هل مشكلة المصريين هذه الأيام هي الحد الأدني للأجور؟.. أم أنها غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار؟.. وقد تكون الفوارق الرهيبة بين مستويات الدخل السائدة؟.. أو ربما هي تكمن في سقف التطلعات الآخذ في الارتفاع دون حد وذلك علي مرأي ومسمع من الحكومة التي كان ينبغي عليها أن تريح دماغها من الأول وتحظر تماما تداول منظومة التطلعات أو الحديث عن المتطلعين الأول, أو تمنع الإشارة العلنية الواضحة أو الخاصة غير المباشرة إلي الأمنيات والأحلام, وكلها علي الأرجح تدور في إطار مادي بحت. فهذا يحلم بسيارة دفع رباعي, وذاك يتمني الحصول علي وظيفة في بنك, ورابع يحلم بصينية كوسة بالبشاميل, وخامس توقف بحلمه عند سقف تطلعاته الخاص به, ليقينه أن حتي هذا السقف العادي جدا هو بالنسبة إلي من حوله عال جدا, بل بعضهم يستكثر عليه قدرته علي الحلم, فيحاسبه حسابا عسيرا علي استمرار قدرته علي الحلم. وما يعنينا هنا هو أن الجميع, أو فلنقل الغالبية صارت تخشي علي نفسها من الحلم أو الطموح, وهما يؤديان بصاحبهما في مثل هذا الجزء من العالم الذي نعيش فيه إلي التهلكة.. صار الحلم ممنوعا, وصارت متعة تخيل شكل الحياة في ظل تحقق الأحلام والتطلعات تصرفا يحاسب عليه القانون. وإن لم يفعل القانون, فإن أوركسترا مصر الدولي تبدأ في عزف معزوفة إلحاق الضرر بسمعة مصر, وتهييج الرأي العام ثم تأليبه ضدنا للنيل من فلان الذي أقدم علي أن يتطلع ويحلم بغد أفضل. المشكلة في رأيي ليست مجرد تدني أجور, ولا ارتفاع أسعار, ولا مراوغة الحكومة للتملص من دورها في فرض رقابة ما من شأنها أن تخفف العبء عن كاهل المواطن.. لكن ما يحدث في رأيي حاليا هو حالة من القرف والزهق التي وقعت ضحيتها الملايين من القرفانين والزهقانين. كما قابلت شخصا أعرف جيدا أنه لم كان يوما مهتما بقضية الحد الأدني للأجور ولا حتي الحد الأقصي. ورغم ذلك ما كادت عبارات التحية الأولي تنتهي بيننا حتي كان قد قفز إلي الحديث عن الأجور, والأسعار, وتعنت الحكومة ورفضها إرضاء الناس وإسعادهم, إلا بعد تدخل الرئيس مبارك شخصيا.. وجدته يتحدث عن الحد الأدني للأجور كان هذا الحد محفور في غرفة جلوسه أو يمر من أمام باب شقته. في اليوم نفسه, قابلت جارا شابا عاطلا عن العمل منذ تخرجه قبل خمس سنوات, وجدته يتساءل: أيهما أفضل؟.. حد ال400 ولا ال1200 ولا ال35 جنيها بتاعة زمان؟.. تعجبت مجددا من اهتمامه بالحد والأرقام الكثيرة التي تحيط به. بعدها بلحظات, وبينما كنت جالسة أشاهد برنامجا تليفزيونيا تناول في إحدي فقراته الحد الأدني للأجور, فوجئت بابنتي الصغيرة تسألني عن حكاية الحد الأدني للأجور, وبعد شرح طويل ومستفيض لها, فوجئت بها تسألني في ضجر وزهق: وهل هناك حد أدني للمصروف؟.. أم أن حكاية الحد الأدني هذه هي للكبار فقط؟ ما يجمع بين كل تلك النماذج التي لا يعنيها بشكل مباشر حكاية الحد الأدني هو أنهم مواطنون قرفانون زهقانون! يعرفون جيدا أن الأفضل لهم تدريب أنفسهم علي التوقف عن الحلم والتمني, لأنه بعد فترة تتحول هذه الأحلام إلي نقاط قهر وشعور بالظلم الاجتماعي وعدم القدرة علي التنفيذ. آخرون قرروا بينهم وبين أنفسهم أن الكلام ليس بفلوس, وبالتالي هو وسيلة عبقرية للتنفيس عن الأفكار العدوانية التي قد تسيطر علينا أحيانا. هناك حالة من الزهق والملل لدي كثيرين.. وهم يعلمون أنهم أشبه بمن يؤذن في مالطة إن طالبوا بحق من حقوقهم, ويعرفون أيضا أن رفع سقف التوقعات هذه يضرأكثر مما يفيد.. فارتفاع السقف يصل إلي الإعلام الأجنبي, وفي هذا تشويه لسمعة مصر.. وإن لم يشوهه فمجرد شعور الشعب بالقهر وعدم القدرة علي تنفيذ الأحلام يولد المزيد من القهر, والقهر يولد الملل والزهق والقرف!! [email protected]