طرحنا من قبل تصورنا للمرحلة الحاسمة التي ستعقب الانتخابات الرئاسية القادمة. وقلنا إن المهمة التاريخية الملقاة علي عاتق الرئيس المنتخب والذي هناك شواهد قوية تدل علي أنه سيكون هو مرشح الحزب الوطني الديمقراطي باعتباره حزب الأغلبية هي القيام بمهمة تعديل الدستور بالنسبة لنصوص بالغة الأهمية. للإسراع قدما في عملية الإصلاح السياسي. وفي هذا السياق طرحنا أجندة سياسية للمستقبل قررنا فيها أن ترسيخ قواعد الحقوق السياسية للمواطنين لا تكفي لأنه لابد أيضا في نصوص قطعية من إرساء قواعد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وإذا أردنا أن نلخص ما نعتقد أنه موجهات رئيسية للتعديلات الدستورية التي نقترحها لقلنا: إنها الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية والمواطنة. في ظل هذا المناخ الاستثماري فتحت خزائن البنوك بلا حدود لرجال الأعمال ليقترضوا منها بالمليارات بدون أن يقدموا دراسات جدوي حقيقية, وبدون أن تشترط البنوك تقديم ضمانات موثوقة. بعبارة أخري في هذه الخطة المقترحة للتنمية تحدد الدولة الميادين المطلوب الاستثمار فيها في مجالات الصناعة والزراعة والإعمار وإذا كنا نتحدث عن العدالة الاجتماعية فمعني ذلك أننا نثير علي الفور قضية السياسة الاقتصادية التي تبنتها الدولة في العقود الأخيرة وتقييم توجهاتها الأساسية. ومن المعروف أن الإصلاح الاقتصادي الذي قامت به الدولة تحت شعار التكيف الهيكلي أدي في النهاية الي أن تستقيل الدولة من أداء وظائفها الانتاجية التي كانت تقوم بها في العصر الاشتراكي. وقد أدي ذلك الي تصفية القطاع العام بدعوي أنه يدار بطريقة غير اقتصادية ويحقق خسائر كبيرة. وقد تمت هذه التصفية من خلال تطبيق برنامج محدد للخصخصة. وترتب علي هذا التحول الاقتصادي الرئيسي أن القطاع الخاص أصبح يقوم بعبء75% من عبء التنمية في البلاد. ونعتقد أنه آن الأوان لتقييم السياسة الاقتصادية التي طبقتها الدولة في العقود الماضية من زاوية منطلقاتها من ناحية ومن زاوية نتائجها من ناحية أخري. ولعل أول سلبية نسجلها في هذا المجال أن الإلغاء العملي لدور الدولة في التخطيط الاقتصادي هو أبرز هذه السلبيات. فقد كان من مزايا التخطيط الذي طبق في مصر من قبل في شكل خطط خمسية حين كانت الدولة تهيمن علي مجمل الموارد رسم خطط للتنمية في مختلف القطاعات تقوم علي التقدير الموضوعي وفقا لرؤية تنموية متكاملة, تراعي التقدم الاقتصادي, والتطور الاجتماعي في إطار من سياسة متوازنة لتوزيع الدخول. ولكن بعد أن ألغت الدولة سياسة التخطيط الشامل وتركت المبادرة الاقتصادية بالكامل تقريبا في يد القطاع الخاص, فقد أدي ذلك برجال الأعمال الي أن ينشئوا من المشاريع ما يحقق لهم أكبر ربحية ممكنة بغض النظر عن إشباعها للحاجات الضرورية للجماهير العريضة. وفي ظل هذا المناخ الاستثماري فتحت خزائن البنوك بلا حدود لرجال الأعمال ليقترضوا منها بالمليارات بدون أن يقدموا دراسات جدوي حقيقية, وبدون أن تشترط البنوك تقديم ضمانات موثوقة. وقد أدت هذه السياسة الخاطئة الي تعثر العشرات من رجال الأعمال نتيجة اندفاعهم للاستثمار في مجالات ظنوا أنها ستعود عليهم بأرباح خيالية إلا أن السوق خذلتهم. وقد أدي ذلك الي خسارة البنوك لأرصدتها التي ضاعت من خلال شبكات الفساد التي أسهم فيها بعض رجال البنوك وبعض رجال الأعمال. وإذا حاولنا أن نلقي النظر علي اتجاه الاستثمارات التي قام بها القطاع الخاص فإننا سنكتشف انحرافات تنموية شتي لو صح التعبير. لأمر ما شاعت مصانع السيراميك وكأن هذا المنتج الذي يروج له بشدة في الصحف والفضائيات سلعة استراتيجية. واستطاعت هذه الموجة وما صاحبها من إعلانات ترويجية توجيه المستهلكين حتي الفقراء ومتوسطي الحال منهم الي شراء هذا السيراميك حتي يرصعوا به مساكنهم حتي المتواضعة منها! غير أنه أخطر من الاستثمار الضخم في صناعة السيراميك التي استفحلت علي حساب صناعات أخري أساسية, لنلق نظرة علي السوق العقارية. في هذا المجال بالذات تتضح ظاهرة الانحراف التنموي جلية واضحة. بناء علي تواطؤ واضح بين الدولة ورجال الأعمال أقطعت الدولة هؤلاء ملايين الأفدنة بثمن بخس لإقامة منتجعات عبارة عن فيلات وقصور باهظة الثمن للطبقات الغنية المترفة التي أثرت أساسا من الانفتاح سداح مداح وراكمت الملايين والمليارات. وأصبحت غالبية الاستثمارات المربحة في هذا المجال. ومن يطالع إعلانات الشركات العقارية في الصحف لابد له أن يندهش اندهاشا شديدا. ذلك أن بعض الوحدات السكنية( فيلا أو قصر) يتراوح ثمنها بين خمسة ملايين جنيه وستين مليون جنيه! ومن حقا أن نتساءل من هؤلاء الذين يدفعون هذه الأثمان الباهظة؟ ومن أين كونوا ثرواتهم! ولكن أخطر من ذلك كله أننا لو راجعنا خريطة الاستثمار بدقة لاكتشفنا غياب الاستثمارات الحقيقية في مجالات الصناعة والزراعة. في مجال الصناعة بالذات أدي التطور التكنولوجي الي قفزة في الإنتاج كما وكيفا, بحيث أصبحت البلاد المتقدمة والنامية قادرة علي إشباع حاجات الجماهير العريضة الأساسية والكمالية. غير أن رجال الأعمال المصريين في ظل غياب سياسة اقتصادية للدولة عزفوا عن الاستثمار الصناعي في قطاعات رئيسية, وفضلوا أن يكونوا مجرد وكلاء لشركات عالمية. ونفس العزوف مارسه رجال الأعمال بالنسبة لتطوير الزراعة في مصر, والذي يتمثل كما فعلت عديد من البلاد في إقامة مجتمعات زراعية صناعية قادرة علي الاستخدام الأمثل للموارد والمحاصيل. وكانت نتيجة هذا كله خريطة استثمارية مشوهة. وعجز واضح عن سد الاحتياجات الأساسية للجماهير. إن الأجندة الاقتصادية للمستقبل لابد لها من مراجعة حقيقية للسياسة الاقتصادية التي طبقت في بلادنا طوال العقود الماضية. نحن لا ندعو الي إعادة التخطيط الاشتراكي مرة أخري, ولكننا ندعو الي ترسيخ قواعد التخطيط التأشيري الذي تتبعه بعض الدول من خلال وضع خطة للتنمية تراعي الاحتياجات الرئيسية وعلي أساس التحكم في السياسة الائتمانية للبنوك. بعبارة أخري في هذه الخطة المقترحة للتنمية تحدد الدولة الميادين المطلوب الاستثمار فيها في مجالات الصناعة والزراعة والإعمار, بناء علي خطط محددة بدقة, وتشجع الدولة البنوك علي إقراض رجال الأعمال الذين يتقدمون لتنفيذ هذه الخطة. بهذه الطريقة تضمن أن الحاجات الأساسية يمكن أن تشبع وفي نفس الوقت ستكون هناك حرية لرجال الأعمال الذين لا يريدون الالتزام بهذه الخطة في الاستثمار في الميادين التي يريدونها ولكن الدولة في هذه الحالة ليس عليها أن تقدم التسهيلات المهولة التي سبق وأن أسرفت في إعطائها لرجال الأعمال الذين انصرفوا الي بناء الفيلات والقصور علي حساب بناء المساكن الضرورية للطبقات الوسطي والفقيرة. وهكذا تحول المشهد الاجتماعي المصري كما كررنا مرارا من قبل ليصبح منتجعات هنا وعشوائيات هناك. ولا يغيب عن الذهن المخاطر الاجتماعية والثقافية الكبري التي ستترتب علي هذا الانقسام الاجتماعي. ومعني ذلك أننا في حاجة في الأجندة الاقتصادية للمستقبل الي نظرية جديدة في التنمية تضع في اعتبارها ملايين المصريين من أهل الطبقات الوسطي والفقيرة. غير أن ذلك شرط ضروري ولكنه ليس كافيا, إذ لابد من تطبيق سياسة تؤدي الي العدالة في توزيع الدخل القومي. والطريق لتحقيق ذلك يكمن في تكافؤ الفرص وتنمية القدرات البشرية وتقريبا الفجوة بين الأجور الكبيرة المتضخمة والأجور الصغيرة المتدنية, ومنع الاحتكار, وضبط التضخم, والرقي بالمستوي الاجتماعي للمواطنين. هل تبدو هذه المطالب خيالية أم أنه يمكن بناء علي اتباع قواعد التفكير الرشيد تحقيقها؟