في نظر الشرع هو الذي يقوم بعمل يفسر النظام ويحول دون تطبيقه علي واقع الحياة مما يلحق الضرر بالمصلحة الفردية أو الجماعية أو كليهما معا وأهم الأسباب وراء هذا الانحراف والتطرف الفكري الجهل بالإسلام حيث وينتج عن هذا الجهل فقدان المعرفة الحقيقية التي تكمن من معالجة المشاكل والقضايا المستمدة ومن الأسباب أيضا الفراغ الفكري والتوقف عن الإبداع والإنتاج الذي يسد الحاجة المعاصرة للفكر الإنساني والتغافل عن التيارات الفكرية التي غزت البلاد الإسلامية.ومن الأسباب كذلك الافتقار إلي مرجعيات دينية موثوقة: فالناظر في حال شبابنا يجده تائها في فراغ فكري ولو أراد الوقوف علي حقائق الأمور لا يجد من يرجع إليه من الهامات العلمية وذلك بسبب التهميش الإعلامي لهذه القامات مما يؤدي إلي بروز الجهال الذين يحكمون فهمهم للواقع عن طريق الأهواء ويعملون علي تسخير الشباب لتحقيق أهدافهم الهدامة وينتج عن ذلك تأسيس خاطئ لعقول الشباب وهذا الذي يأخذهم نحو الضياع ومن الأسباب أيضا فراغ الشباب وصعوبة المعيشة مما يجعل الشباب خطا ناقما علي المجتمع ويحاول إلحاق الضرر به بأي وسيلة لأن النفوس مجبولة علي حب من أحسن إليها وكره من أساء إليها. وهذا الفراغ لدي الشباب يولد عندهم نوعا من الاحباط الذي يؤدي إلي ما نراه من محاولة الشباب لملء فراغهم بأي شيء ولو كان فيه ضرر لنفسه بالإضافة إلي ضعف تعلق الشباب بأوطانهم فلا يري الشباب ما يزيد تعلقهم بأوطانهم ولا يفكر أكثرهم إلا في حياة مادية بحتة, وبالتالي ينعدم الولاء للوطن وينقطع بل يتفاقم الأمر ليصل إلي كراهيته لهذا الوطن ورغبته في الانتقام منه ورفض لأي واقع يؤدي إلي تغييره وتطويره. وعن سبل علاج هذه الظاهرة يوضح الشيخ محمد شعلان أنه يجب إظهار وسطية الإسلام واعتداله وتوازنه والعمل علي ترسيخ الانتماء لدي الشباب لهذا الدين وإشعارهم بالاعتزاز بهذه الوسطة وهذا يعني الثبات علي المنهج الحق وعدم التحول عنه بالإضافة إلي معرفة الأفكار المنحرفة وتحصين الشباب ضدها فلابد من تبصيرهم بها قبل أن تصل إليهم مزخرفة حتي لا يتأثروا بها. فالفكر الهدام ينتقل بسرعة كبيرة. فالحل في تبصير الشباب بانحراف هذه الأفكار عندما تصل إليهم فيعرفون كيف يتعاملون معها بالإضافة إلي ذلك إتاحة الحوار الرشيد داخل المجتمع وعقد الندوات واللقاءات الحوارية بين الشباب والمتخصصين بما ينتج عنه الكشف عن محتوي فكر الشباب وتوجيههم فلا ينبغي أن يكون الشباب متلقيا فقط بالإضافة إلي ذلك يجب اهتمام أجهزة الدولة بالشباب ومحاولة ملء فراغهم وتنمية الولاء للوطن عندهم. ويقول الدكتور علي الله الجمال بالاوقاف إن الإسلام لم ترتفع في الإنسانية رايته, ولم يمتد علي الأرض سلطانه إلا بشباب الصحابة الكرام, فهذا الصديق رضي الله عنه عندما أسلم لم يتجاوز السابعة والثلاثين, وهذا عمر رضي الله عنه لم يتجاوز السابعة والعشرين, وهذا عثمان رضي الله عنه لم يتجاوز الرابعة والثلاثين, وعلي رضي الله عنه لم يكن تجاوز العاشرة, فعلي شباب اليوم أن يعلموا أن أمتهم هي خير أمة, وأن هذه الخيرية ثابتة لها ما دامت متمسكة بدينها. ولكننا إذا تحدثنا عن أسباب ضياع الشباب فإننا نلخصها في سببين خطيرين: الأول: هو فقدان القدوة الصالحة فبعض الناس أخبرني أن ابنه في المرحلة الابتدائية طلب منه موبايل غالي الثمن فواعجبا أصبح الموبايل مكان القرآن. وأما السبب الثاني فهو عدم وجود البيئة السليمة التي تحتضنه وترعاه, وللأسف الشديد فإن البيئة التي تحتضن الشباب اليوم هي( الكرة, الشطرنج البلياردو, الفضائيات, الانترنت).وكانت النتيجة هي ابتعاد الشباب عن وسطية الإسلام, فطائفة ضلت الطريق فاتجهت نحو الالحاد والإباحية تحت مسمي الحرية, وطائفة اتجهت نحو التطرف والإرهاب تحت مسمي الدفاع عن الشريعة. ويضيف الدكتور علي الله أخجل من نفسي عندما يتم القتل والتفجير باسم الدين, فالدين برئ برئ من هذه الجرائم.. إن الكتب السماوية, التوراة والإنجيل] تدعوا الناس إلي الأخلاق أما القران فيدعو إلي الأخلاق ومكارمها وإتمامها, قال تعالي: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين. قال عكرمة: لما نزلت هذه الآية قال عليه السلام: يا جبريل ما هذا؟ قال يا محمد إن ربك يقول هو أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك. ويؤكد إن اللبنة الأولي التي نقدمها لديننا( لم الشمل ومساواة الصف) ليقوم الدين من جديد. وأقصد ب لم الشمل أن نقضي علي كل عوامل الفرقة والاختلاف, وأن نسد باب الدم الذي ينزف ليل نهار. وأقصد بمساواة الصف أن نصلح النوايا ونبتعد عن النفاق والمداهنة والمجاملة وترك الهوي فالخلاف جبن وفشل وذهاب ريح. إن التفرق شر كله وشره ما كان في الدين, وأشنعه ما كان عن هوي, ونتيجته التعادي وأثره السخرية من الدين. إن الله عند ما تحدث عن الاقتتال بين المؤمنين لم ينف عنهم صفة الإيمان رغم اقتتالهم يقول ربنا في سورة الحجرات(وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فإصلحوا بينهما), وأمة الإسلام تعيش فرقة واختلافا وتباينا في الآراء مما مكن الأعداء من مرادهم فليحذر شباب المسلمين ذلك, وليتقوا الله, وليصححوا أوضاعهم, وليعلموا أنه لا نجاة لهم من عدوهم ومكائد عدوهم إلا بالرجوع إلي الله, وتمسك بدين الله واعتصام بحبل الله, وتعاون علي البر والتقوي, فعسي الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده. إن أمة الإسلام اليوم في بلاء وامتحان, وما ذاك إلا بإعراضهم عن دين الله, وما ربك بظلام للعبيد, فالعدو الحاقد إذا قابلناه بالإيمان الصادق والعزيمة الصادقة والإخلاص لله فإنه أذل خلق الله.