لقد خص الله تعالي أهل ولايته بغبطة الانقطاع إليه ليعرفهم تواتر نعمه ودوام إحسانه وفضله, فانصرفت هموم الدنيا من قلوبهم وعظم شغل الآخرة في صدورهم لما سكنها من هيبة ربهم, فألزموا قلوبهم ذل العبودية, وطرحوا أنفسهم في محجة التوكل علي الله. ولهذا لا يكون المسلم متوكلا علي الله إلا بقطع كل مؤمل دون الله, وانتظار الثواب منه سبحانه وتعالي علي الصبر علي المصائب باعتبارها امتحانا منه أو تكفيرا للسيئات, فالإيمان يهون علي الإنسان تلك المصائب. والتوكل علي الله تعالي يحقق الإيمان ويرسخ العقيدة, قال تعالي:( وعلي الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين), المائدة:23], كما أنه يطمئن القلب ويشرح الصدر ويعظم الثقة بالله تعالي, وهو سبب التأييد والنصرة من الله عز وجل, قال تعالي:( وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين), الأنفال:62]. وهو من أقوي الأسباب لدفع أذي الخلق وظلمهم وعدوانهم, فمن تعرض للأذي والظلم فلجأ إلي الله تعالي وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل, أتاه العون من الله تعالي والنصر, مهما طال زمن أو قصر, وقد أرشدنا الله إلي الاعتصام به والتوكل عليه إذا ادلهمت علينا الخطوب, وضاقت علينا الأمور, وبين أن العاقبة للمتقين, فقال تعالي:( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل* فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم), آل عمران:173-174]. والتوكل يورث الصبر الذي بهما معا يكون ملاك الأمور كلها, فما فات أحدا شيء من الخير إلا لعدم صبره, وبذل جهده فيما أريد منه, أو لعدم توكله واعتماده علي الله. كما أنه يورث التمكين والثبات وقوة العزيمة, قال تعالي:( إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلي الله فليتوكل المؤمنون), آل عمران:160]. كما أن التوكل يقي من تسلط الشياطين, ويدفع الحسد والسحر والعين, قال تعالي:( إنه ليس له سلطان علي الذين آمنوا وعلي ربهم يتوكلون), النحل:99]. وهو يورث الرضا بقضاء الله وقدره, ويورث سعة الرزق, قال:( لو توكلتم علي الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا). وأعظم من ذلك كله أنه سبب لدخول الجنة بلا حساب ولا عذاب كما أخبر بذلك النبي صلي الله عليه وسلم أنه يدخل الجنة سبعون من أمته بلا حساب ولا عذاب, ولما سئل عنهم قال:( هم الذين لا يسترقون, ولا يتطيرون, ولا يكتوون, وعلي ربهم يتوكلون) وقد ضرب لنا رسولنا الكريم أروع المثل في الصبر والتوكل علي الله, فكانت حياته حافلة بالمواقف التي تدل علي ذلك, فقد تعرض لكثير من الإيذاء والاستهزاء والتكذيب, فوصفه المشركون بالشاعر والكاهن والمجنون, وسعوا أن يصدوه عن دعوته بشتي الطرق والوسائل, والاتهام بالسحر والتفريق بين الناس, بل وتعدي الأمر إلي إيذاء أتباعه أمامه حتي يجبروه علي التخلي عن دعوته رحمة بهم, فما كان منه صلي الله عليه وسلم إلا الصبر وحسن التوكل.