كانت الخيوط تتجمع عبر نصف قرن أو يزيد لتغزل منظومة العزوف العام والانكفاء علي الذات, كان نصيب الأقباط أوفر, لم تكن كلها صناعة محلية بل كانت التحولات الإقليمية والدولية وشاركة بقدر فيها, بفعل المسارعات التقنية التي كانت تنقل الأحداث لحظة وقوعها, كان شارعنا العربي والمصري موصدا أمام تلاقح الثقافات فلم يستفد من ثورة الإتصالات إلا فيما يتعلق بتأكيد الأصولية والسلفية, وإزاء انهيار الحلم العربي كانت الأحلام البديلة تتنمر لتحتل مكانه, كان في مقدمة الصفوف التوحد علي ارضية الدين, كانت الإسلاموفوبيا تؤرق الغرب مدعومة بتهديدات الجماعات الراديكالية والتي توجت بتفجيرات11/9 التي استهدفت برجي التجارة العالمية بنيويورك, لتدخل المنطقة ومعها العالم في متاهة التربص والتقسيم علي الهوية الدينية, عندنا كان الأقباط في مرمي نيران التطرف ترجم هذا في سلسلة الأعمال الإجرامية التي سميت علي سبيل المراوغة' الفتنة الطائفية', وفيها قفز العرف ليحتل مكان القانون, فتاهت المسئولية الجنائية وزاد شعور الأقباط بالعزلة, كانت محطات الكشح والعياط وأرض وأسوار دير ابو فانا, ابرز مؤشرات الحلول العرفية علي حساب دولة القانون. كان من الطبيعي أن ينتج عن هذا انسحاب الأقباط من الحياة العامة والإرتماء في احضان الكنيسة, دعمه الغياب الحزبي شبه الكامل عن تفعيل الحراك السياسي, لقصور في بنية الأحزاب أو لولادتها بشكل فوقي في الغالب أو لافتقارها لأليات التواصل مع الشارع. الأزمة الحقيقية في ظني تتمثل في السؤال الذي لا يبرح أقلام الكتاب والإعلاميين حول سلبية الأقباط لماذا ومن المسئول ومتي يعودون للمشاركة وتلمح من طرف خفي أنهم لا يقبلون بغير إجابة واحدة أنها طبيعتهم وخيارهم وهي اجابة تستريح إليها أطراف عديدة ربما منها نخب قبطية استنامت إلي وكالة الكنيسة لأسباب تحكمها توازنات بعضها معلن. ورتب البعض علي هذا التصور غير الحقيقي حلا هو الضغط باتجاه المحاصصة المتمثلة في تخصيص' كوتة' للأقباط, ورأوه حلا يعالج التقوقع القبطي من جانب ويجبر الناخب علي اختيار اقباط ولم يسأل أحد عن معايير اختيار الكوادر' القبطية' هل بمباركة الكنيسة أم من المناوئين لها, أم أن هذا يأتي وفقا لطبيعة العلاقة بين من يختار وبينها فتصبح بمثابة مكافأة أو عقاب, ولعل السؤال حال نجاحهم فتحت القبة من يمثلون, وما هي القضايا الأولي بالطرح؟ قضايا الأقباط والكنيسة أم قضايا الوطن أم قضايا الأقباط علي خلفية المصلحة العامة؟ وما هي المعايير والضوابط التي تحدد هذه أو تلك؟, بل وما هي الضمانات التي تحول دون تحول الكوتة الي نسق يعمق الشرخ ويؤكد التمييز لنصل الي نائب قبطي للأقباط ونائب مسلم للمسلمين, ولعل هذا يفسر لنا لماذا سارعت بعض القوي الراديكالية علي الجانبين لتأييد هذا الحل والخيار. ولعل هذا يدفعنا للسؤال عن سبب حماس من يقف وراءه, وهم في ظني وطنيون يؤرقهم الغياب القبطي, لعله رصدهم لعزوف غالبية الناخبين عن اختيار مرشح قبطي, بل وعزوف الأحزاب عن الدفع بكوادر قبطية علي قائمة مرشحيها, وأذكر في انتخابات2005 أن أحد أكبر المدافعين عن الوحدة الوطنية والمساواة في أحد الأحزاب التي تفتخر بتبني شعار وحدة المصريين قال في تبرير عدم اختيار اقباط علي قائمة حزبه أنه لا يضمن نجاحهم فيفقدون مقاعد غالية!!. ومن هنا نستطيع ان نرتب اجزاء الصورة المبعثرة, لنكتشف أن غياب الأقباط مرتبط بمناخ عام تشبع بالتطرف عبر عقود ممتدة حتي صارت فيه الأغلبية والأقلية موقعة علي الهوية الدينية, بالمخالفة لقواعد المجتمعات الديمقراطية والتي لم نكن ببعيدين عنها في المرحلة شبه الليبرالية,1929 1952, ومن ثم تكون المعالجة في مراجعة القواعد الحاكمة للعبة الانتخابية بجملتها, وإعادة تشكيل الوجدان والفكر الجمعي علي أسس الدولة المدنية وعلي أرضية المواطنة, عبر مراجعة وضبط آليات الثقافة والإعلام والتعليم, وترجمة مبدأ المواطنة الدستوري في حزمة من القوانين الحاسمة والمنضبطة, وهذا يتطلب بالتوازي اعادة الاعتبار لسيادة القانون التي كادت تبتلع في طوفان العشوائية واللامبالاة التي تنخر في أعمدة المجتمع وأساساته. وقد يتطلب هذا تنقية المناخ من الالتفاف حول القانون بشكل سافر بينما يغمض الكل عيونه عنه, حين يتقدم مرشحو الجماعة' المحظورة' للترشح تحت شعارات محددة مخالفة للقواعد الانتخابية, فيصبحون هم وشعاراتهم خارج الشرعية الدستورية والقانونية, تحت سمع وبصر المتنفذين دون أن يطرف لهم جفن, فيما ينبغي إعمالا للقانون الذي هو محور واساس الدولة المدنية استبعادهم بل وتقديمهم للعدالة وقد زيفو صفتهم في تحد للشرعية واخرجوا لسانهم للنظام والمجتمع, مستغلين وهج العاطفة الدينية ومناخ التطرف الملتبس, ولعلنا نتذكر أن هتلر وحزب النازي جاءوا إلي الحكم علي أجنحة الديمقراطية, ونحن لا نملك ترف تكرار ذلك المشهد ولا نقدر علي دفع فاتورته, ولا محل للدفع بأنها جماعة تستمد شرعيتها من الواقع فلا شرعية خارج الإطار القانوني إلا إذا كانت أحد ترجمات شرعية' وضع اليد' كما يفعل مغتصبو أراضي الدولة, وعلي من يسأل عن عزوف الأقباط أن يعود لأدبيات تلك الجماعة' المحظورة القائمة' وموقفهم الثابت والمبدئي من غير المسلمين, في غير التفات للمناورات المتخابثة والمخاتلة في تصريح هنا أو بيان هناك. سيعود الأقباط مع بناء جدار الثقة بتفعيل الدولة المدنية وإعلاء خيار المواطنة, وهو أمر يحتاج الي توافر ارادة سياسية ودعم القوي المدنية والليبرالية اليوم وغدا, وبغير توقف, وإطلاق يد الأحزاب لتولد من رحم الشارع فتأتي معبرة عن خيارات وهموم الكتل السياسية المدنية الحقيقية الصامتة والمنعزلة, وعندها لن يكون هناك محل للسؤال عن مشاركة الأقباط لكونهم اقباطا, بل ستأتي مشاركتهم لكونهم مواطنين مصريين يمثلون اضافة حقيقية وفاعلة للقوي الوطنية ويدعمون وشركائهم في الوطن السعي لوطن آمن ومزدهر. [email protected]