«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة تنشر للمرة الأولي في العربية:الحظر
نشر في أخبار الأدب يوم 26 - 06 - 2010

ساراماجو يقرأ بينما كلبه يستمتع بحكاياته سارت السيارة في طريق صاعد ، لامسة الأسفلت الذي يشبه حيواناً مختبئاً ، ساحقةً القمامة المتناثرة . قفز فجأة عداد الكيلومترات إلي التسعين ، وهي سرعة تؤدي للموت في شارع ضيق تركن علي جانبيه سيارات . ماذا يحدث؟ رفع قدمه من دواسة البنزين ، وشعر بالقلق .
استيقظَ باحساس حاد بأن شيئاً ما قد ذبح حلمه ، ورأي أمامه سطح الزجاج الرمادي والمشبّر ، وشقشقة الفجر الداخل ، بلونه الازرق الرصاصي وبضوئه المتقطع ، هذا الفجر الذي يتزحلق في شكل قطرات مكثفة فوق سطح الزجاج . فكّر أن زوجته قد نسيت أن تسدل الستائر قبل أن تنام ، وغضبَ ، فلو لم يستطع أن ينام من جديد ، سيقضي يوماً عصيباً . لم يكن يتمتع بنشاط لينهض ، ليغطي النافذة ، وفضل أن يغطي وجهه بالملاءة وأن يعود ليعانق زوجته النائمة ، وأن يحتمي بدفئها وبرائحة شعرها المسترسل . داعبه الأرق لعدة دقائق ، فظل منتظرا حتي ينأي عنه ، فالأرق الصباحي أشد ما يخشاه . لكنه سريعاً ما مرت بخاطره صورة الخشب البارد ، وهو السرير ، والحضور المتاهي للجسد الذي يقترب منه ، وهكذا ، غارقا في دائرة الصور الحسية والبطيئة ، سقط في بئر الأحلام من جديد . بدأ سطح الزجاج الرمادي يكتسب زرقة رويداً رويداً ، وينظر بتحديق في الرأسين النائمين علي الوسادة ، كما لو كانا بقايا تم نسيانها عند هجر البيت لبيت آخر ، أو لعالم آخر . وعندما دق المنبه ، بعد مرور ساعتين ، كانت الغرفة مضاءة بجلاء .
قال لزوجته ألا تنهض ، وأن تستغل الصباح لتنام قليلا ، بينما نهض هو وتعرض للهواء البارد ، لرطوبة الحوائط التي لا يمكن تعريفها ، للمس أُكر الأبواب ، لفوط الحمام . دخن سيجارته الأولي وهو يحلق ذقنه ، والثانية مع القهوة ، التي كانت قد بردت أثناء ذلك . عطس مثل كل الصباحات . بعدها ارتدي ملابسه في الظلام ، بدون أن يضيء نور الغرفة . لم يكن يرغب أن يوقظ زوجته . أنعشت رائحة الكولونيا المكان ، وهو ما جعل الزوجة تتنهد بلذة عندما مال علي السرير ليقبل عينيها المغمضتين . وهمس لها أنه ربما لن يعود للبيت ليتناول معها الغداء . أغلق الباب وهبط سريعا درجات السلم . كانت البناية تبدو أكثر هدوءً من عادتها . ربما بسبب الضباب ، فكّر . انتبه إلي أن الضباب كان مثل جرس يخنق الأصوات ويغيرها ، يحللها ويخلق منها ما يخلقه من الصور . الضباب يسود . في الجزء الأخير من السلم سيتمكن من رؤية الشارع وسيعرف إن كان قد أصاب في رأيه . في النهاية رأي ضوءً أشهبا ، لكنه حاد ولامع ، يشبه الكوارتز . وشاهد علي حافة الرصيف فأراً ميتاً . وبينما كان يشعل السيجارة الثالثة ، واقفاً أمام باب البيت ، عبر غلام ملثّم ، يرتدي قبعة ، بصق علي الحيوان الميت ، كما علّموه وكما رآهم يفعلون .
كانت السيارة علي بعد خمسة بيوت من بيته . وكان محظوظاً أن استطاع أن يركنها هناك. فلقد اكتسب مع الوقت هاجساً خرافياً يوحي له أنه كلما ركن السيارة بعيدا كلما كان احتمال سرقتها بالليل أكبر . وبدون أن يتفوه بذلك لأحد ، كان مقتنعاً تماماً أنه لن يراها مرة أخري لو ركنها في طرف من أطراف المدينة . ها هي قريبة منه ، لذا يشعر بالطمأنينة . كان يبدو أنها مغلفة بقطرات الندي ، والزجاج تخفيه الرطوبة . لو لم يكن الطقس بارداً ، لقلنا إنها ترشح مثل جسد حي . نظر للإطارات كالعادة ، وتحقق سريعا من أن المسّاحات ليست مهشمة ، وفتح الباب . كانت السيارة ثلاجة من الداخل ، ومع الزجاج المكسي بالبخار ، كانت مثل مغارة شبه شفافة غارقة تحت فيضان ماء . فكّر أنه كان من الأفضل أن يركنها في مكان آخر بحيث تنزلق بسهولة بمجرد تشغيلها . أدارها ، وفي الحال زأرت بقوة ، وانتفضت بعمق وضجر . ابتسم ، شاعراً بالرضا . بداية يوم جميل .
سارت السيارة في طريق صاعد ، لامسة الأسفلت الذي يشبه حيواناً مختبئاً ، ساحقةً القمامة المتناثرة . قفز فجأة عداد الكيلومترات إلي التسعين ، وهي سرعة تؤدي للموت في شارع ضيق تركن علي جانبيه سيارات . ماذا يحدث؟ رفع قدمه من دواسة البنزين ، وشعر بالقلق . أوشك أن يعتقد أنهم بدّلوا له الموتور بآخر أشد قوة . ضغط علي دواسة البنزين بكل حيطة وسيطر علي السيارة . لم يحدث أمر ذو شأن يذكر . أحياناً لا يتحكم جيداً في ضغطة قدمه . يكفي ألا يستقر كعب حذائه في المكان المعتاد ليحدث خللاً في الحركة والضغط . الأمر في غاية البساطة .
شارداً مع الحدث السابق ، لم ينتبه لعداد البنزين . أيكونوا قد سرقوه أثناء الليل ، وهي ليست المرة الأولي ؟ لا . كان المؤشر يشير تحديداً أن التنك ممتليء لمنتصفه . توقف في إشارة حمراء ، وشعر أن السيارة ترتجف بين يديه بشكل متوتر . إنه أمر مثير للفضول . لم ينتبه أثناء هذه الاهتزازات المموجة لما يحدث في بدن السيارة وما يجعل بطنه ترتجف بشدة . عندما صارت الإشارة خضراء ، سار بشكل ثعباني ، متقدماً السيارات التي أمامه . شيئ غريب . الحق إنه كان يعتبر نفسه سائقاً أفضل من الآخرين . إنها مسألة تدريب جيد هذه الخفة في الحركة في الوقت الحاضر ، وربما تحتاج تدريبا استثنائيا . التنك لمنتصفه . لو أعثر علي محطة بنزين تعمل ، سأقتنص الفرصة . ولأكون في الأمان ، مع كم المشاوير التي يجب أن أقضيها قبل ذهابي للعمل ، يجب ان أسير بتنك ممتلئ أفضل . إنه الحظر الأحمق . ذعر، ساعات إنتظار ، صفوف طويلة بها دستات ودستات من السيارات . يقولون إن الصناعة ستلقي عواقب وخيمة . التنك لمنتصفه . هناك آخرون يسيرون في هذا الوقت بأقل من نصف التنك بكثير ، لكن لو كان بإمكانهم ملئه ... مالت السيارة بتوازن ، وبنفس الحركة ترامت علي طريق صاعد مرتفع بلا جهد . وبالقرب منه وجد محطة بنزين قليلة الشهرة ، ربما يكون محظوظاً . وكما الكلب يتجه حيث تدله أنفه ، تسرّب بين العربات الأخري ، اختصر ناصيتين ، ومضي يشغل مكانا في صف الإنتظار . كم هي فكرة نيّرة .
نظر في ساعته . ربما تقف أمامه عشرون سيارة . بدون أية مبالغة . فّكر أنه من الأفضل أن يملأ التنك ويذهب للمكتب أولا ثم يقضي مشاويره لاحقا ، حتي يكون مرتاح البال. أنزل زجاج النافذة ونادي علي بائع جرائد كان يعبر . كان الطقس قد اشتد برودة . لكن بالداخل ، في السيارة ، بالجريدة مفتوحة علي المقود ، مدخناً سيجارة بينما ينتظر ، كان يشعر بدفء مريح ، كدفء الملاءة . طقطق ظهره ، كما القط الشهواني يتلوي ، عندما تذكّر أن زوجته مازالت تتلوي في سريرها حتي تلك الساعة ، ففرد جسده علي الكرسي بشكل أفضل . لم تحتو الجريدة علي خبر سعيد . مازال الحظر مستمرا . كريسماس غامق وبارد ، كان هذا احدي المانشيتات . لكن تنكه لا يزال حتي منتصفه . تقدمت السيارة الأمامية قليلاً . خير .
بعد ساعة ونصف كان يملأ التنك ، وبعد ثلاث دقائق انطلق بسيارته . كان مشغول البال حيث أخبره عامل محطة البنزين بدون أي نبرة مميزة في الصوت ، لأنها معلومة مكررة ، أن البنزين سيشح عندهم لمدة أسبوعين . وفي الكرسي الذي بجانبه ، كانت الجريدة تعلن عن قيود صارمة . في النهاية ، علي أسوأ الافتراضات ، تنكي ممتليء . ماذا أفعل ؟ أأذهب مباشرة إلي المكتب أم أمر أولاً علي بيت أحد العملاء لأري إن كانوا قد سلّموه الطلبية ؟ اختار المرور علي العميل . فمن الأفضل أن يبرر تأخيره بزيارة عميل من أن يقول إنه قد قضي ساعة ونصف في صف بمحطة بنزين لأن تنكه كان لمنتصفه . كانت السيارة رائعة . فلم يشعر ابداّ بهذه الراحة وهو يقودها من قبل . أشعل الراديو وسمع نشرة الاخبار المنطوقة. تسير الأخبار من سيئ لأسوأ . هؤلاء العرب . هذا الحظر الأحمق .
تمايلت السيارة فجأة واتجهت للشارع الأيمن حتي توقفت في صف سيارات أقصر من الصف الأول . ما هذا ؟ أليس التنك ممتلئاً لآخره ، حقاً ، هو ممتليء بشكل فعلي . إذن لماذا هذه الفكرة الشيطانية . حرّك الفتيس ليرجع للخلف ، لكن بدن السيارة لم يطعه . حاول أن يجبره ، لكن التروس كانت تبدو مجمدة . ياللهراء . الآن يصيبها العطل . تقدمت السيارة الأمامية . مرتاباً ، تقدم أيضاُ ، مفترضاً ما هو أسوأ . كل شيئ علي ما يرام . تنفس الصعداء. كيف سيرجع للخلف لو احتاج الرجوع ؟
بعد نصف ساعة تقريباً ، وضع نصف لتر بنزين في التنك ، شاعراً أنه بهلوان تحت نظرة عامل البنزينة المزدرية . دفع له إكرامية كبيرة بشكل غير معقول وانطلق محدثاً ضجيجاً هائلاً بإطارات السيارة وسرعتها . يالها من فكرة شيطانية . الآن إلي العميل ، وإلا سأكون قد أضعت الصباح هباءً. كانت السيارة في احسن حالاتها . وكانت تستجيب لأوامره كما لو كانت امتداداً ميكانيكياً لجسده . لكن مسألة الرجوع للخلف كانت تؤرقه . وسريعا ما وجد نفسه في موقف يستدعي التفكير بجد ، حيث أصيبت حافلة هائلة تقف أمامه بعطل وهي تقف في منتصف الطريق . لم يستطع ان يمر بجوارها ، فلم يسنح له الوقت ، لأنه كان ملتصقا بها . يحرك الفتيس مرة أخري والخوف يسكنه ، والرجوع للخلف يحدث ضجيج شفط طفيف . لا يتذكر ان بدن السيارة أحدث رد الفعل هذا من قبل . أدار المقود ناحية اليسار ، وضغط علي دواسة البنزين وبحركة محتاطة صعدت السيارة فوق الرصيف ، المجاور للحافلة ، وخرج من الجانب الآخر ، طليقاً ، بخفة حيوان . كان شيطان السيارة كما القط بسبعة ارواح . و ربما بسبب التشويش الناتج عن الحظر ، بسبب كل هذا الذعر ، فرضت الخدمات الفوضوية وضع بنزين بجودة عالية في محطات البنزين ! ياله من أمر مضحك .
نظر في ساعته . هل من المفيد الآن أن أزور العميل ؟ سأكون محظوظا لو وجدت المتجر مفتوحاً . لو يساعدني الطريق ، نعم ، لو يساعدني الطريق ، سأجد أمامي وقتاً . لكن الطريق لم يساعده . ففي أيام الكريسماس ، وخاصة مع نقص البنزين ، تخرج الناس جمعاء للشارع ، لتوقف حال من يذهب لعمله . عندما رأي السيولة المرورية تراجع عن فكرة زيارة العميل . قد يكون من الأفضل ان اقدم لهم عذرا في المكتب وأؤجل العميل لآخر النهار . وبكثير من الشك ابتعد عن وسط المدينة . حرقت بنزيناً بلا فائدة . علي اي الحال التنك ممتليء . في ميدان ما ، في آخر الشارع الذي كان يهبط منه ، رأي صفا آخر من السيارات في انتظار دورها . لكن السيارة ، علي بعد عشرين مترا ، اتجهت صوب اليسار ، من تلقاء نفسها ، وتوقفت ، برقة ، كما لو كات تتنهد ، في آخر الصف . ما هذا الحدث الجنوني ، فأنا لم أقرر اضافة بنزين أكثر ؟ أي شيطان هذا ، إذا كان التنك ممتلئاً ؟ ظل ينظر للعدادات المختلفة ، وهو يحرك المقود ، مفكرا أن من الصعب عليه ان يتعرف علي سيارته ، وخلال هذه السلسلة من الإيماءات حّرك المرآة ، ونظر لنفسه فيها . رأي في وجهه الحيرة واعتبر نفسه محقاً . ناظراً مرة أخري في المرأة ، ميّز سيارة تهبط من الشارع ، يبدو عليها أنها تنوي الدخول في الصف . ومشغولا بفكرة البقاء في مكانه بلا حركة ، بينما التنك ممتلئاً ، حرّك الفتيس بسرعة ليرجع للخلف . قاومت السيارة وهرب الفتيس من يده . بعد لحظات وجد نفسه محاصراً بين جارين . إنهم شياطين . ماذا حدث للسيارة ؟ كان في حاجة للذهاب لورشة ميكانيكي . ترجع السيارة الآن للخلف بدون أي خطورة .
استغرق عشرين دقيقة حتي تقدمت السيارة لمحطة البنزين . رأي عامل البنزينة يقترب فاختنق صوته وهو يطلب منه أن يملأ التنك . وفي هذه اللحظة جاءه وسواس ليهرب من الخجل ، فحرك السرعة الاولي لينطلق . لكن فعله ذهب سدي . فالسيارة لم تتحرك من مكانها. نظر له عامل البنزينة بريب ، فتح التنك ، وبعد عدة ثواني ، طلب منه ثمن لتر ، أدخله في جيبه متأففاً . الحدث التالي ، لم يجد في السرعة الأولي أية صعوبات ، وتقدمت السيارة ، بمرونة ، متنفسة ببطء . جزء ما في هذه السيارة قد أصابه العطل ، إما قطعة غيار، أو الموتور ، أو أي جزء آخر ، الشيطان يعلم أي جزء ! . أو انه قد فقد مهارته كسائق ؟ ، أو أنه مريض ؟ ، ورغم أنه قد نام جيدا ، ولم يكن يشغله شيئ أكثر من اي يوم آخر في حياته . أفضل شيئ أن يقصي عن ذهنه التفكير في العملاء ، ألا يفكر فيهم طول اليوم وأن يبقي في المكتب . كان يشعر بالضجر . وحوله كانت أجزاء السيارة تهتز بعمق ، ليست الأجزاء الخارجية ، بل داخل الحديد نفسه ، والموتور كان يعمل بهذا الضجيج الذي لا يُسمع لرئتين تمتلئان وتفرغان ، تمتلئان وتفرغان . في البداية ، بدون أن يعرف سببا ، فكر ذهنيا في طريق يبعده عن محطات البنزين الأخري ، وعندما انتبه لما يفكر فيه أصابه الخوف، خاف أن يكون الجنون قد أصابه. دخل في شوارع جانبيه ، مختصرا كل الطرق الممكنة ، حتي وجد نفسه امام المكتب . استطاع أن يركن سيارته وتنفس الصعداء . أوقف الموتور ، سحب المفتاح ، فتح الباب . كان عاجزا حتي عن النهوض .
اعتقد أن طرف معطفه قد اشتبك في شيئ ، أن ساقه محشورة في محور المقود ، وقام بحركة أخري . وفي النهاية بحث عن حزام الأمان فلربما وضعه دون أن ينتبه . لا . حزام الأمان في موضعه معلقاً من طرف واحد ، مثل المعي الأسود الرقيق . ياللفظاعة ، فكّر . لابد أنني مريض . فكوني لا أستطع النهوض معناه أنني مريض . كان يستطيع أن يحرك ذراعيه وساقيه بحرية ، أن يثني جذعه بخفة تتناسب مع المناورات ، أن ينظر للخلف ، أن يميل قليلا صوب اليمين ، ناحية صندوقة القفاز ، لكن ظهره كان ملصوقاً بظهر المقعد . ليس بشكل صارم ، بل كما العضو الملتصق بالجسد . أشعل سيجارة ، و ، فجأة ، ضبط نفسه يفكر فيما سيقوله رئيسه لو اطل من النافذة ووجده هنا جالسا ، داخل السيارة ، يدخن سيجارة ، بدون أن يتعجل الخروج . أغلق الباب ، الذي فتحه علي الشارع ، عقب سماعه زمارة تنبيه عنيفة . وعندما عبرت السيارة الأخري ، ترك الباب يُفتح مرة أخري ، ورمي السيجارة في الخارج ، و ، ممسكا باحدي يديه بالمقود ، قام بحركة شديدة ، عنيفة . بلا فائدة . ولم يشعر حتي بالألم . أمسك به ظهر الكرسي برقة ، وظل محبوساً فيه . ما هذا الذي كان يحدث له ؟. حرّك المرآة لأسفل ونظر لنفسه . لم يجد أي تغيير في وجهه . ليس إلا آثار حزن غير محدد ولم يسيطر علي الوجه بعد .عائداً بوجهه ناحية اليمين ، صوب الرصيف ، رأي طفلة تنظر له ، بفضول وتسلية في آن . بعد قليل ظهرت امرأة بيدها معطف للشتاء ، أخذته الطفلة وارتدته ، دون أن تكف عن النظر إليه . ابتعدت كلتاهما ، بينما المرأة تهندم ياقة الطفلة وتلم شعرها .
نظر في المرآة مجدداً ، متوقعاً ما يجب أن يحدث . لكن ليس هناك . كان هناك أشخاص ينظرون له ، أناس يعرفهم . ناور حتي يبتعد عن الرصيف ، بسرعة ، فارداً يده للباب ليغلقه، وهبط الشارع بأقصي ما في وسعه من سرعة . كان لديه نية ، هدف محدد يبعث فيه الطمأنينة ، ويجعله يتجول بابتسامة علي وجهه تخفف قليلاً من حزنه .
نظر فقط في محطة البنزين عندما عبر من أمامها تقريباً . كانت هناك لافتة معلقة تقول " لقد نفد " ، وواصل سيره بالسيارة ، بدون أي تغيير في قبلته ، أو تقليل في سرعته . لم يكن يرغب أن يفكر في السيارة . ابتسم مرة أخري . كان يخرج من المدينة ، في طريقه للضواحي ، وقد اقترب المكان الذي يبغيه . دخل في شارع تحت البناء ، دار يساراً فيميناً ، حتي وصل لطريق خالٍ ، يقع بين حواجز . أمطرت السماء عندما أوقف السيارة .
كانت فكرته غاية في البساطة . كانت تكمن في أن يخرج من معطفه ، ساحبا ذراعيه وبدنه ، ومتسرباً منه ، كما تفعل الحية عندما تغير جلدها . لم يتجرأ أن يفعل ذلك امام الناس، لكن هنا ، بمفرده ، بهذه الصحراء التي تحيطه ، بعيدا عن المدينة التي تختبيء وراء المطر ، كل شيئ غاية في البساطة . لقد أخطأ مع ذلك . لأن معطف المطر كان يلتصق بظهر الكرسي ، وبنفس الطريقة بالجاكت ، بالجاكت المنقط ، بالقميص ، بالفانلة الداخلية ، بالجلد ، بالعضلات ، بالعظم . كان هذا هو ما خطر بباله بدون ان يفكر فيه عندما صرخ بعد عشر دقائق ثانياً جسده داخل السيارة ، باكياً ، يائساً . كان سجيناً في السيارة . ومهما حرك بدنه للخارج ، ناحية فتحة الباب التي تدخل منها قطرات المطر يدفعها الهواء البارد والمفاجيء ، ومهما رسّخ قدميه في نتوء بدن السيارة ، لن يستطيع أن ينتزع نفسه من المقعد . أمسك السقف بكلتا يديه محاولاً النهوض . كان كما لو أنه يريد أن ينهض الدنيا . القي نفسه علي المقود ، مرتجفاً ، مرعوباً . وأمام عينيه كانت المسّاحات ، التي بدأت تتحرك دون إرادة منه في وسط الإضطراب ، تهتز بضجيج جاف ، وبسرعة . جاءته من بعيد صفارة من مصنع . وبعدها ، في منحني الطريق ، ظهر له رجل يقود دراجة ، مغلّف بقطعة بلاستك كبيرة وسوداء ، وبالتالي كان المطر ينزلق كما ينزلق فوق جلد عجل البحر . نظر الرجل الذي كان يقود الدراجة داخل السيارة بفضول وواصل سيره ، ربما أصابته خيبة الأمل وشعر أنه وقع في الفخ عندما رأي رجلاً بمفرده ، بلا امرأة تجاوره ، كما تخيل .
ما كان يحدث كان عبثا . فلم يحدث لأحد من قبل أن يبقي سجيناً في سيارته ، وبسبب سيارته ، بهذه الطريقة . كان لابد من العثور علي حل لهذه المعضلة ليخرج . فالقوة قد عجزت . ولو ذهب لورشة ؟ لا . فكيف سيشرح حالته ؟ . أيهاتف الشرطة ؟ . وبعدها ؟ . قد تتجمع الناس ، وتنظر جمعاء ، بينما تحاول السلطة أن تجذبه من ذراعه وقد تطلب مساعدة من الحاضرين ، بلا فائدة تذكر ، لآن ظهر الكرسي يمسك فيه بعذوبة . وقد يأتي الصحفيون والمصورون ، وتنشر صورته وهو داخل سيارته في الجرائد في اليوم التالي ، ويشعر بالخجل كحيوان قصوا شعره بلا اتقان يقف تحت المطر . كان عليه أن يبحث عن طريقة أخري . أوقف الموتور ، وبدون أن يقاطع الإيماءة ، تحرك بقوة للخارج ، كمن يهاجم فجأة . بلا نتيجة . جرحت جبهته ويده اليسري ، وسبب له الألم دوخة أطالت ، بينما رغبة عارمة ومفاجأة في التبول قد هاجمته ، فلم يكن بوسعه سوي أن يطلق هذا السائل الساخن لينصب وينزلق بين ساقيه ليستقر علي أرض السيارة . عندما شعر بكل هذا ، بكي بكاءً خافتاً ، له عواء ، بشكل بائس ، وظل هكذا حتي جاء ، من المطر ، كلب هزيل ، وبدأ يعوي ، بلا اقتناع ، علي باب السيارة .
انسحب ببطء ، بحركات ثقيلة تشبه حركات من يحلم أنه داخل مغارة ، وتقدم في طريقه ، باذلاً ما في وسعه من جهد لئلا يفكر ، لئلا يترك هذا الموقف ينطبع في إدراكه . وبطريقة عفوية كان يعلم أنه في حاجة إلي مساعدة أحد . لكن ، من يكون هذا الأحد ؟ إنه لا يود أن يثير الخوف في نفس زوجته ، لكن ليس أمامه حل آخر . فربما تتمكن هي من إكتشاف حل . وعلي الاقل سيشعر أن هناك من يصطحبه في محنته .
عاود الدخول للمدينة ، منتبهاً لإشارات المرور ، دون أن تصدر منه أية حركة فظة في كرسيه ، كما لو أنه يرغب أن يهديء القوي التي تستحوذ عليه . كانت الساعة قد تخطت الثانية ، وبدأ اليوم في الإظلام . شاهد ثلاث محطات بنزين ، لكن السيارة لم تتأثر بالأمر . كلها كانت ترفع لافتة " لقد نفد " . وكلما دخل المدينة ، كان يلاحظ وجود سيارات مهجورة في أوضاع غير طبيعية ، بمثلثات حمراء في الفتحة الخلفية ، وهي إشارة تعني في احوال اخري وجود عطل ، لكن ما كانت تعنيه الآن هو نقص البنزين . وشاهد مرتين مجموعة رجال تدفع سيارات فوق الأرصفة ، بغضب جم ، تحت الامطار التي لم تتوقف بعد .
بمجرد أن وصل للشارع الذي يقطنه ، تحتم عليه أن يتخيل كيف سينادي لزوجته . أوقف السيارة أمام المدخل ، تائهاً ، يقف علي حافة أزمة عصبية . تمني أن تحدث المعجزة التي فيها تستمع زوجته لنداء نجدته الأخرس . وانتظر دقائق طويلة ، حتي اقترب منه طفل فضولي من ابناء جيرانه ، فطلب منه ، بعد أن أغراه بعملة معدنية ، أن يصعد للطابق الثالث ويخبر السيدة التي تقيم هناك أن زوجها ينتظرها في السيارة ، " واذهب سريعا ، فالأمر طاريء " . صعد الطفل وهبط ، قال إن السيدة قادمة ، وابتعد مهرولا ، فقد بدأ يومه .
نزلت المرأة كما تسير عادة في البيت ، بدون حتي أن تتذكر أن تجلب معها شمسية ، والآن كانت امام عتبة البيت ، حائرة ، تزوغ عيناها بلا قصد صوب الفأر الميت علي حافة الرصيف ، فأر رقيق ، بشعر مقنفد ، وتتردد في عبور المدخل تحت المطر ، وساخطة بعض الشيئ علي زوجها الذي جعلها تهبط بلا سبب ، بينما كان بإستطاعته أن يصعد بلا أدني مشكلة ليخبرها بما يريد . لكن زوجها كان يقوم بإيماءات من داخل السيارة ، فأصابها الذعر وركضت نحوه . وضعت يديها في جيبي المعطف ، وأسرعت الخطي لتهرب من المطر ، وعندما فتحت الباب أخيراً رأت أمام وجهها يد زوجها مفتوحة ، تدفعها دون أن تلمسها . أصرت وأرادت أن تدخل ، لكنه صرخ في وجهها : لا ، فهناك خطر ، وحكي لها ما جري ، بينما كانت مائلة تتلقي قطرات المطر في ظهرها ، ويشعث شعرها ، ويغلف الرعب كل ملامح وجهها . ورأت زوجها ، في هذا الصندوق الدافيء والمشبر الذي يعزله عن الدنيا ، متقهقرا كلية في كرسيه ، محاولا الخروج من السيارة دون أن يستطيع . تجرأت وأمسكته من ذراعه ، وجذبته ، غير مصدقة ، ولم تتمكن أيضا أن تزحزحه من مكانه . ولأن هذا الموقف فظيع بما فيه الكفاية ومن الصعب تصديقه ، ظل كل منهما يتبادل النظر مع الآخر في صمت، حتي خطر ببالها أن زوجها قد أصابه الجنون وأنه يتصنع عجزه عن النهوض . كان عليها أن تنادي شخصاً لتختبره ، وليصطحبه للمكان الذي يعالجون فيه من الجنون . وبكل حيطة ، وبكلمات كثيرة ، قالت لزوجها أن ينتظر قليلا ، فلن تتأخر ، وإنها ستذهب لتبحث عن شخص يساعده في الخروج ، وهكذا سنتناول غداءنا معا ، وقد أهاتف المكتب لأخبرهم أنك مصاب ببرد شديد . ولن أذهب للعمل في فترة الظهيرة . اهدأ ، فالأمر لا يستحق ، سأعود في غمضة عين .
لكن ، عندما اختفت هي في السلم ، عاد ليتخيل نفسه محاطاً بالناس ، وصوره في الجرائد، وتملكه الخجل لأنه تبول بين ساقيه لأسفل ، وانتظر عدة دقائق . وبينما كانت زوجته في الطابق العلوي تجري اتصالات تليفونية في جميع الانحاء ، بالشرطة ، وبالمستشفي ، وتكافح من أجل ان يصدقوها هي لا صوتها ، مقدمة اسمها و اسم زوجها ، ولون السيارة وماركتها ورقم لوحتها ، لم يستطع هو الاحتمال والخيالات ، فأدار الموتور . عاودت المرأة الهبوط بعد أن اختفت السيارة وانزلق الفأر من حافة الرصيف ، أخيراً ، ودار مع الشارع المائل ، يسحبه ماء المصرف الذي كان يجري . صرخت المرأة ، لكن الناس تأخرت في الظهور وكان من العسير جدا شرح الأمر .
ظل الرجل يتجول في المدينة حتي فرد الليل جناحيه ، عابراً أمام محطات بنزين لا وجود لها ، وواقفا في صفوف إنتظار بدون أن يكون قد قرر ذلك ، ويداهمه القلق لأن نقوده كانت تنفد ولم يكن يعرف ما قد يحدث عندما تنفد وتتوقف السيارة بجانب محطة بنزين ليملأ التنك .لم يحدث هذا ، ببساطة لأن كل البنزينات بدأت في الاغلاق وصفوف الإنتظار التي كان يراها كانت تحجز لليوم التالي ، وكان أفضل شيئ حينئذ أن يهرب حتي لا يعثر علي محطة بنزين مفتوحة ، حتي لا يتحتم عليه الوقوف . وفي شارع طويل وعريض ، خالٍ من سيارات أخري ، أسرعت سيارة شرطة وتقدمته ، وبينما كانت تتقدمه أشار له شرطي أن يتوقف . لكنه شعر بالخوف من جديد ولم يتوقف . سمع خلفه سارينة الشرطة ورأي ايضا ، لا يعرف من اين جاء ، سائق موتوسيكل يرتدي الزي الرسمي ، وقد أوشك أن يلحق به . لكن السيارة، سيارته ، زأرت ، وانطلقت بشكل مدهش ، وتقدمت للأمام ، صوب مدخل طريق سريع . كانت الشرطة تطارده من بعيد ، ومع مرور الوقت تزداد المسافة بينهم، وعندما ازدادت الظلمة لم يبق لهم أثر ، وكانت سيارته تجول في طريق آخر .
كان يشعر بالجوع . وتبول بين ساقيه من جديد وشعر بالخزي مرة أخري . وكان يهذي : أنا مذلول ، أنا مذلول . كان يقطع الكلمة إلي مقاطع ، دون مراعاة للحروف الساكنة والمتحركة ، إنه تدريب غير واع ومتسلط يدافع عنه ضد الواقع . لم يوقف السيارة لأنه لم يكن يعرف سبباً ليوقفها . لكنه ، عند الفجر ، ركن مرتين بجانب الرصيف وحاول أن يخرج علي مهله ، كما لو انه في هذه الأثناء قد وقع اتفاق سلام مع السيارة و الآن قد حانت لحظة اختبار مدي حسن نية كل منهما . مرتان تحدث فيهما بصوت خفيض عندما أمسك به الكرسي ، مرتان حاول إقناع السيارة أن تتركه يخرج بالحسني ، مرتان في البادية المظلمة والمثلجة حيث لا تتوقف الأمطار ، انفجر في الصراخ ، في البكاء ، في العواء ، في اليأس الأعمي . عادت جروح الرأس واليد إلي النزيف . وظل يقود السيارة منهنهاً ، مخنوقاً ، مرتجفاً كما الحيوان المرعوب . لم يكن يقود السيارة ، بل تركها هي تقوده .
سافر طوال الليل ، دون أن يعرف إلي أين . عبر قري لم ير اسمها ، وسار في طرق طويلة، وصعد جبالاً وهبط منها ، ودخل في منعطفات ومنحنيات ، وعند شقشقة الفجر كان في اي مكان ، في طريق خرب ، صنعت فيه قطرات الماء بركاً وفاضت من حوافها . كان الموتور يزأر ، والإطارات تنطلق في الوحل ، وكل أجزاء السيارة تهتز ، بضجيج مقلق . أشرق الصبح بكامل بهائه ، بدون ان تظهر الشمس ، لكن المطر توقف . تحول الطريق لطريق بسيط يمكن السير فيه ، وفي كل لحظة يبدو أنه يتوه بين الأحجار . أين كان العالم ؟ . لم ير أمام عينيه سوي سلسلة جبلية وسماءً قريبة بشكل مذهل . أطلق صرخة وضرب بقبضة يده المغلقة علي المقود . في هذه اللحظة بالتحديد لاحظ أن مؤشر عداد البنزين يقف فوق الصفر. بدا أن الموتور تحرك من تلقاء نفسه وسحب السيارة عشرين مترا . ظهر الطريق من جديد ، لكن البنزين قد نفد .
تبللت جبهته بالعرق البارد . وتملك الغثيان منه ، ونفضه من شعر رأسه لأخمص قدميه . غطي حجاب عينيه ثلاث مرات . ومتلمساً علي غير يقين ، فتح الباب لينقذ نفسه من الاختناق الذي أحاط به ، وبهذه الحركة ، لأنه علي وشك الموت أو لأن الموتور قد مات ، تدلي الجسد من الجانب الأيسر وانزلق من السيارة. انزلق مرة أخري قليلا وسقط بين الأحجار . وبدأت السماء تمطر من جديد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.