بين مشاعر الغضب التي تجتاح الشارع الفرنسي جراء الاعتداءات الإرهابية التي ضربت أمن واستقرار باريس يوم الجمعة الماضي, وحصدت قرابة ال130 قتيلا و352 جريحا, والرغبة في الانتقام من الجناة بأسرع وقت ممكن وبين مشاعر الحزن البالغ علي الضحايا المدنيين الأبرياء من جانب أقاربهم وأصدقائهم, يبدو المشهد ملتبسا وصعبا علي التحليل بشأن الفاعل الحقيقي وراء هذه الهجمات التي تم تنفيذها بإتقان ودقة شديدين, رغم الإجراءات الأمنية المشددة التي فرضها الأمن الفرنسي تثور عشرات الأسئلة التي لا تجد من يجيب عنها إجابة شافية وقاطعة, أولها: علي أي إرهاب أعلنت فرنسا حربها؟ الفرنسيون استسهلوا إلصاق الاتهام بما يعرف بتنظيم داعش في العراق والشام بوصفه منسق ومخطط ومنفذ تلك الاعتداءات الوحشية, واعتباره الممثل الأوحد للإرهاب في العالم, مستندة في ذلك إلي مجرد بيان صادرعن التنظيم يعترف بارتكابه تلك المجزرة البشعة, يمكن لأي شخص من خارج التنظيم بثه علي الشبكة العنكبوتية لإلصاق التهمة به وإبعاد الشبهة عن الجاني الفعلي. وتجاهلت أجهزة الاستخبارات الفرنسية الطريقة التي ارتكبت بها تلك الهجمات والتي تدل بشكل قطعي علي أن وراء تخطيطها وتنفيذها المحكمين بهذه الكيفية أجهزة استخبارات كبري, وليس مجرد تنظيم لا يعرف له مقر قيادة, بينما التنظيم مشغول بحرب طاحنة في العراق وسوريا لا تسمح له بإدارة عمليات هجومية بهذا المستوي الرفيع والمتقن علي بعد آلاف الأميال. كما تجاهلت أن داعش الذي أصبح لافتة كبري يمكن تحميله مسئولية كل العمليات الإرهابية في العالم حتي لو لم يرتكبها بالفعل بالصورة التي تفتح المجال علي مصراعيه لأي لاعب دولي لارتكاب أفظع الجرائم باسم التنظيم الإرهابي, دون احتمال لإنكار التنظيم لهذه الاتهامات أو تلك. غاب أيضا عن أجهزة الاستخبارات الفرنسية ما سبق أن أعلنه الجيش العراقي من رصده أكثر من مرة لطائرات عسكرية أمريكية تلقي بمساعدات لوجيستية لقوات داعش في المناطق التي يسيطر عليها فوق أراضي العراق, مما دفع بالكثير من المراقبين والمحللين إلي القول بأن الولاياتالمتحدة تقف وراء داعش, وتدعمه بالسلاح والذخائر والمؤن وسيارات الدفع الرباعي التي يستخدمها في عملياته, بل حتي بالملابس التي يرتديها أفراده, فكيف يرتكب التنظيم مثل هذه المجزرة بحق واحدة من حلفاء الولاياتالمتحدة, إلا إذا توافرت له رغبة في الانتحار بإضافة عدو قوي مثل فرنسا لأعدائه التقليديين الذين يحاربهم فوق الأراضي العراقية والسورية؟! فهل يمكن القول إن هناك من يريد الدفع بفرنسا لخوض حرب شرسة ضد التنظيم في العراق وسوريا, والانضمام إلي قوات الحرس الثوري الإيراني والقوات الروسية, إضافة إلي الجيش السوري التابع لبشار الأسد وعناصر حزب الله اللبناني في حربهم ضد داعش؟ ومن يقول أو يقتنع بأن داعش قادر علي اختراق كل الاستحكامات الأمنية الفرنسية من خلال ثلاث مجموعات من الإرهابيين, ليهز أركان الجمهورية الفرنسية, بعمليات إرهابية دقيقة علي هذا النحو دون أن يترك وراءه دليلا واحدا يشير إلي الجاني, اللهم إلا بعض جوازات السفر التي ألقيت في مكان الحادث عن عمد لصرف انتباه المحققين بعيدا عن المجرم الحقيقي؟ حتي أجهزة الاستخبارات الكبري يمكن أن تنسي وراءها دليلا يكشف المتورطين في مثل هذه الهجمات الدموية, فما هو تفسير نجاح سبعة إرهابيين فقط في تنفيذ هذه الاعتداءات المتزامنة, ومن وفر لها السلاح والذخائر والأحزمة الناسفة, ومن خطط لها, ومن اختار توقيت الهجمات؟ هل يمكن القول إن وراء هذه الاعتداءات أطرافا دولية كبري استخدمت عناصر من داعش بالفعل للتنفيذ مع توفير كل أسباب النجاح لتلك المهمة الشيطانية, لأغراض لن تكشف عنها الأيام ولا الأسابيع ولا الشهور المقبلة؟ أولها الدفع بفرنسا لخوض غمار حرب عمياء علي تنظيم داعش, ومن ثم التضييق علي المسلمين الفرنسيين وعددهم لا يقل عن20% من تعداد فرنسا باعتبارهم كلهم إرهابيين محتملين؟ ومن هو المستفيد الحقيقي من شن هذه الهجمات البشعة علي مدنيين فرنسيين أبرياء؟ المشهد كله يمضي في الطريق الذي خطط له, فقد أعلنت فرنسا الحرب علي الإرهاب, وتوعدت برد قاس وعنيف, وفي سبيل ذلك اتخذت حزمة من الإجراءات الاستثنائية قلما تلجأ إليها نظم الحكم الديمقراطية, من بينها إغلاق الحدود, وفرض حالة الطوارئ للمرة الخامسة منذ عام1955, والاستعانة بالجيش لإقرار الأمن في الشارع الفرنسي, بعد أن عجزت الشرطة عن توفيره. بينما تم تعطيل الدراسة في المدارس والجامعات, وتوقف العمل في عدد من المصالح الفرنسية, وخلت شوارع باريس من المارة غداة الاعتداءات الخسيسة التي استهدفت المدنيين الأبرياء!! وبينما كانت السلطات علي علم بأعمال تخريبية محتملة, عجزت الشرطة الفرنسية عن تأمين العاصمة, بما فيها استاد دو فرانس الذي كان يستضيف الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند ونظيره الألماني يواخيم جاوك لمتابعة أحداث مباراة في كرة القدم بين فريقي البلدين, والذي طالت محيطه الهجمات, بما يؤكد أن قدرات داعش وحدها لا تكفل له تنفيذ مهمته علي هذا النحو إلا إذا توافرت له عوامل مساعدة من أطراف أخري قادرة علي اختراق الأمن الفرنسي! رد الفعل الفرنسي الرسمي سيطرت عليه حالة هيستيرية دفعت به لاستعجال وابتسار التحقيقات والنتائج وتعليق الاتهامات كلها علي أول مشجب وضعه في طريقها الجناة الحقيقيون وهو جوازات السفر العربية, فمضت في التهديد بسن قوانين تمكنها من سحب جنسيات الفرنسيين المسلمين, بينما مضي اليمين الراديكالي المتطرف في استثمار حالة الهوس بحرق نسخ المصحف الشريف في تظاهرات مجنونة, وهو السيناريو المراد تحقيقه من هذه الهجمات التي أدانتها كل الحكومات والشعوب المسلمة فور وقوعها, ولكن يبدو أن الفرنسيين لم يعيروها أي اهتمام وهم مدفوعون إلي الثأر بأي شكل ممن يعتقدون أنه الفاعل الحقيقي.