أعتقد ولا أظن الا ان الكثيرين يشاطرونني هذا الاعتقاد, إن الحكم الذي اصدرته المحكمة الإدارية العليا, والذي أكد بطلان عقد بيع أرض مدينتي, يعد من الاحكام التاريخية العظيمة في تاريخ القضاء الاداري ويمثل اعلاء لمبدأ الشرعية الدستورية والقانونية وسيادة القانون, مما يولد انطباعا بأن مصر القديمة, لاتزال حية في وجدان المجتمع المصري المعاصر. ان قصة النظام القضائي في مصر, ان هي إلا قصة الحضارة نفسها, فقد واكب هذه الحضارة قبل أن يبزغ فجر التاريخ بآلاف السنين, فكان دائما المنار, الذي اضاء ظلمات تلك العصور الموغلة في القدم, ومازال العالم منذ فجر التاريخ يسبح في خضم هذا النظام وعند هذا الحد نجد العون في استنطاق الروايات والآثار.من خصائص المصريين المميزة قديما وحديثا سعيهم الدائب لتتفق افعالهم مع الوازع الخلقي جريا علي اساس قاعدة ما يحبه الناس ويرضي عنه الرب اي ما يجمع بين ما هو صالح وعادل. وبالنتيجة لعبت العوامل الاجتماعية دورا مهما في حفظ الأمن ولعل هذا مادفع المؤرخ الكبير( ول ديورانت) ان يقول: ليس في العالم كله امة غير مصر إلا إذا استثنينا الأمة الصينية جرؤت علي ان تعتمد كل هذا الاعتماد علي العوامل النفسية لحفظ الأمن في البلاد, وهذه العوامل تتداخل حتي يصعب فصلها احيانا, علي أننا يمكننا ان نجملها في نقاط ثلاث: الملكية الإلهية والوازع الديني وفكرة الماعت, اي العدالة, وهي القانون الذي سنه المعبود رع اول من حكم الأرض, ومن ثم كان لمبادئها أهمية قصوي, فالمعبود والبشر ولاسيما الملك يعيشون علي مبادئها, وقد ظلت العدالة تسير علي وتيرة واحدة, او وتائر متقاربة طوال حقبات الحكم الوطني لمصر. ومن الحقائق التي تنطق بها وقائع التاريخ, ان الفكرةالمصرية عن النظام الخلقي والإداري, وهذا مدلول اصطلاح( ماعت) ما هي الا حصيلة تطور اجتماعي, وحكومي, استمر بضعة آلاف من السنين في كنف حياة قومية منظمة تنظيما عاليا, وفي ظل تكامل اجتماعي وطني, سبقت مصر بتحقيقه مجتمعات العالم الأخري. ولقد اتضح لكثير ممن يوثق في ابحاثهم, ان مصر في عصر الاسرات الأولي, لم تعرف استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية, فالملك هو الرئيس الأعلي للسلطة التنفيذية وينبوع العدل والمرجع الأخير للقضاء, ورغم انه لم يكن في الأعم يباشر بنفسه نظر الدعاوي والفصل فيها إلا انه كان يباشر نوعا من النشاط القضائي, فقد كان يأمر في بعض الأحيان بتشكيل محكمة خاصة, لنظر قضايا ذات أهمية بالغة, وفي أحيان أخري تكتفي المحكمة بالتثبت من ادانة المتهمين, ثم ترفع الأمر إلي الملك, الذي يقرر العقوبة المناسبة. ومن الحقائق المتواترة ايضا, ان الوزير كان يجمع إلي جانب اختصاصاته الإدارية المتنوعة اختصاصات قضائية, فقد كان دائما كبير القضاة, الذي يرأس محكمة الستة العليا, واعضاء هذه الحكمة كانوا يقومون بدور المستشارين, وينتخبون بين أعضاء مجلس العشرة العظيم. وقد وجد في عصر مبكر مثل عصر الأهرام, أن الوزير العادل( خيتي) قد صار مضرب الأمثال, بسبب الحكم الذي اصدره ضد اقاربه, عندما كان يرأس جلسة للتقاضي, كانوا فيها أحد الطرفين المتخاصمين. وفي تلك الآونة كان القانون يدون في كتب تودع في المحكمة العليا, وكان الملك يصرف للقضاة مرتبات تسد حاجتهم, بغية القضاء علي الرشوة والاختلاس, وفي عهد الأسرة الرابعة, نلاحظ ان كل امراء المقاطعات كانوا يحملون لقب قاض, مضافا إلي وظيفة حاكم المقاطعة, وكان القضاة يسمحون بالمرافعات من خلال مذكرات مكتوبة تقدم للقضاة, ومما نستطيع ان ننخلص إليه أن النظام كان حتي عهد الأسرة السادسة, يعتمد علي القوانين المدنية والجنائية, التي كانت في غاية الرقي, كما كانت قوانين الملكية والميراث قوانين مفصلة دقيقة, وكان الناس جميعا متساوين مساواة تامة امام القانون, ومن ثم كان النظام القضائي المصري, انذاك, لا يقل في شأنه عن نظام التقاضي المعقد في هذه الأيام. ولابد لنا من ملاحظة مبدئية هنا, وهي أن القضاء قد اختلفت نظامه باختلاف عصور التاريخ الفرعوني بالغ الطول, ومن ثم تخللته تقلبات وتغيرات عميقة ومن ذلك ان محاكم عصري الدولة الوسطي والحديثة, تختلف عن محاكم الدو ل القديمة, من حيث تشكيلها أو تسميتها, فبينما كان البيت الكبير يتكون بصفة دائمة من عدد من كبار الموظفين, اصبح بمثابة محكمة مكونة من اعضاء غير دائمين, يجتمعون علي هيئة محكمة العدل الكبري عند بوابة أحد المعابد, وقد احتفظ الوزير باختصاصه القضائي خلال هذين العهدين, وظلت محكمته هي المحكمة العليا في البلاد, لذلك كانت هناك مجالس محلية تتمتع باختصاص قضائي, وكانت تفصل في القضايا البسيطة. وذكر المؤرخ الشهير( ديودور الصقلي): ان عادة المصريين كانت تجري, بتنصيب افضل الرجال من افضل المدن قضاة عموميين, فكانوا ينتقون من هليوبوليس وطيبة ومنف عشرة قضاة, ويجتمع هؤلاء الثلاثون وينتخبون من بينهم رئيسا للقضاة, ثم ترسل مدينته قاضيا آخر ليشغل مكانه. وقد عرف المصريون انذاك نظام استئناف الاحكام الصادرة من احدي المحاكم أو احد القضاة امام محكمة عليا, كذلك عرفوا نظام المحاكم الاستثنائية التي لا تخضع في كيفية تشكيلها واجراءاتها إلي القواعد العادية, فقد لجأ الفراعنة لتشكيل محاكم خاصة للفصل في القضايا ذات الخطورة الجسيمة, وغالبا ما كانت تتعلق بمؤامرات لقلب نظام الحكم, ونستطيع ان نتوسع في هذه القائمة ونزيدها طولا, ذلك أن القضاء لم يكن حكرا علي الرجال وحدهم فقد اشارت الوثائق إلي أميرة عجوز في القرن الثالث والعشرين ق. م اشتركت في توجية القضاء. وفي عهد الدولة الحديثة, كان القانون في غاية العدالة وجرت العادة علي ان ينسخ في أربعين درجا برديا, ويوضع علي منضدة القاضي وقت انعقاد المحكمة للمراجعة وزيادة الإيضاح, وكان يسمح لكل شخص ان يقرأ القانون ويستجلي الغامض منه, وبلغ من نزاهة القانون ومنزلته عند المصريين ان افتخر الملوك بأنهم رجال القانون. وفي نهاية المطاف, حسبنا هذه العناوين, وفي كل عنوان ملحمة, تشدو بما حققته مصر في مضمار العدالة, سقناها كما وردت مسطورة علي اوراق البردي والنقوش علي جدران المعابد والمقابر, ونستطيع القول علي وجه اليقين, انه لم يحدث ان ازدهرت امور مصر, وتحقق لها الأمن والاستقرار, وشاع في ربوعها الرخاء, إلا في ظل كفالة امرين, الحفاظ علي ذاتية مصر وشخصيتها المميزة, والتزام الحاكمين قواعد العدالة والانصاف والمحبة في علاقاتهم بالمحكومين, العدالة التي هي ابتكار مصري صميم.