داخله طفل يعتلي قبقابه الخشبي, ورأسه يحمل كومة من الشعر الفاحم الأسود.. تنطلق شعيراته في كل اتجاه كأحلامه التي كانت تتوقف أحيانا عند طرقة( قادوم) أو سحبه( فارة) بهذا الرسم البسيط جسد الناقد الكبير الراحل كمال الملاخ ملامح نحات مصر الكبير جمال سجيني في كتابها الصادر عنه. هذه البدايات المبكرة وسط شوارع وحارات القاهرة القديمة جعلت جمال سجيني يلتفت لخامات لا يألفها الفن التشكيلي ذو الطابع الأكاديمي فان التفت اليها فانه يعاملها بمعايير تختلف عن تلك التي استلهمها السجيني من الفنانين الذين يبثون الحياة في النحاس في شوارع القاهرة القديمة ليجمع في فنه بين القيم الأكاديمية ومعاييرها الرصينة التي تمرد عليها ليسكن فنه بالتراث الحضاري المصري الجامع بين فنها القديم والفنون الإسلامية التي تجلت في أعمال السجيني النحتية في تمايل النحاس والبرونز ولوحات النحاس المطروق.. كل هذا الزخم الفني يوجد في المعرض المقام حاليا بقاعة الزمالك للفنون لاستعادة ابداع الفنان الكبير الراحل بمجموعة من أشهر لوحاته وتماثيله. في قاعة الزمالك تقف أعمال السجيني شامخة علي منصات العرض لتجسد قيمه ومفاهيمه التي يلخصها السجيني نفسه بقوله: هذه المعاناة التي أعيشها خلقت فنا لا أزعم أنه مرتبط بالجماهير تماما, بل أقول الصدق إنني اجتهدت دائما في أن أعبر عن الجماهير هذا الاجتهاد تمثل في توحد جمال سجيني مع الحس الجماهيري المنتصر للتحولات السياسية الوطنية. فبمجرد قيام ثورة يوليو عام1952 أمسك السجيني بأدواته ليطرق لوحته الأشهر الخطوة والتي ينطبع عليها وجه باشا ضخم مهيب طمست اغلب معالم وجهه تحت طبعة قدم حافية لفلاح. هذه اللوحة التي يتضمنها المعرض المقام بجاليري الزمالك, تمثل إعلانا مبكرا عن عقيدة السجيني السياسية التي تظهر ملامحها في باقي معرضه. فأول تمثال يواجهك في مدخل القاعة هو رجل عربي كتلة متوسطة من النحاس يتشكل فيها رجل جالس في وضع الاستعداد للنهوض, التمثال المؤرخ بعام1962 يشير الي إيمان السجيني وقتها بمشروع النهضة العربية الموحدة, المشروع الذي كان لتحطمه في هزيمة عام1967 أثر كبير علي الفنان انعكس علي أعماله ويظهر هذا لوحة من النحاس المطروق ضمتها جنبات المعرض, واختار لها السجيني شكل الصينية الإسلامية التقليدية التي اشتهر بها صناع خان الخليلي وتحت عنوان المعدة العمياء شكل السجيني بمطرقته عفريتا ذا رأس ذبابة يرتكز بحافرية علي آخر جملة في تلك الصرخة الطويلة التي دونها السجيني علي لوحته بينما يرفع بيده التي التفت حولها حية تخرج لسانها المشقوق خنجرا يمزق قلب الشمس المحتضرة فوق رأس العفريت القاتل, ذي المعدة المتخمة.هذه الصورة المخيفة ترتص حولها كلمات السجيني التي يقول فيها: يا مدمري الحضارة, يامنبت القذارة, يا من ماتت ضمائركم وجلودكم ومالت انيابكم وقويت الحوافر, مات اخصابكم منذ زمن, ولن تنبت بين أناملكم زهرة, ولن تشجيكم نغمة, ولم يهزكم لون.. حواسكم مسدودة, في الدهن مدفون رأسكم.. في المعدة في الخصية في حوض اللحم والدعارة تمضي كلمات السجيني حافلة بالألم والغضب في لوحته في جرعة قاسية تتوسط تماثيل اختار منسقو المعرض أن تبتعد بالمتلقي عن هذا الألم سريعا. إلا أن هذا لم يسهم الا في جعل اللوحة كنغمة نافرة وسط محيط هادئ من الوجوه الهادئة. التي حملت ملامح توفيق الحكيم وأحمد رامي ومصطفي وعلي أمين وعبد الحليم حافظ. وتلا اللوحة تمثال رقيق من البرونز يمثل امرأة تلتف حول نفسها متخذة شكل البيت أو الحضن وقد علتها حماماتها ثم تمثال السلام وغيره. وكأن منسقي المعرض أرادوا أن يخففوا عن المتلقي هذه الجرعة المركزة العنيفة من الغضب والألم الذي انعكس في لوحة أخري اقدم للسجيني تحت عنوان هيروشيما يقف فيها انسان عملاق تساقطت أطرافه وتشوهت واستحال عظاما يكسوها بعض من الجلد. إلا أنه وقف شامخا وسط الحطام والدمار. من الصعب أن يلم هذا التقرير بما في معرض جمال سجيني الذي يقام بعد ثلاثة وثلاثين عاما من رحيله. ويستمر حتي نهاية نوفمبر الجاري. ولكن تبقي الاشارة الي وصيته التي اختار لها أن توضع علي لوحة من النحاس المطروق ايضا تلك الوصية التي طرقها الفنان عام1954 قبل رحيله بما يقرب من عشرين عاما, ووضع فيها قيثارة ومحبرة وشجرة وطائرا مجنحا في وضع مري قديم. تتخذ الوصية كلها شكل نقوش علي ورقة بردي ترتكز مكوناتها علي ختم الفنان الذي وقع به أعماله النحتية حاملا حرفي اسمه الأولين. ويقول السجيني فيها عن نفسه: عاش من أجل مجتمعه عدوا للاستغلال والعبودية نصيرا للحرية والسلام.. جمال الدين سجيني, بن عبد الوهاب سجيني, ولد في يناير.1917