ارتفاع سعر السكر اليوم الجمعة 19 أبريل في مصر    إدارة بايدن تمنع مسؤوليها من التعليق على الضربة الإسرائيلية على إيران    الحامل تقدر ترقص للشهر الكام؟ فيفي عبده تكشف مفاجأة (فيديو)    محافظ قنا: بدء استصلاح وزراعة 400 فدان جديد بفول الصويا    «القومي للمرأة» ينظم عرض أزياء لحرفة التلي.. 24 قطعة متنوعة    مصطفى بكري: تعديل وزاري يشمل 15 منصبًا قريبا .. وحركة المحافظين على الأبواب    الأمم المتحدة: تقارير تشير لانتشار الأوبئة والأمراض بين الفلسطينيين في غزة    «التحالف الوطني» بالقليوبية يشارك في المرحلة ال6 من قوافل المساعدات لغزة    استشهاد امرأة فلسطينية إثر قصف طائرات إسرائيلية لرفح    «الجنائية الدولية» تنفي ل«الوطن» صدور مذكرة اعتقال بحق نتنياهو    كيف يعالج جوميز أزمة الظهيرين بالزمالك أمام دريمز بالكونفدرالية ؟    «ليفركوزن» عملاق أوروبي جديد يحلق من بعيد.. لقب تاريخي ورقم قياسي    مرموش يسجل في فوز آينتراخت على أوجسبورج بالدوري الألماني    عاجل.. مفاجأة في تقرير إبراهيم نور الدين لمباراة الأهلي والزمالك    البحث عن مجرم مزق جسد "أحمد" بشبرا الخيمة والنيابة تصرح بدفنه    أحمد فايق يخصص حلقات مراجعة نهائية لطلاب الثانوية العامة (فيديو)    التنمية المحلية: انتهاء كافة الاستعدادات لانطلاق الموجة الأخيرة لإزالة التعديات    تفاصيل اللحظات الأخيرة في حياة صلاح السعدني.. مات على سريره داخل منزله    أسرع طريقة لعمل الشيبسي في المنزل.. إليك سر القرمشة    حصل على بطاقة صفراء ثانية ولم يطرد.. مارتينيز يثير الجدل في موقعه ليل    افتتاح المؤتمر الدولي الثامن للأمانة العامة للصحة النفسية وعلاج الإدمان    محافظة الجيزة: قطع المياه عن منطقة منشية البكاري 6 ساعات    وزارة الهجرة تطلق فيلم "حلقة وصل" في إطار المبادرة الرئاسية "أتكلم عربي"    الحماية المدنية تسيطر على حريق في «مقابر زفتى» ب الغربية    إخماد حريق بمخزن خردة بالبدرشين دون إصابات    ضبط لص الدراجات النارية في الفيوم    الهنود يبدءون التصويت خلال أكبر انتخابات في العالم    مطار مرسى علم الدولي يستقبل 149 رحلة تقل 13 ألف سائح من دول أوروبا    التنسيق الحضاري ينهي أعمال المرحلة الخامسة من مشروع حكاية شارع بمناطق مصر الجديدة ومدينة نصر    مهرجان كان السينمائي يكشف عن ملصق النسخة 77    50 دعاء في يوم الجمعة.. متى تكون الساعة المستجابة    دعاء يوم الجمعة قبل الغروب.. أفضل أيام الأسبوع وأكثرها خير وبركة    11 جامعة مصرية تشارك في المؤتمر العاشر للبحوث الطلابية بكلية تمريض القناة    وزيرا خارجية مصر وجنوب أفريقيا يترأسان أعمال الدورة العاشرة للجنة المشتركة للتعاون بين البلدين    وزير الصحة يتفقد المركز الإفريقي لصحة المرأة ويوجه بتنفيذ تغييرات حفاظًا على التصميم الأثري للمبنى    حماة الوطن يهنئ أهالي أسيوط ب العيد القومي للمحافظة    إسلام الكتاتني: الإخوان واجهت الدولة في ثورة يونيو بتفكير مؤسسي وليس فرديًا    محاكمة عامل يتاجر في النقد الأجنبي بعابدين.. الأحد    مؤتمر أرتيتا: لم يتحدث أحد عن تدوير اللاعبين بعد برايتون.. وسيكون لديك مشكلة إذا تريد حافز    إعادة مشروع السياحة التدريبية بالمركز الأفريقي لصحة المرأة    بالإنفوجراف.. 29 معلومة عن امتحانات الثانوية العامة 2024    "مصريين بلا حدود" تنظم حوارا مجتمعيا لمكافحة التمييز وتعزيز المساواة    العمدة أهلاوي قديم.. الخطيب يحضر جنازة الفنان صلاح السعدني (صورة)    الكنيسة الأرثوذكسية تحيي ذكرى نياحة الأنبا إيساك    نصبت الموازين ونشرت الدواوين.. خطيب المسجد الحرام: عبادة الله حق واجب    انطلاق 10 قوافل دعوية.. وعلماء الأوقاف يؤكدون: الصدق طريق الفائزين    "التعليم": مشروع رأس المال الدائم يؤهل الطلاب كرواد أعمال في المستقبل    القاهرة الإخبارية: تخبط في حكومة نتنياهو بعد الرد الإسرائيلي على إيران    خالد جلال ناعيا صلاح السعدني: حفر اسمه في تاريخ الفن المصري    الصحة الفلسطينية: الاحتلال ارتكب 4 مجازر في غزة راح ضحيتها 42 شهيدا و63 مصابا    4 أبراج ما بتعرفش الفشل في الشغل.. الحمل جريء وطموح والقوس مغامر    طريقة تحضير بخاخ الجيوب الأنفية في المنزل    استشهاد شاب فلسطيني وإصابة اثنين بالرصاص خلال عدوان الاحتلال المستمر على مخيم "نور شمس" شمال الضفة    ضبط 14799 مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    اقتصادية قناة السويس تشارك ب "مؤتمر التعاون والتبادل بين مصر والصين (تشيجيانج)"    تعرف على موعد إجازة شم النسيم 2024 وعدد الإجازات المتبقية للمدارس في إبريل ومايو    ألونسو: مواجهة ريال مدريد وبايرن ميونخ ستكون مثيرة    دعاء السفر كتابة: اللّهُمّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عودة الحاكم
نشر في الأهرام المسائي يوم 08 - 08 - 2010

تسمو الدول وتتطور بالعلم والمعلومات الصحيحة‏,‏ ولما رأيت أن جهل معظم المصريين بتاريخهم سوف يؤدي إلي مفاهيم خاطئة‏,‏ قد تتفاقم وتتحول إلي سلوك متطرف يعوق التقدم‏,‏ تفرغت أكثر من أربع سنوات لإنجاز هذا الكتاب‏
لأن بعض المتصدين للكتابة إلي الناس أو المتحدثين اليهم ينطقون عن جهل أو سوء نية‏,‏ ويخلطون بين العقائد الخالدة وبين الأشخاص الفانين‏,‏ وهدفهم تأخر هذا الشعب العريق‏,‏ ففي تأخره رواج لبضاعتهم الفاسدة‏!‏
والتاريخ ذاكرة الأمة‏.‏ وكانت لمصر امبراطورية فرعونية قوية ثرية‏,‏ ضعفت بفساد الحكام‏,‏ وركونهم الي حياة الدعة والترف‏,‏ حتي تكون الجيش المصري من المرتزقة الأجانب‏,‏ الذين سيطروا علي البلاد بحكم السلاح‏,‏ فتمزقت البلاد إلي دويلات‏,‏ وكشف الأعداء سرها‏,‏ أي عرفوا الطريق الي احتلالها‏,‏ ووقعت مصر تحت استعمار طويل متعاقب لدول أقل منها حضارة‏,‏ من الفرس واليونان والرومان والعرب والفاطميين والأكراد الأيوبيين‏,‏ ثم المماليك فالأتراك العثمانيين وأخيرا الانجليز‏!‏
ومع استمرار المذلة والقمع‏,‏ فقد المصريون إحساسهم بالعزة القومية والاستقلالية‏.‏ قاوموا بعض الأحيان بإيجابية‏,‏ ومعظم الأحايين بسلبية‏,‏ من منطق أنهم باقون في بلادهم‏,‏ أما الطغاة فإلي زوال‏!‏
هذا الكتاب بجزء يه خلاصة آلاف الصفحات‏,‏ جميعها من المراجع الأمهات‏,‏ وحصيلة عشرات من الدراسات الحديثة الممتازة لبعض دارسينا الذين رجعوا إلي مصادر ومخطوطات ليست تحت يدي‏.‏ وقد انشأت هذا الكتاب من مقتطفات متتابعة من هذه المراجع النفيسة‏,‏ ولم انتقل منها إلي كتابات المعاصرين إلا لإيضاح ما خفي فهمه علي مؤرخي العصور الوسطي ولم أتدخل أنا إلا في القليل لربط أحداث أو إزالة غموض‏.‏
وجميع معلومات هذا الكتاب مسندة إلي مصادرها الأصلية المذكورة في نهاية كل جزء‏.‏ وقارئ مؤرخي العصور الوسطي يعاني من المغالاة والتعميم‏,‏كأن يقول أحدهم مثلا‏:‏ ثم حاربهم وقضي عليهم جميعا‏,‏ ويكون قصده أنه قتل الكثيرين منهم‏!..‏ ويعاني أيضا من اللغة المكتوبة بمفردات فصيحة وتركيبات عامية‏,‏ وقد تركت بعضها للحفاظ علي مذاق روح العصر‏.‏
وبسبب كثرة الألفاظ البائدة والأعجمية‏,‏ وغرابة الأسماء‏,‏ مثل‏:‏ طرنطاي‏,‏ يلبغا‏,‏ أشلون خوند‏,‏ أقجماس‏,‏ صرغتمش‏,‏ طشتمر‏,‏ وهو عينات سهلة‏,‏ اقتصدت في ذكر الشخصيات الهامشية بما لا يخل بالحقيقة التاريخية‏.‏
كما يكابد قارئ هؤلاء المؤرخين العظماء من جنوحهم الي صياغة التاريخ بأسلوب اليوميات‏.‏ فكان المؤرخ يبدأ الحادثة التاريخية المهمة‏,‏ ثم يترك إلي أحداث أخري منها ما هو خطير ومنها ما هو تافه‏,‏ ثم يعود إلي إكمال الحادثة التي بدأ بها‏,‏ بعد عشرات الصفحات أو في المجلد التالي‏!‏
ومن أمثلة المراجع الأساسية‏:‏ كتاب السلوك للمقريزي وهو أربعة أجزاء في اثني عشر مجلدا ضخما‏,‏ وخطط المقريزي في جزءين كبيرين‏,‏ والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي ومكون من ستة عشر جزءا تضمها عشرة مجلدات ضخمة‏,‏ وبدائع الزهور لإبن إياس وهو خمسة أجزاء في ستة مجلدات‏,‏ إلي جانب تاريخ الجبرتي ومراجع أخري عديدة‏.‏
ولا يقل أهمية عنهم العلماء الذين أفنوا حياتهم في تحقيق هذه المراجع وكتابة الهوامش الموضحة للأسماء والمهن والأزياء المنقرضة‏,‏ حتي ان الهوامش تشغل نصف المساحة تقريبا‏,‏ من هؤلاء الأساتذة الدكاترة‏:‏ محمد مصطفي زيادة‏,‏ محمد مصطفي‏,‏ سعيد عبدالفتاح عاشور‏,‏ سيدة اسماعيل كاشف‏,‏ حسن حبشي‏,‏ فهيم محمد شلتوت‏,‏ ابراهيم علي طرخان‏,‏ سعاد ماهر‏,‏ جمال الدين الشيال‏,‏ مصطفي السقا‏,‏ حسن ابراهيم حسن‏,‏ محمد كمال‏,‏ السيد محمد‏,‏ أحمد أمين‏,‏ علي مبارك‏,‏ فيليب حتي‏,‏ عبداللطيف حمزة‏,‏ حكيم أمين عبدالسيد‏,‏ محمد قنديل البقلي‏,‏ السيد محمد العزاوي وآخرون‏.‏ إلي هؤلاء الأفاضل وكثيرين أدين بالفضل‏.‏
والتاريخ في هذا الكتاب للسلاطين والملوك‏,‏ وقبل ذلك لحياة الناس وآثارهم المعمارية والأدبية والفنية وأزيائهم‏,‏ وارتباطهم بالمنطقة المحيطة‏,‏ ثم علاقتهم بأوروبا بعد أن تخلصت من المتاجرين بالدين‏,‏ وجعلت المسيحية للحياة الروحية‏,‏ وشئون الحياة العملية لأهل العلم والإدارة‏,‏ فقفز الغرب من الانحطاط والتخلف إلي ما هو عليه الآن من سيادة علي العالم‏.‏ فسادة الدنيا دائما هم سادة العلوم والابتكارات‏.‏ والمبدع لا يبتكر إلا في مناخ من الحرية الكاملة واحترام الرأي الآخر ويقدس المبادرة الفردية واحترام الملكات الشخصية‏.‏ العجيب في امر الحاكم بأمر الله انه بعد ثمانية قرون من وفاته كان مازال له اتباع ينتظرون عودته‏..‏ ونقرأ حكاية عن حادثة وفاته‏,‏ مستقاة من احد دروز لبنان‏,‏ في كتاب طريف صدر عام‏1851‏ م اسمه رحلة الي الشرق لصاحب الاديب الفرنسي جيرال دي نرفال‏,‏ الذي جاء الي مصر وكتب فصولا بديعة عنها‏,‏ ثم رحل الي لبنان سنة‏1843‏ م‏,‏ حيث كان الحكم العثماني جاثما علي انفاس المنطقة كلها‏,‏ وكان الدروز يثيرون القلاقل في وجه الباشا التركي هناك‏,‏ ويحتجون علي دفع الضرائب الباهظة‏.‏
اعتقل العثمانيون بعض رءوسهم‏,‏ منهم سيد الشيرازي‏..‏
وعندما وصل نرفال إلي لبنان التقي بابنة هذا الرجل واغرم بها‏,‏ وحاول التودد اليها عن طريق مساعدة والدها‏,‏ فسعي لدي الباشا التركي حتي زاره‏,‏ فوجده في مقتبل العمر‏,‏ عليه سمات النبل والرجولة‏,‏ يكاد يتقن اللغة الايطالية‏.‏
في البداية ظل سيد الشيرازي متحفظا في الحديث‏,‏ فلما رأي ان معلومات ضيفه الفرنسي عن العقيدة الدرزية مشوهة‏,‏ انطلق يشرح ويوضح‏.‏
كان نرفال مطلعا علي كتب التاريخ للمسعودي والمقريزي والنويري‏,‏ وبقية معلوماته مستقاة من كتب عربية ترجمت جزافا‏,‏ وكان الدروز حتي وقته يخفون كتبهم بعناية‏,‏ وكانت كتابات الغربيين في اثناء الحروب الصليبية خلطت بين الدروز وبين طائفة الاسماعيلية‏,‏ فالاسماعيلية عاشوا في كردستان ورئيسهم كان يسمي شيخ الجبل‏(‏ وسوف يأتي الحديث عنهم‏).‏ ولا علاقة له بأمير جبل الدروز في لبنان‏.‏
وهذا بعض ما سمعه نيرفال عن سيد الشيرازي‏:‏ ديانة الدروز هي آخر دين سماوي انزل‏,‏ وأن الله تجسد في امير المؤمنين وخليفة مصر والشام الحاكم بامر الله‏,‏ الذي تجمعت يوم مولده جميع الكواكب في برج السرطان‏,‏ وقاد زحل ذو الشره المجموعة ساعة مولده‏,‏ والذي كان له وجه اسد وصوت جهوري كالرعد‏.‏ ولم يكن احد يقدر علي مقاومة بريق عينيه ذات اللون الازرق القاتم‏.‏
إلا أنه رغم هذه الامكانات فشل في إقناع رعيته بعقيدته‏,‏ وعبثا أمر بإغلاق الكنائس والمعابد اليهودية‏,‏ وتغيير الصلاة في الجوامع‏,‏ وعبثا انشأ دورا للخطابة يشرح فيها اتباعه ديانته‏..‏ إلا أن المستقبل احتفظ له بشعب قليل من المؤمنين المخلصين الذين يعتقدون أنه سوف يظهر في وقت قادم‏,‏ وفي صورة جديدة‏,‏ ليحقق التفوق والسيادة لشعبه في كل مكان‏,‏ ذلك الشعب الذي سوف يخلف المسلمين والمسيحيين في العظمة والمجد‏.‏
طبقا لهذه العقائد‏,‏ فإن الحاكم بأمر الله هو الاله الأوحد واسمه في السماء البار‏,‏ يليه خمسة وزراء ينحدرون رأسا منه‏,‏ وهم جبريل وميكائيل وأسرافيل وعزرائيل ومتاترون‏(!).‏ ورموزهم الذكاء والروح والكلمة والسابق واللاحق‏.‏ وقد ظهر جبريل علي الارض سبع مرات‏,‏ آخرها في عهد المسيح باسم إليازار‏,‏ وكان هو المسيح الحقيقي‏,‏ أما الذي صلبه اليهود فهو كاذب ضحي بنفسه‏.‏
ثم ظهر جبريل في صورة سلمان الفارسي وكان هو الحقيقي‏,‏ ثم ظهر الخليفة الحاكم باسم حمزة كخليفة وإله ومؤسس حقيقي للديانة الدرزية‏.‏ ولاتوجد جنة للأخيار ولا نارا للاشرار‏,‏ فالثواب الطيب والتكفير عن الخطأ قائمان علي الارض بعودة الارواح الي اجسام اخري‏.‏ والجمال والغني والنفوذ تمنح للذرية المختارة‏.‏
أما غير المؤمنين فهم العبيد والمرضي‏,‏ والحياة الطاهرة تستطيع ان تعيدهم الي الطبقة التي انحدروا فيها‏,‏ ليحل محلهم الذين غرتهم الرفاهية من الزمرة المختارة‏,‏ وتناسخ الارواح فيهم يتم ببساطة‏:‏ فعدد الناس علي الارض ثابت لايتغير ابدا‏,‏ وفي كل لحظة يولد واحد ويموت واحد‏,‏ والروح التي تخرج تلتقط بطريقة مغناطيسية للجسد الذي يتكون‏,‏ ويقوم تأثير النجوم بتنظيم عملية تبادل المصير هذا بطريقة قدرية‏..‏ إلا ان الناس لايشعرون كما تشعر الارواح السماوية بعملية التناسخ هذه‏.‏
وحين يظهر المهدي يكون الدروز قد سيطروا علي جميع الممالك بفضل جدارتهم‏,‏ وتصبح باقي الشعوب مجرد دهماء‏.‏ والمهدي هو الحاكم بأمر الله‏.‏
وقد قابل نيرفال ليدي ستانهو وهي انجليزية نبيلة‏,‏ عاشت في بلاد الدروز وتشربت بأفكارهم‏,‏ ولبست ملابس الرجال‏,‏ الشرقيين‏,‏ وساحت في الشام ثم ادعت النبوة بين الدروز‏,‏ وظلت تحتفظ في فناء بيتها بجواد جاهز للمهدي المنتظر‏,‏ أي الحاكم‏,‏ علي امل ان ترافقه في انتصاراته‏,‏ وقد ماتت هذه المرأة واشتري جوادها احد شيوخ الدروز‏.‏
ويظن نرفال أن عقيدة الدروز ماهي الا تجميع لجميع الاديان والفلسفات السابقة‏..‏ لكنه يقول ان كل شئ في الشرق يتحول الي حكاية‏.‏ ثم يسجل قصة الحاكم كما سمعها من سيد الشيرازي الدرزي هكذا‏:‏
رواية الشيرازي‏:‏
علي الضفة اليمني للنيل‏,‏ وعلي مسافة قصيرة من ميناء الفسطاط‏,‏ وفي مكان لا يبعد كثيرا عن جبل المقطم‏,‏ كانت توجد قرية صغيرة تسكنها غالبية ممن يعتنقون مذهب الصابئة عباد النار والنجوم‏,‏ في مواجهة بر الجيزة حيث تلوح الأهرام من بعيد‏..‏
وفي الليل تبدد شعلات الصيادين ظلام الضفتين الكثيف‏..‏ وفي هذه القرية كانت توجد وكالة ذات جدران بيضاء تحيط بها أشجار الخروب‏,‏ وتحاذي شرفتها سطح الماء‏,‏ ولذلك يستطيع المحب للاستطلاع أن يري بسهولة من وسط النهر رواد هذه الوكالة‏,‏ وهم جلوس أمام مناضد صغيرة علي أقفاص من جريد النخل‏,‏ في كسل وذهول وضحكات بلا معني لا تصدر إلا من سكاري أو حشاشين‏!‏
وذات مساء أقبل زورق رسا عند أعتاب سلم تنغمس أولي درجاته في الماء‏,‏ وصعد منه صياد اسمه يوسف‏,‏ وجلس في مكان اعتاد الجلوس فيه‏.‏ في نفس اللحظة دخل من الباب المقابل‏(‏ من ناحية البر‏)‏ رجل في لباس صوفي أسود وقد غطي رأسه‏(‏ بخلاف المألوف‏)‏ بشعر طويل تحت طاقية‏,‏ جعلت ملامحه تشبه وجه الأسد‏,‏ وله عينان في لون الزرقة القاتمة مثل الزمرد الأزرق‏,‏ مخيفتان وساحرتان‏!‏
للتو شعر يوسف بميل خفي الي هذا الغريب‏,‏ فاقترب منه وقال‏:‏
يبدو عليك التعب أيها الأخ‏.‏ لا شك أنك قادم من مكان بعيد‏!‏
رد الغريب‏:‏
طريقي طويل‏,‏ وقد دخلت الوكالة للراحة‏,‏ لكن ما عساي أشرب هنا والمشروبات كلها محرمة؟‏!‏
أشار يوسف الي علبة مليئة بعجينة مائلة للخضرة‏,‏ وقد انغمس فيها مغراف صغير من العاج وهمس‏:‏
هذه العلبة تحتوي علي الجنة التي وعدها نبيكم للمؤمنين‏,‏ ولو لم تكن متزمتا لألقيت بك بعد ساعة بين ذراعي الحور‏..‏
أجاب الغريب وهو يبعد عنه الكأس الذي كان يوسف قد وضع فيها بعضا من العجينة؟
هذه العجينة هي الحشيش‏,‏ والحشيش محرم‏!‏
فقال يوسف‏:‏
إن كل ما هو ممتع محرم‏!‏
تمالك الغريب غضبه‏,‏ ومد يده يتذوق العجينة الخضراء ببطء ما هي الا لحظات حي ظهر مفعول الحشيش علي النديمين‏,‏ ارتخاء في الأطراف‏,‏ ابتسامات لا معني لها‏.‏ م تعالت الضحكات‏,‏ وانطلقت الأحاديث دون تحذر‏,‏
وكان التأثير مضاعفا علي الغريب لأنها كانت مرته الأولي‏,‏ وبدا كما لو كان نورا داخليا غامضا يطل من عينيه‏,‏ واكتست هيئته بهيئة فوق البشرية‏,‏ ثم استرخي مستسلما للكيف‏,‏ وسأله يوسف عن شعوره فقال‏:‏
إن الحشيش يجعلك شبيها بالله‏!‏
تحمس يوسف‏,‏ واعترف برؤيا عجيبة‏,‏ ذلك أنه كلما ترنح الي زورقه وأوغل في النيل لمح وجها أجمل من أي مخلوق يبتسم له في رقة‏,‏ فلا يدري ملاكا هي أم جنية؟‏!‏ أتجالسه الزورق أم تطفو معه علي النهر‏!!.‏ وذات ليلة أخذ جرعة أقل فأفاق وزورقه يمر برأسه جزيرة الروضة‏,‏ فإذا هناك امرأة تشبه فتاة حلمه المتكرر‏,‏ في عينيها بريق سماوي‏,‏ وخمارها المفتوح يظهر في ضوء القمر الأحجار الكريمة في ثوبها‏..‏ والتقت يده بيدها‏.‏ ومن ملمس خواتمها أيقن أنه لا يحلم‏!‏
هنا ظهر الاهتمام علي وجه الغريب وسأل‏:‏
تقول بالقرب من جزيرة الروضة؟‏!‏
لكن يوسف استمر في حلمه‏:‏
كان هذا الوجه السماوي أليفا عندي‏,‏ كأني رأيته في حياة سابقة‏,‏
وفي خشوع ركعت عند قدميها أبثها غرامي‏,‏ وكأني أحبها منذ الأزل‏,‏ ثم شعرت وكأن يديها تمتدان نحوي وقد تحولتا الي أشعة نورانية ثم أفقت من النشوة اللذيذة لأجد نفسي علي الضفة المقابلة للجيزة‏,‏ وقد اسندت ظهري الي شجرة نخيل‏,‏ والنهار علي وشك الطلوع‏,‏ وعبدي الاسود ينام في هدوء الي جوار الزورق الذي كان قد سحبه الي البر‏!‏
عاد الغريب الي استرخائه وقال‏:‏
هذا الحب لا يشبه الحب الأرضي في شيء‏.‏ أنا بدوري سوف أقص عليك ما لم أجرؤ حتي الآن علي الاعتراف به لنفسي‏.‏ وإن كانت عاطفتك مستحيلة فعاطفتي مروعة‏,‏ أنت تحب جنية أما أنا فأحب وسوف ترتعد لذلك أحب أختي‏,‏ والغريب أنني لا أشعر بأي ندم لهذا الميل غير الشرعي‏.‏
لم يتلوث حبي بعد بأي دنس دنيوي‏,‏ فليست الشهوة هي التي تدفعني نحو أختي‏,‏ انه ميل لا يمكن وصفه‏.‏ وفكرة اقترانها برجل تقززني كما لو كان في الأمر خرق للدين‏.‏ إن بها شيئا سماويا ألمحه من خلال أغطية الجسد‏,‏ انها قرينة نفسي السماوية‏,‏ والعذراء التي كتبت لي منذ الأزل‏!‏
وبينما هما في حديثهما الذي يقرب من الهذيان‏,‏ كان رواد الوكالة قد استلقوا بطول الأرائك‏,‏ وساد الهدوء بعد ضحكات الغيبوبة‏.‏ وبدأ تأثير المخدر يزول عنهم تدريجيا‏,‏ ثم دخل رجل عليه مهابة الكهان‏,‏ تتدلي لحيته فتغطي ثوبه الطويل‏,‏ وقال بصوت رنان‏:‏
أيها الأخوة انهضوا‏,‏ قرأت السماء الآن فوجدت الوقت ملائما لتضحية ديك أبيض أمام أبي الهول‏!‏
فنهض الصابئون لتلبية رغبته‏,‏ وإذا الغريب يتغير لونه ويزأر فيهم‏:‏
زنادقة كفرة عباد أصنام‏!‏
ساد الصمت‏,‏ لكن الشيخ تقدم منه في رفق‏:‏
أي ضرر تجده أيها الأخ في التضحية بديك طبقا للشعائر؟‏..‏ إذا لم تكن مؤمنا بمعتقداتنا فما الذي أتي بك الي هنا؟‏!‏ هل أنت من أتباع عيسي أم محمد؟‏!‏
‏....‏
إذن أنت علي دين زرادشت تقدس النار ؟
‏....‏
من تعبد إذن؟‏!‏
إنني لا أعبد أحدا‏.‏
إزاء هذا الخبل انقضوا عليه يريدون الفتك به‏,‏ لولا أن انقذه يوسف ودفع به الي الزورق‏,‏ الي وسط النهر بعيدا عن الخطر‏,‏ وقبل أن ينزل الغريب الي البر نزع خاتما من أصبعه قدمه ليوسف قائلا‏:‏
في أي مكان تصادفني فيه ما عليك إلا تقديم هذا الخاتم فأحقق لك ما تريد‏,‏ كان هذا الغريب هو الحاكم بأمر الله‏,‏ وقد جذبه الي يوسف أنه يشبهه الي حد كبير‏,‏ وبعد بضعة أيام خرج من قصره كالمعتاد متجها الي مرصد المقطم علي ظهر حمار يرافقه عبد وحيد أبكم‏,‏ وكان الناس قد ألفوا منه ذلك‏,‏ ويعرفون أنه يقرأ النجوم‏,‏ مثل العزيز والده والمعز جده‏,‏ وكان الحاكم بعد أن يطمئن من النجوم علي سلامته‏,‏ يبدل ملابسه وملامحه وينزل الي المدينة في تنكره ليختلط بالناس ويتعرف علي الأسرار‏(‏ وكان في تنكره حين دخل وكالة الصابئة‏).‏
وذات يوم وجد الناس بالطرقات غاضبين لأن مخازن الغلال فارغة‏..‏ وكانت مجاعة شديدة طاحنة تهدد الشعب المصري منذ بعض الوقت‏,‏ والأمل متوقف علي وصول
قمح الصعيد‏!..‏ وبينما الحاكم يتأمل ذلك الغضب‏,‏ تقدم منه شيخ في ملابس شامية طالبا منه أن يعطيهم الخبز‏,‏ فدهش وظن أن الشيخ عرفه رغم التنكر‏,‏ لكنه كان ضريرا‏!!‏ وقال الشيخ‏:‏
أنقذهم لأنك وحدك القوة ووحدك الحياة ووحدك الإرادة‏!‏
أتظن أن في مقدوري خلق القمح هنا للتو؟‏!‏
قال الضرير‏:‏
إن الشمس لا تضئ من خلال السحب‏,‏ والسحابة التي تغطيك في هذه اللحظة هي الجسد الذي تنازلت ودخلت فيه‏,‏ وهذا الجسد يتحرك بقوة البشر‏!!‏
ذهل الحاكم لكنه تماسك محدثا نفسه بأن هذا الشيخ قادم من بلاد الحكمة وقد عرفه وتحدث معه بالرموز‏,‏ بأنه صورة الله وعليه أن يعاقب المستغلين كما يعاقبهم الله‏!..‏ فتوجه الي القاهرة المدينة الملكية‏,‏ وأمر رئيس الحراس أبا عروس وجلاده باتباعه‏,‏ وعاد قاصدا قطع رأس كل خباز مستغل‏,‏ وأمسك أحدهم وأمر بقطع رقبته‏!‏
في هذه اللحظة افترق يوسف عن الجمع واندفع نحو الحاكم‏,‏ وقدم له الخاتم مستشفعا للخباز‏,‏ فعفا عنه الحاكم‏,‏ وهمس لأبي عروس‏,‏ الذي صاح في الناس بأن السيف معلق الي الغد‏,‏ وعلي كل خباز أن يبيع الخبز كل عشرة أقات بدينار‏,‏ وكانت الأقة الواحدة قد بيعت بدينار‏!‏
ظن يوسف أن صاحبه يعمل في القضاء محتسبا‏(‏ أي مراقب أسعار‏)‏ وانصرفا بعد ذلك الي وكالة الصابئة‏,‏ وانتحي يوسف بصاحبها ورجاه أن يتغاضي عن سلوك صديقه في المرة السابقة‏,‏ ثم جلسا وتعاطيا جرعة المخدر‏..‏ إلا أن الخليفة كانت تسيطر عليه فكرة ثابتة قاومت المخدر فانصرف الي قصره‏..‏
ودخل من باب سري‏,‏ عابرا سراديب مظلمة‏,‏ بين دهشة الحاشية لعودته قبل طلوع النهار كعادته‏,‏ وتوجسوا خيفة لأن شره مفاجئ ومروع وبغير ما سبب ظاهر‏,‏ واذا به يندفع حيث أخته ست الملك‏,‏ وسط ارتياع خصيانها ووصيفاتها‏.‏ وكانت جالسة فوق الوسائد‏,‏ في قاعة فاخرة مقببة‏,‏ ملونة الجدران‏,‏ والنوافذ‏,‏ بوسطها نافورة مرمرية‏,‏ وكانت أجمل بنات عصرها‏..‏
فلما رأته دهشت‏,‏ وكان شاحبا مثل عفريت مجسد‏!‏
اقترب منها بنظرة نفاذة وقال في حسم‏:‏
يا ست الملك‏,‏ لقد فكرت في تزويجك ليس هناك من هو جدير بك‏,‏ دمك الملكي لا يجب أن يختلط بدم آخر‏,‏ سأكون أنا الحاكم والخليفة وسيد السماء والأرض‏,‏ زوجا لك‏..‏ وسوف يتم الزواج في خلال ثلاثة أيام‏,‏ وتلك هي إرادتي المقدسة‏!‏
ثم تركها مذهولة الي مضجعه حيث هزمه المخدر فنام
ما إن أفاقت من ذهولها حتي استدعت الوزير الأكبر برجوان وقصت عليه ما حدث‏,‏ وكان في مثابة والدها‏,‏ وصيا علي المملكة في حداثة الحاكم الذي ارتقي العرش وهو في الحادية عشرة‏.‏ وشاركها الوزير الذهول والخوف علي الامبراطورية‏,‏ وقال‏:‏
جن أمير المؤمنين‏,‏ إنه مصيبة أخري تضاف إلي المجاعة‏,‏ آمل عندما يستيقظ أن يكون ذلك الضلال قد انقشع‏!‏
وكان الخليفة منذ تولي حانقا علي السلطة الكبيرة التي كانت للوزير‏,‏ وكان يصادف معارضة من العلماء والموظفين أتباع برجوان‏.‏ وما كانت جولاته الليلية إلا هربا من هذه الوصاية وللحكم علي الأشياء بنفسه‏.‏ وهو عندما استيقظ متأخرا نهار اليوم التالي وجد في انتظاره العلماء ورجال القضاء والوزير‏,‏ ووجدهم يتكلمون في كل شيء الا المجاعة التي ترهق الناس‏.‏ فأسكتهم معلنا أنه قرر قطع رءوس جميع الخبازين الجشعين‏!..‏ فنهض أحد الشيوخ وقال بصوت تذكره الحاكم‏:‏
يا أمير المؤمنين‏,‏ عفوت بالأمس عن أحدهم‏,‏ هو ضحية يشتري الدقيق بسعر غال‏.‏ والأجدر أن تعاقب من يبيعون له بالأسعار القادمة‏,‏ وهم الملتزمون والعلماء أنفسهم الذين يملكون أكواما منه في ديارهم‏!‏
صاح الحاكم آمرا‏:‏
سأخرج الليلة ومعي رئيس الحرس والجلاد‏,‏ وعندما أدخل مدينة مصر أريد أن أري القمح أمام بيت كل ملتزم وكاشف وعالم‏,‏ والذي لا يفعل فصلت رأسه عن جسده‏!‏
وانصرف ولحق به الوزير محاولا إثناءه عن عزمه‏.‏ فقال له الحاكم‏:‏
وأنا طفل أسميتني سحلية‏,‏ والآن صارت السحلية تنينا‏!‏
وعندما نزل قبل العشاء‏,‏ وجد الطرقات مزدانة له بالأنوار‏,‏ وقد أمسك الناس بالشموع مرحبين به لظهور القمح ونزول سعره إلي الحد الطبيعي‏.‏
عاد إلي القصر سعيدا وبحث عن الوزير فلم يجده‏.‏ فبدل ملابسه‏,‏ وصعد الي مرصده بالمقطم‏,‏ واستطلع النجوم فوجد زحل كوكبه شاحبا معتما‏,‏ بينما المريخ‏(‏ القاهر‏)‏ الذي منح اسمه للقاهرة متوهجا ببريق أحمر يعتبر نذير حرب وخطر‏!‏
ثم توجه إلي وكالة الصابئة في تنكره‏,‏ فوجد صديقه يوسف يتأمل مياه النيل المنخفضة التي تنذر بالمجاعة‏,‏ سأله إن كان يفكر في حبيبته فقال‏:‏
إنني حتي لا أعرف من هي‏.‏ ولم أصادف زورقها الذهبي منذ رياح الخماسين‏!..‏ وهل أجرؤ لو قابلتها أن أسألها من تكون؟‏!‏
ثم انغمسا معا في غيبوبة المخدر‏,‏ وشرد كل واحد في تهويماته‏.‏ لكن فجأة التفت الحاكم صائحا‏:‏
إبليس إبليس‏!!‏
كان عند الباب قد ظهر الوزير برجوان وهو يأمر رجاله بالقبض علي جميع الكفرة الحشاشين‏.‏ وعندما استعاد الحاكم بعض حواسه صاح في الوزير‏:‏
يا شيطان‏,‏ بحثت عنك لقطع رأسك‏,‏ إني موقن أنك أنت سبب المجاعة‏,‏ وأنك وزعت احتياطي صوامع الدولة علي أتباعك‏..‏ اركع الآن أمام سيدك أمير المؤمنين يا لص‏!‏
قال الوزير لعسكره بابتسامة باردة
هذا المسطول يظن نفسه أمير المؤمنين‏,‏ خذوه الي المارستان‏!‏
وكان يوسف قد انتهز الفرصة وتسلل هاربا إلي زورقه‏.‏
في الصباح استيقظ الحاكم ليجد نفسه مسلسلا في زنزانة مظلمة داخل المارستان الذي كان يشبه السجن الكبير‏.‏ وأدرك أن أحدا لن يصدق أنه الخليفة متنكرا في زي فلاح‏,‏ خصوصا أن خمسة بالمبني زعم كل واحد منهم أنه الخليفة‏,‏ إلي جانب عدد من الآلهة‏!!‏
ولما حانت زيارة الطبيب كان في صحبته الطبيب المشهور الريس إبن سينا الذي حضر زائرا من الشام‏.‏ حاول الحاكم أن يشرح له القضية فظنها ابن سينا تخيلات حشاشين‏,‏ وقال لزميله‏:‏
قلت دائما إن نبات القنب الذي تصنع منه عجينة الحشيش هو نفس ذلك العشب الذي قال عنه أبقراط إنه يسبب للحيوانات نوعا من الهوس يدفعها الي إلقاء نفسها في البحر‏!‏
ثم انصرفا‏.‏ وطال حبس الحاكم حتي إنه شك في ألوهيته‏!..‏ والعجيب إن المخبولين من حوله كانوا يحترمونه‏!..‏ والأعجب من ذلك أن أخته ست الملك أتت ذات يوم في زيارة خيرية كعادة أهل الملك‏,‏ ومرت علي جناح المخبولين وهي محجبة‏,‏ إلا أن الحاكم عرف صوتها‏,‏ واغتاظ وهي تراه وتتجاهله‏,‏ والوزير يشير اليه ويقول لها‏:‏
هذا المخبول الذي يشبه أخاك الخليفة‏,‏ ولكثرة ما سمع أنه صورة طبق الأصل منه تخيل أنه هو‏,‏ ثم زعم أنه إله‏,‏ مع أنه فلاح أضاعت المخدرات عقله‏!!‏
بمرور الأيام زاد احترام جناح المخبولين له‏,‏ كذلك نزلاء عنبر المجرمين المجاور‏,‏ الذين تحدث معهم وعرف ظروفهم‏,‏ فوجد أن الجهل والبؤس وراء كل مأساة‏,‏ ومنهم عرف خبايا المجتمع‏,‏ وسمع عن ألاعيب المرابين والمحتكرين‏,‏ وكيف أنهم يتساندون ويتعاونون ويتصاهرون‏,‏ ويتحكمون في الأسواق راشين ومرتشين‏,‏ حتي صاروا سادة في وقت الرخاء وفي وقت المجاعة‏,‏ وكل ذلك علي حساب شعب لا يجد ضروريات الحياة‏,‏ ونتيجة تحكم الوزير برجوان طيلة وصايته علي الحكم‏!‏
ثم انتشرت في المارستان إشاعة أن جيوش الأعداء دخلت مصر حتي عسكرت في سهل الجيزة‏,‏ وأن الكبراء والعلماء والتجار استعدوا لتسليم المدينة خوفا علي ثرواتهم‏,‏ وأن خلفاء بغداد سوف تعود هيمنتهم علي مصر‏,‏ فلما اجتمع المسجونون لصلاة العشاء كالعادة‏,‏ خطب الحاكم فيهم وصارحهم بحقيقة أمره‏,‏ والعجيب أنهم صدقوه وهتفوا له‏!..‏ فقاد بهم ثورة حطمت أسوار السجن رغم مقاومة الحراس‏,‏ وذهبوا الي المدينة‏,‏ فوجدوا الناس في حالة رعب من الجيوش المعادية‏,‏ لذلك فرحوا لما وجدوا الحاكم بينهم‏,‏ واندهشوا في نفس الوقت لأنهم كانوا قد سمعوا أنه يقود قواته في الحرب ضد المعتدين عند سفح الهرم‏!!‏
خطب الحاكم في الغوغاء ورفاقه المجانين صائحا‏:‏
يا شعبي هذا يومكم‏,‏ ضعفت النفوس حتي صارت الفضيلة جريمة والحكمة جنونا والمجد عارا‏,‏ صار كل شيء يسير ضد العدالة والحقيقة‏,‏ أدينوا ما ترونه من ترف خداع وفضائل كاذبة وخيانة باعتكم للعدو‏,‏ أشعلوا النار في هذه المدينة لتطهروها‏!!‏
ما هي الا لحظات حتي اشتعلت الأسواق والدور‏,‏ وسلب الغاضبون قصور الأثرياء‏.‏ ودام الحرق والنهب ثلاثة أيام‏,‏ وحاول برجوان ورجاله مقاومة المساجين والغوغاء فنشر إشاعة أن الحاكم الموجود بالشوارع مزيف وأن الحقيقي علي رأس جيش في سهل الجيزة‏!!..‏ بينما صعد الحاكم الي مرتفعات القرافة‏,‏ والمخربون يحملون اليه معارضيه فيحكم بقطع رءوسهم وسط الهتافات‏,‏ إلي أن أصيب برجوان بحربة وقطعت رأسه فتوقفت المقاومة‏,‏ وقيل إن برجوان عندما سقط صريعا رأي المخبولون إبليسا يخرج من جسده الي الجو‏!!‏
كان نصف المدينة قد احترق‏,‏ فتجمع الأشراف في المساجد ورفعوا المصاحف مستجيرين‏:‏ يا حاكم‏,‏ يا الله‏..‏ فامتطي حماره الرمادي وجاب المدينة مبشرا بزمن الأمن والتسامح‏.‏ وأعفي النصاري من حمل الصليب الخشبي‏,‏ واليهود من حمل القرمة الثقيلة‏..‏ ثم أراد تهيئة العقول لتقبل دينه الجديد‏,‏ فأنشأ دار الحكمة للتبشير بألوهيته‏,‏ ومع ذلك لم يصدقه إلا القليل‏.‏
يواصل نرفال رصد ما سمعه من الدرزي سيد الشيرازي‏:‏ هكذا عاد الخليفة الي قصر الحكم‏,‏ وأمر أخته ست الملك أن تتأهب للزواج منه‏,‏ علي أن يكون الأمر سرا حتي لا يثير غضب الشعب الذي لم يقتنع بألوهيته‏,‏ وفي المساء صعد الي المقطم يرصد النجوم‏,‏ فوجد تجمعات مشئومة منذرة بموت قريب‏,‏ ولما كان مؤمنا بخلوده فهو لم يأبه لهذه التهديدات الفلكية المتعلقة بجسده الفاني الذي هو من التراب وإلي التراب‏!‏
لكن لما عاد الي القصر مبكرا رأي ما لم تصدقه عينه‏,‏ رأي قصر ست الملك سابحا في الأضواء المعلقة فوق الأشجار‏,‏ ومياه النافورات تتلألأ‏,‏ والراقصات يرقصن في أزهي ثياب بين عشرات الشمعدانات الفضية‏,‏ وآلات الموسيقي تعزف الأنغام‏!‏
اقترب متسللا من خلف ستار ولم يصدق نفسه‏,‏ رأي في أقصي المكان ست الملك تجلس علي أريكة في أبهي زينتها‏,‏ وإلي جوارها رجل غارق في اللآليء والماس‏,‏ وكأنه هو الخليفة نفسه أو توءمه‏,‏ أمسك بالخنجر ليقتل هذا الغريب أو القرين‏,‏ لكن قوة غريبة شلت يده‏,‏ فانسحب في بطء بعد أن ومضت عيناه ببريق مرعب‏!!‏
انسحب من باب سري وذهب الي الشاطيء وجلس مبللا‏,‏ وإذا صديقه يوسف يأتي‏,‏ ملاحظا لأول مرة التشابه بينه وبين الحاكم الذي لم يكن متنكرا‏!..‏ فقال مندهشا‏:‏
كما لو كنا توءما‏,‏ ربما كنا من منطقة واحدة‏,‏ أنا ولدت تحت سفح جبل أطلس في كتامة بالمغرب وسط البربر والقبائل‏,‏ فمن أين أنت أيها الصديق؟‏!‏
أجدادي كذلك من هذا البلد‏,‏ وربما كنا من قبيلة واحدة‏,‏ ولكن ما أهمية ذلك؟‏!‏ إن صداقتنا ليست في حاجة الي روابط الدم‏,‏ لماذا لم أرك منذ أيام؟‏!‏
قال يوسف وهو مازال يجهل شخصية صاحبه الحقيقية‏:‏
منذ أن فاجأتنا الشرطة في الوكالة وتفرقنا‏,‏ عدت التقي من جديد علي النيل بالجميلة الساحرة‏,‏ وكأنها رؤيا مذهلة‏..‏ وذات يوم أخذتني إلي حدائق رائعة وقاعات فاخرة‏..‏ وحركت بعبارات سحرية إحدي قطع البلاط‏,‏ وأنزلتني الي الكهوف الحاوية لكنوزها‏,‏ وقالت لي إنها ستكون لي لو كان لدي الحب والشجاعة‏,‏ ورأيت هناك فيلة من البللور الصخري وأشجارا من الذهب فوقها طيور مرصعة بالأحجار الكريمة‏,‏ وأكواما من الكافور‏,‏ وخياما من القطيفة‏,‏ ويواقيت ولآليء معبأة في قرب‏!‏
قال الحاكم‏:‏
هذا أيها الأخ لا يمكن أن يكون إلا في قصر الخليفة‏!‏
كنت أجهل ذلك‏,‏ لكني حدست أن فتاتي الرائعة إحدي قريبات السادة‏..‏ ومنذ ساعات حينما وصلت إلي مكان لقيانا المعتاد‏,‏ تلقاني العبيد وأعطوني حماما ثم ضمخوني بالعطور‏,‏ وألبسوني من الثياب ما لا يمكن أن يكون إلا للحاكم نفسه‏...‏ وكانت المدينة الملكية مضاءة بالأنوار‏,‏ كما لو كان هناك عرس‏,‏ وسمحت لي محبوبتي بالجلوس إلي جوارها‏,‏ وبعد وقت شحب لونها وهمست في رعب‏:‏ لقد ضعت‏,‏ فخلف الستار رأيت بريق العينين‏,‏ الزرقاوين اللذين لا يرحمان‏,‏ هل تحبني بالقدر الذي يجعلك تموت من أجلي؟‏....‏ فأكدت لها إخلاص‏..‏ فأمرتني بأن أكون مساء الغد عندها‏!!‏
الآن فهم الحاكم ما كان يظنه مستحيلا‏,‏ وتعجب لأنه لم يغضب‏,‏ ست الملك لم تذنب برفضها زواجا تعتبره خطيئة‏,‏ ويوسف الفقير لم يخطيء عندما أحب امرأة يجهل حقيقتها‏,‏ وفي لحظات صفاء قرر أن يبارك زواجهما‏.‏
في الموعد المحدد كان يوسف يتأمل جمال حبيبته‏,‏ التي أخبرته بأن الحاكم ينوي قتلها‏,‏ وإذا كان يوسف يحبها‏,‏ ويريد الزواج منها فعليه أن يقتله‏,‏ فوافق دون أن يعرف أنه صديقه‏,‏ وشرحت له الخطة وأعطته خنجرا مغربيا‏,‏ وعبدين لمساعدته‏,‏ ولقتله إذا حنث بوعده‏!‏
في هذه الليلة أمر الحاكم رئيس حرسه أبا عروس الذي يقوم بالحراسة الليلية مع ألف رجل بأن يغلق أبواب القاهرة عدا واحد فقط‏,‏ يفتح حين عودته من مرصده‏,‏ ثم امتطي حماره من عند الخصي نسيم سايس الباب‏,‏ وخرج يتبعه خادم وعبد شاب‏,‏ وفوق الجبل نظر إلي النجوم وضرب كفا بكف وقال‏:‏ ظهرت يا مشئوم‏..‏ ثم قابل الفرسان الذين طلبوا مساعدته فأرسل معهم خادمه لمنحهم بعض الهبات ثم اتخذ طريق المقابر يسار المقطم‏,‏ وهنا انقض عليه ثلاثة رجال بخناجرهم‏,‏ وما إن تلقي أول ضربة واستدار حتي رأي أحدهم ملامحه في ضوء القمر‏,‏ وعلي الفور استدار يدافع عنه ضد الآخرين‏,‏ حتي سقط بجوار الخليفة وهو يصيح‏:‏ أيها الأخ‏!..‏ كان يوسف‏!..‏
وتلك هي القصة التي رواها العبد الهارب من المذبحة لأبي عروس‏,‏ ولكن ما إن وصل الحراس إلي مكان الجريمة لم يجدوا إلا ملابس ملطخة بالدماء وحمار الخليفة المسمي قمر‏,‏ وقد قطعت عراقيبه‏!‏
إلي هنا انتهت حكاية سيد الشيرازي‏,‏ فسأله نرفال عن مصير الجثتين فأجاب‏:‏ إن ذلك لا يدخل في معتقداتنا‏,‏ لقد كانت النجوم تعد الحاكم بحياة تبلغ ثمانين عاما إذا استطاع الفرار من خطر تلك الليلة‏27‏ شوال‏411‏ ه‏.‏
وظل المصريون يقولون إنه لم يمت‏,‏ والتقطه شيخ مجهول وعاش‏,‏ وكان قد تعب من العرش‏,‏ فانسحب إلي صحراء أمون‏,‏ وكون نظريته التي نشرها فيما بعد تلميذه حمزة‏,‏ أما المؤمنون به فقد انسحبوا إلي لبنان وكونوا شعب الدروز‏.‏
‏*‏ حواديت الشرق‏:‏
قال نرفال‏:‏ إن كل شيء في الشرق يتحول إلي حكاية‏..‏ وذكر إسم الوزير برجوان‏:‏ أرجفان‏...‏
أما الصابئة‏:‏ فهي كلمة آرامية معناها التطهر‏,‏ وتطلق علي فرقتين‏,‏ الأولي صابئة حران الذين عاشوا زمنا في الاسلام‏,‏ وكانوا وثنيين‏,‏ وهم الذين ورد اسمهم في القصة‏,‏ والثانية أتباع يوحنا المعمدان الذي بشر بقدوم المسيح‏,‏ ورد ذكرهم في القرآن ثلاث مرات ضمن أهل الكتاب‏,‏ ويحرصون علي تطهير أنفسهم من دنس الشهوات‏,‏ ويحرمون الختان والطلاق وتعدد الزوجات‏,‏ ويؤدون ثلاث صلوات يوميا ولغتهم السريانية‏.‏
والأعداء الذين وصلوا إلي سفح الأهرام هم أتباع أبي ركوة الأموي‏,‏ وكان استولي علي برقة ولعن الحاكم وآباءه ووصل إلي بر الجيزة‏,‏ لكنه هزم وقتل وصلب‏.‏
وكان الحاكم علي علم بجولات أخته الليلية في قاربها الملكي بترعة الخليج‏,‏ وربما لأجل هذا أمر بسد أبواب وطاقات البيوت المطلة علي الترعة‏!‏
وفي أواخر عصر الحاكم ظهر دعاة يبشرون بدين جديد وبتأليه الحاكم‏,‏ وبفكرة التناسخ والحلول‏,‏ من بينهم الأخرم وإسماعيل الدرزي الذي تنتسب اليه طائفة الدروز‏!..‏ وكان الحاكم قد قتل جميع من كان لهم فضل علي أسرته‏:‏ ابن جوهر الصقلي فاتح مصر لهم‏,‏ زعيم قبيلة كتامة الذي اعتمد عليها الفتح‏,‏ برجوان الوصي عليه ومدبر دولته‏,‏ ابن القاضي النعمان صديق جده المعز‏,‏ وأكبر داعية لعقيدتهم‏..‏ واشترط حتي قتل لمجرد اللهو المأساوي‏..‏ وكان في عيد الاضحي ينحر الأضحية بيده‏!‏
ويقول محمد عدنان‏:‏ إن قرار هدم كنيسة القيامة صدر في سطر واحد‏:‏ خرج الأمر بهدم قمامة فاجعل سماها أرضا وطولها عرضا‏,‏ فهدمت وجميع الكنائس الملحقة بها‏,‏ واستمر موقعها مزارا يحج إليه النصاري‏,‏ ويتألمون حتي أعيد بناؤها بعد ثلاثين عاما‏..‏ هذا القرار كان من أسباب الحروب الصليبية لإنقاذ القبر المقدس‏.‏
وسنة‏403‏ أمر الحاكم بهدم جميع الكنائس‏,‏ فاستمر الهدم ثلاث سنوات هدمت فيها ثلاثون ألف كنيسة وديرا‏,‏ منها كنائس وأديرة أثرية فاخرة‏,‏ وأمر من تبقي من النصاري علي دينه بأن يهاجر إن أراد‏,‏ فذهب القادرون إلي بيزنطة‏..‏ لكنه قبيل اغتياله بعد سنوات من الاضطهاد أعلن عطفه علي النصاري ورد حقوقهم وتجديد ما كان هدمه‏!‏
وكان منعه النساء من دخول الحمامات العمومية‏,‏ ظلما فاحشا لهن‏,‏ لأن المنازل وقتها لم تكن بها حمامات خاصة‏..‏ وقد حرم الجرجير لأنه ينسب إلي السيدة عائشة‏,‏ وحرم الملوخية لأنها كانت محببة عند معاوية‏,‏ وحرم المتوكلية لأنها تنسب إلي الخليفة العباسي المتوكل‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.