كيف نفسر هذا السلوك الاجتماعي الغريب والذي لم يسبق ان سلكه المحامون في حل مشكلاتهم مع النظام او في صراعاتهم الداخلية؟ المنطقة السكنية الرائعة والتي تمثل الجنة علي الارض فيها: مطار للطائرات الخاصة, واسطبلات للخيول, وملاعب جولف! ليس هناك من شك أننا في مجال الأزمة الحادة التي نشبت بين المحاميين ووكلاء النيابة والقضاة امام حالة جماعية نادرة من الغضب الشديد والغوغائية المتطرفة التي تمثل سلوكا منحرفا لابد من تقصي أسبابه. ويكفي ان نشير الي موقفين الموقف الاول تجمهر ثلاثة عشر الف محام قدموا من كل المحافظات ومحاصرتهم لمحكمة طنطا اثناء نظر القاضي في قضية اعتداء المحاميين علي وكيل النيابة كما تقول الرواية الرسمية او اعتداء وكيل النيابة علي المحاميين كما تقول نقابة المحامين. الاف المحامين يحيطون بالمحكمة والهتافات الصاخبة تدوي ومن بينها الهتاف الشهير الذي يحور حسب المناسبات نفديك بالروح بالدم يا محاماة! ونعش رمزي يمثل العدالة التي ماتت. كل ذلك والقاضي يجلس ليحكم. وكيف يحكم هذا القاضي بهدوء وروية وبنفس مطمئنة والمحكمة محاصرة في انتظار حكمه, وحين يصدر الحكم بحبس المحاميين لمدة خمس سنوات وهو الذي اشعل غضبا لا حدود له في صفوف المحامين المحتشدين اضطر القاضي الي الخروج من الباب الخلفي للمحكمة بعد ان ترك الحكم لسكرتير الجلسة كي يعلنه! المنظر الثاني عشرات المحامين يندفعون بلا عقل ولا روية لكي يقتحموا مكتب المحامي العام لنيابات طنطا ويحطموا اثاثه ويحتجزوه ثلاث ساعات ويحاولوا الاعتداء الجسدي عليه! ما هذه المناظر العجيبة والاحداث غير المسبوقة؟ وما هي دلالات هذا السلوك المهني المعيب من قبل المحامين وعلي رأسهم نقابتهم التي ادارت المعركة مع القضاة بغوغائية نادرة؟ وكيف نفسر هذا السلوك الاجتماعي الغريب والذي لم يسبق ان سلكه المحامون في حل مشكلاتهم مع النظام او في صراعاتهم الداخلية؟ هناك اجوبة متعددة لعل اولها حالة الاحتقان السائدة في المجتمع المصري بشكل عام, والتي يبدو فيها ان الكل ضد الكل! اختلطت الاوراق وضاعت المعايير وتدهورت القيم وغابت المساءلة واندثرت المحاسبة! وصرنا كأننا في غابة الحكم فيها للأقوي! حالة عامة من حالات غياب القيم والمعايير سبق لعلم الاجتماع ان وصفها واعطي لها تسمية خاصة هي الانومي Dnomie أي غياب الفروق بين ما هو مشروع وما هو غير مشروع, لان معايير الحكم علي السلوك اختلت. خذ علي سبيل المثال حالات الفساد الصارخة التي اعلن عنها رسميا في الفترة الاخيرة. ونبدأ بحكاية اراضي السليمانية. احد المستثمرين اقطع ثلاثة آلاف فدان لاستزراعها في السليمانية بسعر خمسين جنيها للفدان علي ان يتولي هو تدبير موارد الري. الرجل لم يحترم التعاقد مع الهيئة المسئولة وحولها فورا الي منتجع وبني فيها الفيلات الفاخرة وباعها لاصحاب المال والنفوذ. واستطاع بذلك ان يبيع الفدان بخمسة ملايين جنيه وهو الذي اشتراه بخمسين جنيها! لأمر ما يتم الان تحقيق في الواقعة وقيل ان لجنة ما اسمها لجنة المصالحات في مجلس الوزراء تبحث الموضوع وان هناك اتجاها لكي تحكم علي المستثمر بأن يدفع في الفدان مائة الف جنيه مع انه باعه بخمسة ملايين جنيه؟ مخالفة للعقد واعتداء علي القانون وتواطؤ بين رجل الاعمال واهل السلطة واخيرا حل ضد القانون يضمن للمنحرف ان يضفي الشرعية علي انحرافه بعد ان تربح مئات الملايين من سلوكه المنحرف! واقعة فساد اخري بالغة الغرابة! وهي متاجرة عدد من اعضاء مجلس الشعب بقرارات العلاج علي نفقة الدولة! والوقائع هنا لا مثيل لها في اي بلد في العالم! عضو مجلس شعب حصل علي قرارات علاج علي نفقة الدولة تقدر كما نشرت الصحف بأربعمائة مليون جنيه!! نفقات علاج علي نفقة الدولة الموجهة لعلاج الفقر!ء ومتوسطي الحال منحت في إجراء عمليات تجميل وتخسيس في مستشفيات استثمارية! تواطؤ صريح بين مسئولين في وزارة الصحة, واعضاء مجلس شعب وعدد من المستشفيات الخاصة! ما كل هذا الفساد الفاضح! لقد أحال الدكتور احمد فتحي سرور الملف الي النائب العام بعدما وصلت تحريات الاجهزة الرقابية وتأكدت جرائم التربح من المال العام في حق ثمانية اعضاء علي الاقل من اعضاء مجلس الشعب يتوزعون بين الحزب الوطني الديمقراطي والجماعة المحظورة ونعني جماعة الاخوان المسلمين! واخطر من كل ذلك قرارات يصدرها رئيس مجلس الوزراء شخصيا لأشخاص بعينهم للعلاج علي نفقة الدولة مع انها لإجراء عمليات تجميل! ما كل هذا الفساد؟ ومع ذلك هذا بعض من كل! لأن الفساد استشري في قطاعات عديدة في المجتمع. ومن شأن هذا ان تختل المعايير الاخلاقية في المجتمع وتضيع الفروق بين الحلال والحرام وبين المشروع وغير المشروع, وتتأكد القيمة الفاسدة التي تقول انت كمواطن تقيم بما تملكه من اموال بغض النظر كيف حصلت عليها! بل انك لوحصلت عليها بالرشوة او بالاختلاس او التربح او بالفهلوة فأنت ستهنأ علي ذلك من قبل افراد المجتمع الذين نظرا لغياب المعايير سيعتبرون ذلك فهلوة وشطارة! المهم كما تقول العبارة السوقية الدارجة ان تعملهم ! أي تراكم الاموال بأي طريقة وتظهر في المجتمع وكأنك من رجال الاعمال الشرفاء. اصحاب المشاريع العقارية العملاقة, والخبير في بناء المنتجعات التي تباع فيها الوحدة السكنية بالملايين! واستأذن القراء في هامش سريع حتي لو انقطع سياق المقال! نشر اعلان عن منطقة اسمها ميراج سيتي تباع فيها الفيلا الواحدة بسبعة واربعين مليونا من الجنيهات! وحين بحثت المزايا من اجل المعرفة وليس طبعا من اجل الشراء! وجدت التالي: المنطقة السكنية الرائعة والتي تمثل الجنة علي الارض فيها: مطار للطائرات الخاصة, واسطبلات للخيول, وملاعب جولف! وهكذا عزيزي القاريء لو اشتريت مثلا هناك تستطيع ان تهبط بطائرتك الخاصة, حيث تجد اسطبلات الخيل في انتظارك وملاعب الجولف الشهيرة طوع يمينك! اعترف بأنني حين غرقت في حالة من حالات التفكير العميق فيما اصاب المجتمع المصري في السنوات الاخيرة من جنون استهلاكي لا سابقة له, ومن سلوكيات تثير التعجب لأعضاء النخب البارزة من الاثرياء الذين حصلوا علي ثرواتهم اساسا نتيجة للفساد المستشري, لا استغرب من سلوكيات الطبقات.. الاجتماعية الاخري المحدقة التي تنفجر غضبا وسخطا كل يوم, نتيجة الاوضاع الاجتماعية المطلوبة, والذين يندفعون الي الغضب القادم في مواجهة مشكلات كان يمكن حلها في اطار تطبيق دقيق لقواعد القانون. لقد استغرقني الحديث عن الفساد وتجلياته الغربية في مصر المحروسة, وحين طالعت بداية المقال ادركت انني كنت بصدد الحديث عن اسباب السلوك الغوغائي للمحامين في حادثة طنطا الشهيرة, وادركت انه لا يمكن تفسير هذا السلوك بغير المواجهة المباشرة مع ظواهر الفساد الذي افسد العلاقة بين الدولة والمجتمع, واضاع هيبة القانون, وادي الي صراعات لا حدود لها بين افراد المجتمع. منتجعات تقام في كل مكان تحيطها اسوار من حديد لا تسمح لغير اصحاب وحداتها السكنية المليونية بان يدخلوهابسلام آمنين! وعشوائيات يتسع نطاقها في كل مكان مباح دخولها والالتحاق بها لأي مواطن! وطبقة وسطي مطحونة بين المنتجعات والعشوائيات! حسبنا الله ونعم الوكيل!