«عمليات التعليم» تتابع وصول صناديق أسئلة امتحانات الثانوية العامة 2025 للجان الامتحانية    ليلة دامية.. إسرائيل تتلقى ضربات إيرانية موجعة تكبدها خسائر غير مسبوقة    عيار 21 الآن.. أسعار الذهب اليوم الأحد 15 يونيو 2025    طقس اليوم الأحد 15 يونيو.. بدء انخفاض طفيف في درجات الحرارة    كثافات مرورية بشوارع ومحاور القاهرة والجيزة اليوم الأحد    «كنت رقم 1».. وسام أبوعلي يكشف مفاجأة عن أزمة ركلة جزاء الأهلي    إشادة قوية من المطربة أنغام على أداء محمد الشناوي أمام إنتر ميامي الأمريكي    الأردن يُطلق صفارات الإنذار وسط تصاعد التوترات الإقليمية    30 دقيقة تأخر في حركة القطارات على خط «القاهرة - الإسكندرية».. الأحد 15 يونيو    برواتب تصل ل12 ألف جنيه.. العمل تعلن وظائف جديدة بشركة أدوية بالإسماعيلية    250 مصابا و8 قتلى بصواريخ إيران.. سلطات إسرائيل تقيم مركزا للتعرف على الجثث    اليوم.. مجلس النواب يناقش مشروع قانون الموازنة العامة للدولة للعام المالي الجديد    دعاء امتحانات الثانوية العامة.. أشهر الأدعية المستحبة للطلاب قبل دخول اللجان    أسعار الخضروات والأسماك والدواجن اليوم الأحد 15 يونيو    "زيزو الأعلى".. تعرف على تقييمات لاعبي الأهلي خلال الشوط الأول أمام إنتر ميامي    نقابة الموسيقيين تحذر مطربي المهرجانات والشعبي بسبب الراقصات    «المركزى» يُقر خطة تحويل «إنكلود» لأكبر صندوق إقليمي في التكنولوجيا المالية    محافظ قنا يشارك في الاحتفالية الرسمية لاستقبال الأنبا إغناطيوس بالمطرانية    حارس إنتر ميامي الأفضل في افتتاح مونديال الأندية أمام الأهلي    إعلام إسرائيلي: مصرع 5 وأكثر من 100 مصاب جراء القصف الإيراني على تل أبيب    «زي النهارده».. وفاة وزير الداخلية الأسبق النبوي إسماعيل 15 يونيو 2009    تجاوز 63%.. مؤشر تشغيل القروض للودائع يواصل التحليق لمستويات غير مسبوقة    مقتل ثلاثة على الأقل في هجمات إيرانية على إسرائيل    السينما والأدب.. أبطال بين الرواية والشاشة لجذب الجمهور    ذكريات مؤثرة لهاني عادل: كنت بابكي وإحنا بنسيب البيت    مجدي الجلاد: الدولة المصرية واجهت كل الاختبارات والتحديات الكبيرة بحكمة شديدة    متى تبدأ السنة الهجرية؟ هذا موعد أول أيام شهر محرم 1447 هجريًا    رقم تاريخي ل زيزو مع الأهلي ضد إنتر ميامي في كأس العالم للأندية    سبب دمارًا كبيرًا.. شاهد لحظة سقوط صاروخ إيراني في تل أبيب (فيديو)    اليوم.. الأزهر الشريف يفتح باب التقديم "لمسابقة السنة النبوية"    الموعد المتوقع لإعلان نتيجة الدبلومات الفنية 2025؟.. رابط الاستعلام برقم الجلوس    "رفقة سواريز".. أول ظهور لميسي قبل مباراة الأهلي وإنتر ميامي (صورة)    أعراض السكتة القلبية، علامات صامتة لا يجب تجاهلها    "العسل المصري".. يارا السكري تبهر متابعيها في أحدث ظهور    الجلاد: الحكومة الحالية تفتقر للرؤية السياسية.. والتعديل الوزاري ضرورة    ضبط كوكتيل مخدرات وأسلحة آلية.. سقوط عصابة «الكيف» في قبضة مباحث دراو بأسوان    سوريا تغلق مجالها الجوي أمام حركة الطيران    بداية العام الهجري الجديد 1447.. عبارات مميزة لرسائل تهنئة وأجمل الأدعية    السفارة الأمريكية في البحرين تدعو موظفيها إلى توخي الحذر عقب الهجوم على إيران    القانون يحظر رفع أو عرض العلم المصرى تالفا أو مستهلكا أو باهت الألوان    شهادة أم وضابطين وتقارير طبية.. قائمة أدلة تُدين المتهم في واقعة مدرسة الوراق (خاص)    إصابة سيدتين وطفل في انقلاب ملاكي على طريق "أسيوط – الخارجة" بالوادي الجديد    كهرباء قنا تفتتح مركزًا جديدًا لخدمة العملاء وشحن العدادات بمنطقة الثانوية بنات    بمشاركة 20 ألف.. مستقبل وطن يُطلق مؤتمر شباب الدلتا بالإسكندرية    نتناولها يوميًا وترفع من نسبة الإصابة بأمراض الكلى.. أخطر طعام على الكلى    دون أدوية أو جراحة.. 5 طرق طبيعية لتفتيت وعلاج حصوات الكلى    ضمن مبادرة "100 مليون صحة".. صحة الفيوم تقدم خدمات المبادرات الرئاسية لأكثر من 18 ألف مواطن خلال عيد الأضحى    بدأت في القاهرة عام 2020| «سيرة» وانكتبت.. عن شوارع مدن مصر القديمة    جامعة بدر تفتح باب التقديم المبكر بكافة الكليات لطلاب الثانوية العامة والأزهري والشهادات المعادلة    أسرار صراع المحتوى «العربي - العبري» في الفضاء الاصطناعي    النيابة تدشن المرحلة الأولى من منصتها الإلكترونية "نبت" للتوعية الرقمية    هاني رمزي: خبرات لاعبي الأهلي كلمة السر أمام إنتر ميامي    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاحد 15-6-2025 في محافظة قنا    كأس العالم للأندية| «ريبيرو» يعقد محاضرة فنية للاعبي الأهلي استعدادًا لمواجهة إنتر ميامي    إصابة 10 أشخاص إثر حادث تصادم 3 سيارات في دمنهور (صور)    فرصة للراحة والانفصال.. حظ برج الدلو اليوم 15 يونيو    رئيس هيئة الرقابة النووية والإشعاعية السابق: لا تأثيرات لاستهداف المنشآت النووية الإيرانية على مصر    سر دموع عبد الفتاح الجرينى على الهواء فى "صندوق الذكريات" ب"آخر الأسبوع"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة تنشر للمرة الأولي في العربية:الحظر
نشر في أخبار الأدب يوم 26 - 06 - 2010

ساراماجو يقرأ بينما كلبه يستمتع بحكاياته سارت السيارة في طريق صاعد ، لامسة الأسفلت الذي يشبه حيواناً مختبئاً ، ساحقةً القمامة المتناثرة . قفز فجأة عداد الكيلومترات إلي التسعين ، وهي سرعة تؤدي للموت في شارع ضيق تركن علي جانبيه سيارات . ماذا يحدث؟ رفع قدمه من دواسة البنزين ، وشعر بالقلق .
استيقظَ باحساس حاد بأن شيئاً ما قد ذبح حلمه ، ورأي أمامه سطح الزجاج الرمادي والمشبّر ، وشقشقة الفجر الداخل ، بلونه الازرق الرصاصي وبضوئه المتقطع ، هذا الفجر الذي يتزحلق في شكل قطرات مكثفة فوق سطح الزجاج . فكّر أن زوجته قد نسيت أن تسدل الستائر قبل أن تنام ، وغضبَ ، فلو لم يستطع أن ينام من جديد ، سيقضي يوماً عصيباً . لم يكن يتمتع بنشاط لينهض ، ليغطي النافذة ، وفضل أن يغطي وجهه بالملاءة وأن يعود ليعانق زوجته النائمة ، وأن يحتمي بدفئها وبرائحة شعرها المسترسل . داعبه الأرق لعدة دقائق ، فظل منتظرا حتي ينأي عنه ، فالأرق الصباحي أشد ما يخشاه . لكنه سريعاً ما مرت بخاطره صورة الخشب البارد ، وهو السرير ، والحضور المتاهي للجسد الذي يقترب منه ، وهكذا ، غارقا في دائرة الصور الحسية والبطيئة ، سقط في بئر الأحلام من جديد . بدأ سطح الزجاج الرمادي يكتسب زرقة رويداً رويداً ، وينظر بتحديق في الرأسين النائمين علي الوسادة ، كما لو كانا بقايا تم نسيانها عند هجر البيت لبيت آخر ، أو لعالم آخر . وعندما دق المنبه ، بعد مرور ساعتين ، كانت الغرفة مضاءة بجلاء .
قال لزوجته ألا تنهض ، وأن تستغل الصباح لتنام قليلا ، بينما نهض هو وتعرض للهواء البارد ، لرطوبة الحوائط التي لا يمكن تعريفها ، للمس أُكر الأبواب ، لفوط الحمام . دخن سيجارته الأولي وهو يحلق ذقنه ، والثانية مع القهوة ، التي كانت قد بردت أثناء ذلك . عطس مثل كل الصباحات . بعدها ارتدي ملابسه في الظلام ، بدون أن يضيء نور الغرفة . لم يكن يرغب أن يوقظ زوجته . أنعشت رائحة الكولونيا المكان ، وهو ما جعل الزوجة تتنهد بلذة عندما مال علي السرير ليقبل عينيها المغمضتين . وهمس لها أنه ربما لن يعود للبيت ليتناول معها الغداء . أغلق الباب وهبط سريعا درجات السلم . كانت البناية تبدو أكثر هدوءً من عادتها . ربما بسبب الضباب ، فكّر . انتبه إلي أن الضباب كان مثل جرس يخنق الأصوات ويغيرها ، يحللها ويخلق منها ما يخلقه من الصور . الضباب يسود . في الجزء الأخير من السلم سيتمكن من رؤية الشارع وسيعرف إن كان قد أصاب في رأيه . في النهاية رأي ضوءً أشهبا ، لكنه حاد ولامع ، يشبه الكوارتز . وشاهد علي حافة الرصيف فأراً ميتاً . وبينما كان يشعل السيجارة الثالثة ، واقفاً أمام باب البيت ، عبر غلام ملثّم ، يرتدي قبعة ، بصق علي الحيوان الميت ، كما علّموه وكما رآهم يفعلون .
كانت السيارة علي بعد خمسة بيوت من بيته . وكان محظوظاً أن استطاع أن يركنها هناك. فلقد اكتسب مع الوقت هاجساً خرافياً يوحي له أنه كلما ركن السيارة بعيدا كلما كان احتمال سرقتها بالليل أكبر . وبدون أن يتفوه بذلك لأحد ، كان مقتنعاً تماماً أنه لن يراها مرة أخري لو ركنها في طرف من أطراف المدينة . ها هي قريبة منه ، لذا يشعر بالطمأنينة . كان يبدو أنها مغلفة بقطرات الندي ، والزجاج تخفيه الرطوبة . لو لم يكن الطقس بارداً ، لقلنا إنها ترشح مثل جسد حي . نظر للإطارات كالعادة ، وتحقق سريعا من أن المسّاحات ليست مهشمة ، وفتح الباب . كانت السيارة ثلاجة من الداخل ، ومع الزجاج المكسي بالبخار ، كانت مثل مغارة شبه شفافة غارقة تحت فيضان ماء . فكّر أنه كان من الأفضل أن يركنها في مكان آخر بحيث تنزلق بسهولة بمجرد تشغيلها . أدارها ، وفي الحال زأرت بقوة ، وانتفضت بعمق وضجر . ابتسم ، شاعراً بالرضا . بداية يوم جميل .
سارت السيارة في طريق صاعد ، لامسة الأسفلت الذي يشبه حيواناً مختبئاً ، ساحقةً القمامة المتناثرة . قفز فجأة عداد الكيلومترات إلي التسعين ، وهي سرعة تؤدي للموت في شارع ضيق تركن علي جانبيه سيارات . ماذا يحدث؟ رفع قدمه من دواسة البنزين ، وشعر بالقلق . أوشك أن يعتقد أنهم بدّلوا له الموتور بآخر أشد قوة . ضغط علي دواسة البنزين بكل حيطة وسيطر علي السيارة . لم يحدث أمر ذو شأن يذكر . أحياناً لا يتحكم جيداً في ضغطة قدمه . يكفي ألا يستقر كعب حذائه في المكان المعتاد ليحدث خللاً في الحركة والضغط . الأمر في غاية البساطة .
شارداً مع الحدث السابق ، لم ينتبه لعداد البنزين . أيكونوا قد سرقوه أثناء الليل ، وهي ليست المرة الأولي ؟ لا . كان المؤشر يشير تحديداً أن التنك ممتليء لمنتصفه . توقف في إشارة حمراء ، وشعر أن السيارة ترتجف بين يديه بشكل متوتر . إنه أمر مثير للفضول . لم ينتبه أثناء هذه الاهتزازات المموجة لما يحدث في بدن السيارة وما يجعل بطنه ترتجف بشدة . عندما صارت الإشارة خضراء ، سار بشكل ثعباني ، متقدماً السيارات التي أمامه . شيئ غريب . الحق إنه كان يعتبر نفسه سائقاً أفضل من الآخرين . إنها مسألة تدريب جيد هذه الخفة في الحركة في الوقت الحاضر ، وربما تحتاج تدريبا استثنائيا . التنك لمنتصفه . لو أعثر علي محطة بنزين تعمل ، سأقتنص الفرصة . ولأكون في الأمان ، مع كم المشاوير التي يجب أن أقضيها قبل ذهابي للعمل ، يجب ان أسير بتنك ممتلئ أفضل . إنه الحظر الأحمق . ذعر، ساعات إنتظار ، صفوف طويلة بها دستات ودستات من السيارات . يقولون إن الصناعة ستلقي عواقب وخيمة . التنك لمنتصفه . هناك آخرون يسيرون في هذا الوقت بأقل من نصف التنك بكثير ، لكن لو كان بإمكانهم ملئه ... مالت السيارة بتوازن ، وبنفس الحركة ترامت علي طريق صاعد مرتفع بلا جهد . وبالقرب منه وجد محطة بنزين قليلة الشهرة ، ربما يكون محظوظاً . وكما الكلب يتجه حيث تدله أنفه ، تسرّب بين العربات الأخري ، اختصر ناصيتين ، ومضي يشغل مكانا في صف الإنتظار . كم هي فكرة نيّرة .
نظر في ساعته . ربما تقف أمامه عشرون سيارة . بدون أية مبالغة . فّكر أنه من الأفضل أن يملأ التنك ويذهب للمكتب أولا ثم يقضي مشاويره لاحقا ، حتي يكون مرتاح البال. أنزل زجاج النافذة ونادي علي بائع جرائد كان يعبر . كان الطقس قد اشتد برودة . لكن بالداخل ، في السيارة ، بالجريدة مفتوحة علي المقود ، مدخناً سيجارة بينما ينتظر ، كان يشعر بدفء مريح ، كدفء الملاءة . طقطق ظهره ، كما القط الشهواني يتلوي ، عندما تذكّر أن زوجته مازالت تتلوي في سريرها حتي تلك الساعة ، ففرد جسده علي الكرسي بشكل أفضل . لم تحتو الجريدة علي خبر سعيد . مازال الحظر مستمرا . كريسماس غامق وبارد ، كان هذا احدي المانشيتات . لكن تنكه لا يزال حتي منتصفه . تقدمت السيارة الأمامية قليلاً . خير .
بعد ساعة ونصف كان يملأ التنك ، وبعد ثلاث دقائق انطلق بسيارته . كان مشغول البال حيث أخبره عامل محطة البنزين بدون أي نبرة مميزة في الصوت ، لأنها معلومة مكررة ، أن البنزين سيشح عندهم لمدة أسبوعين . وفي الكرسي الذي بجانبه ، كانت الجريدة تعلن عن قيود صارمة . في النهاية ، علي أسوأ الافتراضات ، تنكي ممتليء . ماذا أفعل ؟ أأذهب مباشرة إلي المكتب أم أمر أولاً علي بيت أحد العملاء لأري إن كانوا قد سلّموه الطلبية ؟ اختار المرور علي العميل . فمن الأفضل أن يبرر تأخيره بزيارة عميل من أن يقول إنه قد قضي ساعة ونصف في صف بمحطة بنزين لأن تنكه كان لمنتصفه . كانت السيارة رائعة . فلم يشعر ابداّ بهذه الراحة وهو يقودها من قبل . أشعل الراديو وسمع نشرة الاخبار المنطوقة. تسير الأخبار من سيئ لأسوأ . هؤلاء العرب . هذا الحظر الأحمق .
تمايلت السيارة فجأة واتجهت للشارع الأيمن حتي توقفت في صف سيارات أقصر من الصف الأول . ما هذا ؟ أليس التنك ممتلئاً لآخره ، حقاً ، هو ممتليء بشكل فعلي . إذن لماذا هذه الفكرة الشيطانية . حرّك الفتيس ليرجع للخلف ، لكن بدن السيارة لم يطعه . حاول أن يجبره ، لكن التروس كانت تبدو مجمدة . ياللهراء . الآن يصيبها العطل . تقدمت السيارة الأمامية . مرتاباً ، تقدم أيضاُ ، مفترضاً ما هو أسوأ . كل شيئ علي ما يرام . تنفس الصعداء. كيف سيرجع للخلف لو احتاج الرجوع ؟
بعد نصف ساعة تقريباً ، وضع نصف لتر بنزين في التنك ، شاعراً أنه بهلوان تحت نظرة عامل البنزينة المزدرية . دفع له إكرامية كبيرة بشكل غير معقول وانطلق محدثاً ضجيجاً هائلاً بإطارات السيارة وسرعتها . يالها من فكرة شيطانية . الآن إلي العميل ، وإلا سأكون قد أضعت الصباح هباءً. كانت السيارة في احسن حالاتها . وكانت تستجيب لأوامره كما لو كانت امتداداً ميكانيكياً لجسده . لكن مسألة الرجوع للخلف كانت تؤرقه . وسريعا ما وجد نفسه في موقف يستدعي التفكير بجد ، حيث أصيبت حافلة هائلة تقف أمامه بعطل وهي تقف في منتصف الطريق . لم يستطع ان يمر بجوارها ، فلم يسنح له الوقت ، لأنه كان ملتصقا بها . يحرك الفتيس مرة أخري والخوف يسكنه ، والرجوع للخلف يحدث ضجيج شفط طفيف . لا يتذكر ان بدن السيارة أحدث رد الفعل هذا من قبل . أدار المقود ناحية اليسار ، وضغط علي دواسة البنزين وبحركة محتاطة صعدت السيارة فوق الرصيف ، المجاور للحافلة ، وخرج من الجانب الآخر ، طليقاً ، بخفة حيوان . كان شيطان السيارة كما القط بسبعة ارواح . و ربما بسبب التشويش الناتج عن الحظر ، بسبب كل هذا الذعر ، فرضت الخدمات الفوضوية وضع بنزين بجودة عالية في محطات البنزين ! ياله من أمر مضحك .
نظر في ساعته . هل من المفيد الآن أن أزور العميل ؟ سأكون محظوظا لو وجدت المتجر مفتوحاً . لو يساعدني الطريق ، نعم ، لو يساعدني الطريق ، سأجد أمامي وقتاً . لكن الطريق لم يساعده . ففي أيام الكريسماس ، وخاصة مع نقص البنزين ، تخرج الناس جمعاء للشارع ، لتوقف حال من يذهب لعمله . عندما رأي السيولة المرورية تراجع عن فكرة زيارة العميل . قد يكون من الأفضل ان اقدم لهم عذرا في المكتب وأؤجل العميل لآخر النهار . وبكثير من الشك ابتعد عن وسط المدينة . حرقت بنزيناً بلا فائدة . علي اي الحال التنك ممتليء . في ميدان ما ، في آخر الشارع الذي كان يهبط منه ، رأي صفا آخر من السيارات في انتظار دورها . لكن السيارة ، علي بعد عشرين مترا ، اتجهت صوب اليسار ، من تلقاء نفسها ، وتوقفت ، برقة ، كما لو كات تتنهد ، في آخر الصف . ما هذا الحدث الجنوني ، فأنا لم أقرر اضافة بنزين أكثر ؟ أي شيطان هذا ، إذا كان التنك ممتلئاً ؟ ظل ينظر للعدادات المختلفة ، وهو يحرك المقود ، مفكرا أن من الصعب عليه ان يتعرف علي سيارته ، وخلال هذه السلسلة من الإيماءات حّرك المرآة ، ونظر لنفسه فيها . رأي في وجهه الحيرة واعتبر نفسه محقاً . ناظراً مرة أخري في المرأة ، ميّز سيارة تهبط من الشارع ، يبدو عليها أنها تنوي الدخول في الصف . ومشغولا بفكرة البقاء في مكانه بلا حركة ، بينما التنك ممتلئاً ، حرّك الفتيس بسرعة ليرجع للخلف . قاومت السيارة وهرب الفتيس من يده . بعد لحظات وجد نفسه محاصراً بين جارين . إنهم شياطين . ماذا حدث للسيارة ؟ كان في حاجة للذهاب لورشة ميكانيكي . ترجع السيارة الآن للخلف بدون أي خطورة .
استغرق عشرين دقيقة حتي تقدمت السيارة لمحطة البنزين . رأي عامل البنزينة يقترب فاختنق صوته وهو يطلب منه أن يملأ التنك . وفي هذه اللحظة جاءه وسواس ليهرب من الخجل ، فحرك السرعة الاولي لينطلق . لكن فعله ذهب سدي . فالسيارة لم تتحرك من مكانها. نظر له عامل البنزينة بريب ، فتح التنك ، وبعد عدة ثواني ، طلب منه ثمن لتر ، أدخله في جيبه متأففاً . الحدث التالي ، لم يجد في السرعة الأولي أية صعوبات ، وتقدمت السيارة ، بمرونة ، متنفسة ببطء . جزء ما في هذه السيارة قد أصابه العطل ، إما قطعة غيار، أو الموتور ، أو أي جزء آخر ، الشيطان يعلم أي جزء ! . أو انه قد فقد مهارته كسائق ؟ ، أو أنه مريض ؟ ، ورغم أنه قد نام جيدا ، ولم يكن يشغله شيئ أكثر من اي يوم آخر في حياته . أفضل شيئ أن يقصي عن ذهنه التفكير في العملاء ، ألا يفكر فيهم طول اليوم وأن يبقي في المكتب . كان يشعر بالضجر . وحوله كانت أجزاء السيارة تهتز بعمق ، ليست الأجزاء الخارجية ، بل داخل الحديد نفسه ، والموتور كان يعمل بهذا الضجيج الذي لا يُسمع لرئتين تمتلئان وتفرغان ، تمتلئان وتفرغان . في البداية ، بدون أن يعرف سببا ، فكر ذهنيا في طريق يبعده عن محطات البنزين الأخري ، وعندما انتبه لما يفكر فيه أصابه الخوف، خاف أن يكون الجنون قد أصابه. دخل في شوارع جانبيه ، مختصرا كل الطرق الممكنة ، حتي وجد نفسه امام المكتب . استطاع أن يركن سيارته وتنفس الصعداء . أوقف الموتور ، سحب المفتاح ، فتح الباب . كان عاجزا حتي عن النهوض .
اعتقد أن طرف معطفه قد اشتبك في شيئ ، أن ساقه محشورة في محور المقود ، وقام بحركة أخري . وفي النهاية بحث عن حزام الأمان فلربما وضعه دون أن ينتبه . لا . حزام الأمان في موضعه معلقاً من طرف واحد ، مثل المعي الأسود الرقيق . ياللفظاعة ، فكّر . لابد أنني مريض . فكوني لا أستطع النهوض معناه أنني مريض . كان يستطيع أن يحرك ذراعيه وساقيه بحرية ، أن يثني جذعه بخفة تتناسب مع المناورات ، أن ينظر للخلف ، أن يميل قليلا صوب اليمين ، ناحية صندوقة القفاز ، لكن ظهره كان ملصوقاً بظهر المقعد . ليس بشكل صارم ، بل كما العضو الملتصق بالجسد . أشعل سيجارة ، و ، فجأة ، ضبط نفسه يفكر فيما سيقوله رئيسه لو اطل من النافذة ووجده هنا جالسا ، داخل السيارة ، يدخن سيجارة ، بدون أن يتعجل الخروج . أغلق الباب ، الذي فتحه علي الشارع ، عقب سماعه زمارة تنبيه عنيفة . وعندما عبرت السيارة الأخري ، ترك الباب يُفتح مرة أخري ، ورمي السيجارة في الخارج ، و ، ممسكا باحدي يديه بالمقود ، قام بحركة شديدة ، عنيفة . بلا فائدة . ولم يشعر حتي بالألم . أمسك به ظهر الكرسي برقة ، وظل محبوساً فيه . ما هذا الذي كان يحدث له ؟. حرّك المرآة لأسفل ونظر لنفسه . لم يجد أي تغيير في وجهه . ليس إلا آثار حزن غير محدد ولم يسيطر علي الوجه بعد .عائداً بوجهه ناحية اليمين ، صوب الرصيف ، رأي طفلة تنظر له ، بفضول وتسلية في آن . بعد قليل ظهرت امرأة بيدها معطف للشتاء ، أخذته الطفلة وارتدته ، دون أن تكف عن النظر إليه . ابتعدت كلتاهما ، بينما المرأة تهندم ياقة الطفلة وتلم شعرها .
نظر في المرآة مجدداً ، متوقعاً ما يجب أن يحدث . لكن ليس هناك . كان هناك أشخاص ينظرون له ، أناس يعرفهم . ناور حتي يبتعد عن الرصيف ، بسرعة ، فارداً يده للباب ليغلقه، وهبط الشارع بأقصي ما في وسعه من سرعة . كان لديه نية ، هدف محدد يبعث فيه الطمأنينة ، ويجعله يتجول بابتسامة علي وجهه تخفف قليلاً من حزنه .
نظر فقط في محطة البنزين عندما عبر من أمامها تقريباً . كانت هناك لافتة معلقة تقول " لقد نفد " ، وواصل سيره بالسيارة ، بدون أي تغيير في قبلته ، أو تقليل في سرعته . لم يكن يرغب أن يفكر في السيارة . ابتسم مرة أخري . كان يخرج من المدينة ، في طريقه للضواحي ، وقد اقترب المكان الذي يبغيه . دخل في شارع تحت البناء ، دار يساراً فيميناً ، حتي وصل لطريق خالٍ ، يقع بين حواجز . أمطرت السماء عندما أوقف السيارة .
كانت فكرته غاية في البساطة . كانت تكمن في أن يخرج من معطفه ، ساحبا ذراعيه وبدنه ، ومتسرباً منه ، كما تفعل الحية عندما تغير جلدها . لم يتجرأ أن يفعل ذلك امام الناس، لكن هنا ، بمفرده ، بهذه الصحراء التي تحيطه ، بعيدا عن المدينة التي تختبيء وراء المطر ، كل شيئ غاية في البساطة . لقد أخطأ مع ذلك . لأن معطف المطر كان يلتصق بظهر الكرسي ، وبنفس الطريقة بالجاكت ، بالجاكت المنقط ، بالقميص ، بالفانلة الداخلية ، بالجلد ، بالعضلات ، بالعظم . كان هذا هو ما خطر بباله بدون ان يفكر فيه عندما صرخ بعد عشر دقائق ثانياً جسده داخل السيارة ، باكياً ، يائساً . كان سجيناً في السيارة . ومهما حرك بدنه للخارج ، ناحية فتحة الباب التي تدخل منها قطرات المطر يدفعها الهواء البارد والمفاجيء ، ومهما رسّخ قدميه في نتوء بدن السيارة ، لن يستطيع أن ينتزع نفسه من المقعد . أمسك السقف بكلتا يديه محاولاً النهوض . كان كما لو أنه يريد أن ينهض الدنيا . القي نفسه علي المقود ، مرتجفاً ، مرعوباً . وأمام عينيه كانت المسّاحات ، التي بدأت تتحرك دون إرادة منه في وسط الإضطراب ، تهتز بضجيج جاف ، وبسرعة . جاءته من بعيد صفارة من مصنع . وبعدها ، في منحني الطريق ، ظهر له رجل يقود دراجة ، مغلّف بقطعة بلاستك كبيرة وسوداء ، وبالتالي كان المطر ينزلق كما ينزلق فوق جلد عجل البحر . نظر الرجل الذي كان يقود الدراجة داخل السيارة بفضول وواصل سيره ، ربما أصابته خيبة الأمل وشعر أنه وقع في الفخ عندما رأي رجلاً بمفرده ، بلا امرأة تجاوره ، كما تخيل .
ما كان يحدث كان عبثا . فلم يحدث لأحد من قبل أن يبقي سجيناً في سيارته ، وبسبب سيارته ، بهذه الطريقة . كان لابد من العثور علي حل لهذه المعضلة ليخرج . فالقوة قد عجزت . ولو ذهب لورشة ؟ لا . فكيف سيشرح حالته ؟ . أيهاتف الشرطة ؟ . وبعدها ؟ . قد تتجمع الناس ، وتنظر جمعاء ، بينما تحاول السلطة أن تجذبه من ذراعه وقد تطلب مساعدة من الحاضرين ، بلا فائدة تذكر ، لآن ظهر الكرسي يمسك فيه بعذوبة . وقد يأتي الصحفيون والمصورون ، وتنشر صورته وهو داخل سيارته في الجرائد في اليوم التالي ، ويشعر بالخجل كحيوان قصوا شعره بلا اتقان يقف تحت المطر . كان عليه أن يبحث عن طريقة أخري . أوقف الموتور ، وبدون أن يقاطع الإيماءة ، تحرك بقوة للخارج ، كمن يهاجم فجأة . بلا نتيجة . جرحت جبهته ويده اليسري ، وسبب له الألم دوخة أطالت ، بينما رغبة عارمة ومفاجأة في التبول قد هاجمته ، فلم يكن بوسعه سوي أن يطلق هذا السائل الساخن لينصب وينزلق بين ساقيه ليستقر علي أرض السيارة . عندما شعر بكل هذا ، بكي بكاءً خافتاً ، له عواء ، بشكل بائس ، وظل هكذا حتي جاء ، من المطر ، كلب هزيل ، وبدأ يعوي ، بلا اقتناع ، علي باب السيارة .
انسحب ببطء ، بحركات ثقيلة تشبه حركات من يحلم أنه داخل مغارة ، وتقدم في طريقه ، باذلاً ما في وسعه من جهد لئلا يفكر ، لئلا يترك هذا الموقف ينطبع في إدراكه . وبطريقة عفوية كان يعلم أنه في حاجة إلي مساعدة أحد . لكن ، من يكون هذا الأحد ؟ إنه لا يود أن يثير الخوف في نفس زوجته ، لكن ليس أمامه حل آخر . فربما تتمكن هي من إكتشاف حل . وعلي الاقل سيشعر أن هناك من يصطحبه في محنته .
عاود الدخول للمدينة ، منتبهاً لإشارات المرور ، دون أن تصدر منه أية حركة فظة في كرسيه ، كما لو أنه يرغب أن يهديء القوي التي تستحوذ عليه . كانت الساعة قد تخطت الثانية ، وبدأ اليوم في الإظلام . شاهد ثلاث محطات بنزين ، لكن السيارة لم تتأثر بالأمر . كلها كانت ترفع لافتة " لقد نفد " . وكلما دخل المدينة ، كان يلاحظ وجود سيارات مهجورة في أوضاع غير طبيعية ، بمثلثات حمراء في الفتحة الخلفية ، وهي إشارة تعني في احوال اخري وجود عطل ، لكن ما كانت تعنيه الآن هو نقص البنزين . وشاهد مرتين مجموعة رجال تدفع سيارات فوق الأرصفة ، بغضب جم ، تحت الامطار التي لم تتوقف بعد .
بمجرد أن وصل للشارع الذي يقطنه ، تحتم عليه أن يتخيل كيف سينادي لزوجته . أوقف السيارة أمام المدخل ، تائهاً ، يقف علي حافة أزمة عصبية . تمني أن تحدث المعجزة التي فيها تستمع زوجته لنداء نجدته الأخرس . وانتظر دقائق طويلة ، حتي اقترب منه طفل فضولي من ابناء جيرانه ، فطلب منه ، بعد أن أغراه بعملة معدنية ، أن يصعد للطابق الثالث ويخبر السيدة التي تقيم هناك أن زوجها ينتظرها في السيارة ، " واذهب سريعا ، فالأمر طاريء " . صعد الطفل وهبط ، قال إن السيدة قادمة ، وابتعد مهرولا ، فقد بدأ يومه .
نزلت المرأة كما تسير عادة في البيت ، بدون حتي أن تتذكر أن تجلب معها شمسية ، والآن كانت امام عتبة البيت ، حائرة ، تزوغ عيناها بلا قصد صوب الفأر الميت علي حافة الرصيف ، فأر رقيق ، بشعر مقنفد ، وتتردد في عبور المدخل تحت المطر ، وساخطة بعض الشيئ علي زوجها الذي جعلها تهبط بلا سبب ، بينما كان بإستطاعته أن يصعد بلا أدني مشكلة ليخبرها بما يريد . لكن زوجها كان يقوم بإيماءات من داخل السيارة ، فأصابها الذعر وركضت نحوه . وضعت يديها في جيبي المعطف ، وأسرعت الخطي لتهرب من المطر ، وعندما فتحت الباب أخيراً رأت أمام وجهها يد زوجها مفتوحة ، تدفعها دون أن تلمسها . أصرت وأرادت أن تدخل ، لكنه صرخ في وجهها : لا ، فهناك خطر ، وحكي لها ما جري ، بينما كانت مائلة تتلقي قطرات المطر في ظهرها ، ويشعث شعرها ، ويغلف الرعب كل ملامح وجهها . ورأت زوجها ، في هذا الصندوق الدافيء والمشبر الذي يعزله عن الدنيا ، متقهقرا كلية في كرسيه ، محاولا الخروج من السيارة دون أن يستطيع . تجرأت وأمسكته من ذراعه ، وجذبته ، غير مصدقة ، ولم تتمكن أيضا أن تزحزحه من مكانه . ولأن هذا الموقف فظيع بما فيه الكفاية ومن الصعب تصديقه ، ظل كل منهما يتبادل النظر مع الآخر في صمت، حتي خطر ببالها أن زوجها قد أصابه الجنون وأنه يتصنع عجزه عن النهوض . كان عليها أن تنادي شخصاً لتختبره ، وليصطحبه للمكان الذي يعالجون فيه من الجنون . وبكل حيطة ، وبكلمات كثيرة ، قالت لزوجها أن ينتظر قليلا ، فلن تتأخر ، وإنها ستذهب لتبحث عن شخص يساعده في الخروج ، وهكذا سنتناول غداءنا معا ، وقد أهاتف المكتب لأخبرهم أنك مصاب ببرد شديد . ولن أذهب للعمل في فترة الظهيرة . اهدأ ، فالأمر لا يستحق ، سأعود في غمضة عين .
لكن ، عندما اختفت هي في السلم ، عاد ليتخيل نفسه محاطاً بالناس ، وصوره في الجرائد، وتملكه الخجل لأنه تبول بين ساقيه لأسفل ، وانتظر عدة دقائق . وبينما كانت زوجته في الطابق العلوي تجري اتصالات تليفونية في جميع الانحاء ، بالشرطة ، وبالمستشفي ، وتكافح من أجل ان يصدقوها هي لا صوتها ، مقدمة اسمها و اسم زوجها ، ولون السيارة وماركتها ورقم لوحتها ، لم يستطع هو الاحتمال والخيالات ، فأدار الموتور . عاودت المرأة الهبوط بعد أن اختفت السيارة وانزلق الفأر من حافة الرصيف ، أخيراً ، ودار مع الشارع المائل ، يسحبه ماء المصرف الذي كان يجري . صرخت المرأة ، لكن الناس تأخرت في الظهور وكان من العسير جدا شرح الأمر .
ظل الرجل يتجول في المدينة حتي فرد الليل جناحيه ، عابراً أمام محطات بنزين لا وجود لها ، وواقفا في صفوف إنتظار بدون أن يكون قد قرر ذلك ، ويداهمه القلق لأن نقوده كانت تنفد ولم يكن يعرف ما قد يحدث عندما تنفد وتتوقف السيارة بجانب محطة بنزين ليملأ التنك .لم يحدث هذا ، ببساطة لأن كل البنزينات بدأت في الاغلاق وصفوف الإنتظار التي كان يراها كانت تحجز لليوم التالي ، وكان أفضل شيئ حينئذ أن يهرب حتي لا يعثر علي محطة بنزين مفتوحة ، حتي لا يتحتم عليه الوقوف . وفي شارع طويل وعريض ، خالٍ من سيارات أخري ، أسرعت سيارة شرطة وتقدمته ، وبينما كانت تتقدمه أشار له شرطي أن يتوقف . لكنه شعر بالخوف من جديد ولم يتوقف . سمع خلفه سارينة الشرطة ورأي ايضا ، لا يعرف من اين جاء ، سائق موتوسيكل يرتدي الزي الرسمي ، وقد أوشك أن يلحق به . لكن السيارة، سيارته ، زأرت ، وانطلقت بشكل مدهش ، وتقدمت للأمام ، صوب مدخل طريق سريع . كانت الشرطة تطارده من بعيد ، ومع مرور الوقت تزداد المسافة بينهم، وعندما ازدادت الظلمة لم يبق لهم أثر ، وكانت سيارته تجول في طريق آخر .
كان يشعر بالجوع . وتبول بين ساقيه من جديد وشعر بالخزي مرة أخري . وكان يهذي : أنا مذلول ، أنا مذلول . كان يقطع الكلمة إلي مقاطع ، دون مراعاة للحروف الساكنة والمتحركة ، إنه تدريب غير واع ومتسلط يدافع عنه ضد الواقع . لم يوقف السيارة لأنه لم يكن يعرف سبباً ليوقفها . لكنه ، عند الفجر ، ركن مرتين بجانب الرصيف وحاول أن يخرج علي مهله ، كما لو انه في هذه الأثناء قد وقع اتفاق سلام مع السيارة و الآن قد حانت لحظة اختبار مدي حسن نية كل منهما . مرتان تحدث فيهما بصوت خفيض عندما أمسك به الكرسي ، مرتان حاول إقناع السيارة أن تتركه يخرج بالحسني ، مرتان في البادية المظلمة والمثلجة حيث لا تتوقف الأمطار ، انفجر في الصراخ ، في البكاء ، في العواء ، في اليأس الأعمي . عادت جروح الرأس واليد إلي النزيف . وظل يقود السيارة منهنهاً ، مخنوقاً ، مرتجفاً كما الحيوان المرعوب . لم يكن يقود السيارة ، بل تركها هي تقوده .
سافر طوال الليل ، دون أن يعرف إلي أين . عبر قري لم ير اسمها ، وسار في طرق طويلة، وصعد جبالاً وهبط منها ، ودخل في منعطفات ومنحنيات ، وعند شقشقة الفجر كان في اي مكان ، في طريق خرب ، صنعت فيه قطرات الماء بركاً وفاضت من حوافها . كان الموتور يزأر ، والإطارات تنطلق في الوحل ، وكل أجزاء السيارة تهتز ، بضجيج مقلق . أشرق الصبح بكامل بهائه ، بدون ان تظهر الشمس ، لكن المطر توقف . تحول الطريق لطريق بسيط يمكن السير فيه ، وفي كل لحظة يبدو أنه يتوه بين الأحجار . أين كان العالم ؟ . لم ير أمام عينيه سوي سلسلة جبلية وسماءً قريبة بشكل مذهل . أطلق صرخة وضرب بقبضة يده المغلقة علي المقود . في هذه اللحظة بالتحديد لاحظ أن مؤشر عداد البنزين يقف فوق الصفر. بدا أن الموتور تحرك من تلقاء نفسه وسحب السيارة عشرين مترا . ظهر الطريق من جديد ، لكن البنزين قد نفد .
تبللت جبهته بالعرق البارد . وتملك الغثيان منه ، ونفضه من شعر رأسه لأخمص قدميه . غطي حجاب عينيه ثلاث مرات . ومتلمساً علي غير يقين ، فتح الباب لينقذ نفسه من الاختناق الذي أحاط به ، وبهذه الحركة ، لأنه علي وشك الموت أو لأن الموتور قد مات ، تدلي الجسد من الجانب الأيسر وانزلق من السيارة. انزلق مرة أخري قليلا وسقط بين الأحجار . وبدأت السماء تمطر من جديد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.