جاء فيلم العصور الحديثة ليقدم ملحمة سينمائية ضد رأسمالية الأزمات, رأسمالية البطالة والفقر, فكل مشاهد المصنع التي توضح وجهة نظر شابلن في وضع الإنسان في المجتمع الصناعي.. جاءت شديدة الحكمة وذات بعد فلسفي عميق. . وان كان الكثيرون اتهموا شابلن بنقل معظم تلك الأفكار عن فيلم المخرج الفرنسي رينيه كلير الحرية لنا إلا أن هذا لا يقلل من قيمة ورقي تلك المشاهد في الوصول بفن السينما إلي مستوي أي وسيط ثقافي آخر في بحث علاقة الانسان بواقعه ومجتمعه حتي لو كان ذلك من خلال الكوميديا التي كان ينظر إليها الكثيرون علي أنها مجرد نمط يهدف للتسلية فقط. الفيلم يحتوي أيضا علي كوميديا سياسية وذلك يوضح تطور فكر شابلن السينمائي والذي مع هذا الفيلم اخضع إبداعه الكوميدي أكثر لصالح القضايا العامة الكبري عن أفلامه السابقة, التي كانت الإبعاد الميلودرامية والعاطفية تحتل فيها مساحة اكبر فمن المشاهد التاريخية في سجل السينما..مشهد شابلن وهو يلتقط علما احمر سقط من مؤخرة عربة نقل تحمل ألواحا خشبية, ويجري ملوحا به خلف العربة لتخرج عليه مظاهرة من العاطلين عن العمل من شارع جانبي ليقبض عليه بتهمة قيادة مظاهرة شيوعية.. وعند دخوله السجن يحاول بكل الطرق أن يظل فيه لأنه يجد مأوي ومأكلا في حين انه في الخارج عاطل متشرد.. فما هي طبيعة ذلك المجتمع الذي يكون السجن فيه ارحم من الحرية حفل الفيلم بالعديد من الأمثلة التي تصلح كنموذج لكيفية تصميم مشاهد كوميديا تكون فيها الكوميديا جزءا من البناء الدرامي للعمل. ونذكر منها مشهد التحاق شابلن بالعمل في ورشة بناء السفن بعد خروجه من السجن, حيث يطلب منه رئيس العمال البحث عن قطعة خشب مثلثة داخل ورشة العمل فيستعمل مطرقة في إخراج قطعة خشب محشورة أسفل إحدي السفن وبعد أن ينجح, نكتشف أن قطعة الخشب تلك ليست سوي الدعامة التي تمنع السفينة من الانزلاق نحو الماء, وبالتالي فان نزعها سيؤدي إلي نزول السفينة إلي البحر, يصورالمشهد بطريقة شديدة الفنية توضح موهبة شابلن الإخراجية وتميزه كممثل كوميدي, حيث نري لقطة عامة( شابلن يري ان اللقطات الواسعة تصلح لتصوير الكوميديا والضيقة للتراجيدية) لشابلن وهو يحاول نزع قطعة الخشب من أسفل السفينة في خلفية الكادر وفي مقدمته نجد مجموعة من العمال ينظرون الي شابلن بذهول لأنهم يعرفون ما سيؤدي إليه نزع دعامة السفينة, لكن هول الموقف أخرسهم وتركهم فاغرين أفواههم, وبعد أن ينزع شابلن قطعة الخشب ويحملها في يده, تبدأ السفينة في الانزلاق نحو الماء دون أن ينتهي بناؤها, ويلف ويعطي ظهره للسفينة وللبحر, وبالتالي لا يشاهد السفينة وهي تشق طريقها إلي قاع المحيط ولكن يشاهدها الجمهور في صالة العرض وتتعالي ضحكاته التي لا يسمعها شابلن بالطبع, ولكن يري نظرة الذهول في أعين عمال الورشة, فيلتفت برأسه ليشاهد السفينة وهي تغرق, ثم يتجه بهدوء إلي المكان الذي وضع فيه ملابسه ليحملها ويرحل تاركا العمل. المشهد الشديد الرقي علي صعيد تصميمه واختيار حركة الممثلين داخل الكادر وحجم الكادر.. الخ كما أن الأداء أيضا رفيع المستوي, حيث لم يكن به أي درجة من درجة الافتعال, فلم يأت شابلن بأي حركات رد فعل فارس بغرض الإضحاك بل ترك الموقف نفسه يخرج ما بداخله من كوميديا. الفيلم استعمل الصوت ولكنه ظل فيلما صامتا دون حوار ولكن به أصوات نباح الكلاب وتنبيهات رئيس العمال.. الخ وحتي في النهاية أراد شارلو غناء أغنية في المطعم الذي عمل به كجرسون وكتب كلمات الأغنية علي أساور قميصه فطارت أساور القميص, فغني الأغنية بكلمات لغة غيرمفهومة علي لحن من تأليفه هو( نقصد شارلي شابلن وليس شخصية( شارلو) فقد كان شابلن مؤلفا موسيقيا, لكنه كان رافضا للصوت في السينما! الديكتاتور هو ابرز أفلام شابلن السياسية صنعه في1940 وقت لم تكن فيه أمريكا قد دخلت الحرب بعد, وكانت دعاوي الانعزالية تسيطر علي المجتمع السياسي الأمريكي, ومن هنا كانت دعوة شابلن لدخول الحرب بابا للهجوم عليه كيهودي وكشيوعي.. الفيلم هو أول أفلام شابلن الناطقة, وهو يلعب علي تيمة تشابه الشخصيات فنحن نري شابلن في شخصية جندي ألماني عائد من الحرب العالمية الأولي ليتسلم عمله السابق كحلاق في الجيتو اليهودي حين يتسلم هينكل السلطة في ألمانيا ويبدأ عداءه لليهود, وهينكل ليس سوي شابلن نفسه وبعد مضايقات هينكل يتم القبض علي يهود الجيتو ليهرب شابلن من معسكر الاعتقال, ولكن للشبه بينه وبين الديكتاتور هينكل يظن الجميع أن شارلو ليس سوي الديكتاتور وينتهز هو تلك الفرصة ليلقي خطابا علي الجماهير المحتشدة لسماع الديكتاتور حول الإخاء بين الإنسانية والبشر. والفيلم هو أول فيلم كوميدي ملتزم بقضية سياسية يدافع عنها, واختار تيمة التشابه بين الحلاق اليهودي والديكتاتور هينكل زعيم دولة تومانيا التي هي ألمانيا لمجرد أن يحل الحلاق محل الديكتاتور ويلقي خطبته الإنسانية الشهيرة. الكوميديا في الفيلم أداة من أدوات السخرية اللاذعة للوضع السياسي, فنحن نري هينكل يلهو ببالون عبارة عن كرة أرضية دلالة علي طموح هتلر لغزو العالم, ولكن البالون ينفجر كرمز لما سيؤدي إليه طموح هذا الديكتاتور المجنون.. وكانت خطوة جريئة تقديم شخصية موسوليني في صورة الديكتاتور نابالوني الذي يذهب لزيارة صديقه وحليفه هينكل.. فقد فتح شابلن النار مبكرا علي رموز الفاشية والنازية في وقت كانت فيه أمريكا تريد أن تنأي بنفسها عن الصراع القائم في أوروبا. وعبر لقاءنابالوني وهينكل قدم شابلن وجهة نظره في أن الزعيمين ليسا سوي مجنونين عظمة يبغي كل منهما السيطرة علي العالم, وهو ما يعد تحليلا مبسطا ومخلا للأسباب التي دفعت إلي قيام الحرب العالمية الثانية, لكن لشابلن السبق في إنذار الشعب الأمريكي بخطر طاعون الفاشية والنازية مسيو فيردو 1947 هو فيلم شابلن التالي ل الديكتاتوريقدم فيه شخصية موظف بنك ملتزم يتم فصله من العمل بعد ثلاثين عاما من الخدمة إبان الأزمة الاقتصادية الكبري, ولكنه لديه ابن وزوجة مشلولة, فيقرر التحول إلي نصاب قاتل, حيث ينصب علي السيدات الأرامل ويستولي علي نقودهن ثم يقتلهن بعد ذلك, ليصل عدد جرائمه إلي أكثر من14 قتيلة ليعول زوجته وطفله الصغير ولكن بعد وفاتهما وخسارته كل أمواله في البورصة, يزهد الحياة ويسلم نفسه للشرطة ليحكم عليه بالإعدام شنقا. قبل خروج الفيلم في صالات العرض أعلن شابلن أن المؤرخ جون كلاوس فيتز يري أن الحرب هي امتداد للدبلوماسية, واعتقد أن القتل هو الامتداد الطبيعي للبيزنس. وداخل الفيلم يعلن فيردو قبل إعدامه أن قتل14 امرأة يستوجب شنق الفاعل في حين أن كثيرين من الحكام يدفعون الملايين إلي مجازر الحروب دون أن يحاكمهم احد فيلم مسيو فيردو الذي يوضح مدي عمق تأثر شابلن بكارثة الحرب, اخذ عن قصة للمخرج والممثل اورسون ويلز الذي كان يرغب في أن يلعب شابلن الدور في فيلم من إخراجه, ولكن شابلن اشتري حقوق القصة. ولقد عمل شابلن في السيناريو في الفترة من نوفمبر1942 إلي مايو1946 وكتب الحوار بشكل كوميدي ليلعب الحوار لأول مرة دورا جوهريا في كوميديا شابلن. مسيو فيردو فيلم عن مجرم صنعه مجتمع يحكمه ويقرر مساره أشخاص أكثر إجراما منه ولكنهم لا يحاكمون ولا يعدمون. هذه الروح هي التي سيطرت علي شابلن تجاه مجتمعه والحملات المسعورة التي كانت تشن عليه, فملأت المرارة حلقه وتوقف عن العمل, ليعود في عام1952 مع فيلم( أضواء المسرح) الذي يحكي قصة نجم كوميدي عجوز خفتت عنه الأضواء وتحول إلي شبه متسول بلا عمل إلي أن يموت في النهاية علي خشبة المسرح بعد أن وجد دورا صغيرا. فكان الفيلم مرثية عنه هو نفسه. شارلي شابلن النجم الذي بدأ الشيب يتسلل إلي رأسه ولم يعد نجم الشباك كما كان في الماضي, مثل العديد من ممثلي السينما الأوائل( باستر كيتون) علي سبيل المثال, وهو يلعب دورا صغيرا في الفيلم) أضواء المسرح هو آخر أفلام شابلن في أمريكا, فقد طرد منها وعاد للعيش في انجلترا من جديد, حيث إخرج فيلمين احدهما يسمي( ملك في نيويورك 1956) يحاول فيه انتقاد أمريكا التي لفظته والآخر( كونتيسة من هونج كونج 1967) ينتقد فيه الاتحاد السوفيتي في معاملته القمعية مع مواطنيه, ولكن الفيلمين كانا دون المستوي. شابلن لم يخترع السينما ولكنه واحد من أهم من صنعوا تاريخها وابتكروا فنونها واستعملوها كسلاح للدفاع عن الإنسانية التي طالما أضحكها.