جاءت فترة ما بعد حرب أكتوبر لتعود السينما المصرية إلي انتعاشها السابق وتزخر أفلام تلك الفترة برياء الغرض منه مداهنة السلطة الجديدة فكثرت أفلام المعتقلات وزوار الفجر مثلما كان الحال مع أفلام الجيش في فترة الثورة قبل النكسة حتي الهزلية منها, هذا بالرغم من ظهور بعض الأفلام الجادة التي كانت تعالج تلك المرحلة مثل( الكرنك ومن قبله زائر الفجر وعلي من نطلق الرصاص) ولكن تلتها مسوخ سينمائية كان الغرض منها مداهنة السلطة والاستفادة من نجاح الاعمال السابق ذكرها. وانتشرت الأفلام الموجهة لسوق الخليج التي كانت في صعود وازدهار كبير من بعد الدخول في الحقبة النفطية وظهرت سينما المقاولات التي كانت في معظمها موجهة لسوق الفيديو أكثر منها لسوق السينما, ولكن مع بداية الثمانينيات وبالتحديد أكثر من بعد حادث المنصة والسماح ببعض المحظورات الرقابية التي كانت موجودة من قبل وبالتحديد في مجال السياسة( بالرغم من أن العهد الساداتي كان يطنطن بنغمة الحرية ألا أن ذلك كان في مجال حرية نقد النظام السابق فقط, وعند الدخول في نقد النظام الساداتي نفسه ولو بشكل غير مباشر كانت تعلو الأصوات بنغمة قديمة تم استدعاؤها من التاريخ الخاص للسينما المصرية, ألا وهي سمعة مصر وتشويه وصورة مصر, وما كان يقال عن أفلام بدر وإبراهيم لاما والتلمساني استخدم لمهاجمة فيلم مثل المذنبون لسعيد مرزوق وهو ما استتبعه تشديد رقابي). سمحت تلك الانفراجة الرقابية بظهور سينما جديدة وأفلام جديدة ومخرجين جدد معظمهم من خريجي معهد السينما أمثال داود عبد السيد وخيري بشارة وعاطف الطيب وشريف عرفة وآخرين مثل محمد خان ورأفت الميهي كان معظمهم من الذين عاشوا نكسة67 وأثرت في وجدانهم وحاولوا تقديم تلك النوعية من السينما التي لم يكتب لجماعة السينما الجديدة الاستمرار في تقديمها. كان هذا بمثابة اختراق نوعي للسينما ونماذج السينما السائدة والتي كان يعتمد علي كسرها بين الحين والآخر فقط علي محاولات لمخرجين متميزين من الأجيال السابقة مثل صلاح أبو سيف ويوسف شاهين. في ظل هذا ردد البعض أن سينما الثمانينيات الجادة وجدت لظروف خاصة متمثلة في قدوم منتج عربي( حسين القلا) بحجم كبير من الأموال لإنتاج مثل تلك النوعية من الأفلام لأسباب سياسية, ووصل البعض لاتهام تلك السينما( علي لسان حسام الدين مصطفي أحد رموز الحرس القديم) بأنها السبب في انحسار جمهور المشاهدين عن التوجه للسينما في فترة التسعينيات ووصمها بأنها كانت مؤامرة علي السينما المصرية. وقد قدمت سينما الثمانينيات وأوائل التسعينيات العديد من الأفلام السينمائية التي أطلق عليها البعض واقعية جديدة للتفرقة بينها وبين واقعية الستينيات التي كان رائدها صلاح أبو سيف, لتتناول السينما المصرية شخصيات المهمشين من سكان المدينة, والتي أعطت لهم سينما الثمانينيات دور البطولة وقد كان هذا أمرا نادر الحدوث( ألا مع قناوي يوسف شاهين). كانت سينما الثمانينيات واوائل التسعينيات تعبيرا حيا عن الطبقة المتوسطة من سكان المدن التي بدأ دورها في التراجع مع التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي ألمت بالمجتمع المصري وصعود طبقات جديدة السلم الاجتماعي في المجتمع, رصدت تلك السينما التحولات الحادثة في مجتمع المدينة وتزايد حجم الطبقات المهمشة والطبقات العاملة الرثة وانتشار الفساد في أفلام مثل( للحب قصة أخيرة حكايات هند وكاميليا الحريف الكيت كات أهل القمة يوم حلو ويوم مر وغيرها من الأعمال). كل تلك الأعمال تركزت علي حياة المدينة والعاصمة بالتحديد لتكون مواكبة لإهمال الأقاليم من قبل السلطة المركزية وبداية الهجرة المكثفة للعاصمة التي جعلت العاصمة المصرية تضم بين جوانبها ثلث سكان مصر. شهد منتصف التسعينيات انحسارا في الإنتاج ولكنه في نفس الوقت كان ملازما لحدثين من أهم الأحداث التي ستتسم بها السينما المصرية حتي وقتنا الحاضر أولهما كان نجاح فيلم إسماعيلية رايح جاي, والذي كان بمثابة إعلان بدء سيطرة الكوميديا علي شباك تذاكر السينما وتسيدها علي كل أنواع السينما الأخري, أدي هذا لقناعة جميع العاملين في الحقل السينمائي ولمدة طويلة بعد ذلك بعودة السوق المصرية لتصبح هي المصدر الرئيسي لأرباح ومكاسب السينما المصرية, وانتهت سيطرة السوق الخارجية والموزع الخارجي. ثانيا قامت الدولة بسن قوانين لصالح التكتلات الكبيرة في مجال الإنتاج السينمائي والاستثمار في صالات العرض فبدأت السوق المصرية تشهد العديد من الشركات التي تقتسم السوق الداخلية فيما بينها في الإنتاج والتوزيع وصالات العرض للفيلم المصري ليعلن موت سينما المنتج/ المبدع سواء كان ممثلا أو سينمائيا وأصبحت الكلمة العليا لرأس المال وبالذات عندما لم تبق السينما المصرية علي نظام النجوم بشكله المعتاد وأصبحت مرتبة نجم الشباك منحصرة في نجم أو نجمين من نجوك الكوميديا( يزاحمهم الآن مطرب العواطف تامر حسني) والباقي من العاملين في مجال السينما يتبادلون مراكزهم مثل لعبة الكراسي الموسيقية( تلمع نوعية أفلام الحركة التي يقدمها أحمد السقا فيتم إنتاج أفلام حركة بمصطفي شعبان وأحمد عز, وحدث ولا حرج عن نجمات الجنس اللطيف اللاتي أصبحن جزءا مكملا للبطل لا تعلق واحدة منهن في ذهن المتفرج لمدة طويلة). المهم أن جميع من يعملون في مجال السينما اليوم أدرك إدراكا كاملا أن جمهور السينما الذي يشكل الجزء الأعم من المترددين علي شبابيك التذاكر هم الشباب في المرحلة العمرية(15 27) وأن الطبيعة الفكرية والثقافية لهذا الجمهور ليست هي جمهور السبعينيات من الحرفيين الذين زادت دخولهم نتيجة للتضخم أو جمهور الثمانينيات الذي كان حتي تلك الفترة مازال يملك مشتركا جماعيا أو حتي رغبة في القصاص من الطبقات المسيطرة في المجتمع من خلال مشاهدة فيلم يفضحهم, فيقوم الفيلم بفعل ما لا يفعله المشاهد في الواقع الفعلي وبسهولة وبدون أي خسائر, ولعل ذلك كان سببا من أسباب نجاح أفلام عادل أمام في الثمانينيات وبداية التسعينيات نجاحا باهرا. لكن الجمهور الجديد هو جمهور يدخل السينما كوسيلة للهروب من الواقع الأليم الذي يعيشه الشباب لايريد أي حلول ولا مواقف بل يريد امضاء فترة من الوقت فيها من الهزل أكثر من الجد وفيها قصص مراهقات ومراهقين تدور في أماكن براقة علي السواحل وفي القري السياحية المهم لايكون هناك أي طرح لموقف جماعي أو لمشكلة اجتماعية, فلم يعد هناك نجم يرتبط به الجمهور لمدة طويلة ولا مطرب فكل تلك الأشياء يتم استهلاكها كالوجبات السريعة, وبالتالي ليست هناك رسالة أو موقف يمكن تبنيه أو التأثر به من باب أولي تلك الحالة من سينما نسيان الواقع وتركز ايرادات السينما في صالات المدينة وظهور سينما المول جعل السينما المصرية تستنسخ الأفلام من بعضها البعض لتعم سينما الكوميديا الهزلية وسينما الحركة وطلقات الرصاص, وحتي تيارات السينما الرومانسية المروية بماء الورد والمخصصة لنوعية معينة من المراهقين ظهرت مع بعض الأفلام لتختفي سريعا مثل الشهب المحترقة. في ظل هذا الجو العام المسيطر علي السينما المصرية والواقع في الكثير منه تحت تأثير السينما الأمريكية التجارية سواء عبر سرقة الأفلام وتحويلها, أو اقتباس روح العنف وحوادث السيارات, بل حتي عبر أسلوب الإخراج المماثل لتصوير الفيديو كليب في العديد من الأفلام... اختفي مفهوم الاستقلال ولم تظهر أفلام مخالفة لتلك النوعية إلا بصعوبة شديدة مع أفلام مثل بحب السيما أو عبر عودة الدولة للإنتاج السينمائي عبر منح وزارة الثقافة. تجسد مفهوم الاستقلال عن السينما السائدة من جديد مع التقدم التكنولوجي و ظهور سينما الديجيتال التي كانت محاولات للبعض للتعبير بشكل مختلف عبر وسيط مختلف حتي لو كانت في البداية وفي معظمها أفلام قصيرة لا تعرض في صالات العرض ولكنها كانت قطرة أول الغيث. [email protected]