يمكن القول إن الاتجاه السائد في مصر الآن, هو السعي للانتقال التام من السلطوية الي الليبرالية الكاملة وهكذا انتهت فجأة المسيرة الليبرالية المعلنة للدكتور البرادعي, والذي بالرغم من أنه منذ البداية غازل جماعة الإخوان المسلمين وادعي أنهم أكبر حزب في البلاد هناك اتفاق بين علماء السياسة علي أن التحول الديموقراطي كمفهوم أساسي يعني في المقام الأول التحول من السلطوية الي الليبرالية. ونحن نعرف في ضوء نظريات علم الاجتماع السياسي أن هناك تصنيفا ثلاثيا للنظم السياسية, مبناه أنها نظم شمولية وسلطوية وليبرالية. والنظام الشمولي بحسب التعريف يقوم علي أساس أن الدولة غالبا ممثلة بحزب واحد تتبلع المجتمع المدني! بمعني سيادة القهر السياسي المعمم, وعدم إعطاء فرصة المبادرة لأي مؤسسة سياسية أو اجتماعية بعبارة أخري ينعدم وجود المجتمع المدني. أما في النظام السلطوي فإنه يهيمن أيضا علي مقدرات المجتمع, ولكن عادة ما يكون هناك هامش للحركة, بحيث يتاح لبعض المؤسسات أن تكون لها بعض المبادرات. ويبقي أمامنا النظام الليبرالي الذي يتميز بالحرية السياسية وحرية السوق معا. بعبارة أخري لاهيمنة للدولة علي الحركة السياسية, لأنه عادة ماتسود التعددية الحزبية وتمارس الانتخابات بصورة دورية نزيهة, ويتم تداول السلطة في ضوء نتائج الانتخابات. أما في الجانب الاقتصادي فإن الدولة لاتتدخل في إدارة الاقتصاد علي المستوي القومي, وإنما تترك الحرية كل الحرية للسوق, علي أساس أنها تستطيع أن توازن نفسها ذاتيا معتمدة في ذلك علي آلية العرض والطلب. ومن المعروف أن النظام السياسي المصري منذ ثورة يوليو1952 هو نظام سلطوي, بحكم سيطرة الدولة في عهد الثورة علي الحركة السياسية في المجتمع بعد إلغاء الأحزاب السياسية عام1954, واعتمادها علي حزب سياسي واحد, كان هو الاتحاد القومي في فترة ما,ثم تحول ليصبح الاتحاد الاشتراكي. ومن هنا يمكن القول إن حركة المجتمع المدني كانت مقيدة في هذه المرحلة التاريخية. ولم يبدأ تغيير ملامح النظام السلطوي في مصر إلا بعد تولي الرئيس السادات الحكم وإلغائه للاتحاد الاشتراكي, وتغيير النظام السياسي تغييرا جوهريا بالانتقال من السلطوية إلي الليبرالية المتدرجة, إذ سمح بقيام المنابر أولا ثم سمح بقيام تعددية حزبية وإن كانت مقيدة. وهكذا نشأت أحزاب سياسية تمثل اليمين والوسط واليسار. ويمكن القول إنه في عصر الرئيس مبارك زادت معدلات الحراك السياسي في اتجاه مزيد من الليبرالية. وتمثل هذا الحراك أساسا في التعديلات الدستورية والتي كان أكثرها جسارة هو إلغاء انتخاب رئيس الجمهورية. عن طريق الاستفتاء, وتحويل الانتخابات الرئاسية لأول مرة إلي انتخابات تنافسية تجري بين مرشحين متعددين. وتمت بالفعل أول انتخابات رئاسية في ضوء هذا النظام انتخب فيها الرئيس حسني مبارك لفترة ثانية جديدة. ومن مؤشرات الحراك السياسي المتصاعد في مصر في السنوات الأخيرة حرية الإعلام غير المسبوقة في تاريخ مصر الحديث. فقد نشأت صحف ومجلات مستقلة وحزبية متعددة, وكذلك قنوات فضائية. وهذه الوسائل الإعلامية جميعا تمارس حرية النقد السياسي بغير أي حدود. كما أن حق التظاهر والإضراب أصبح يمارس لأول مرة علي نطاق واسع, والشاهد علي ذلك أن فئات اجتماعية متعددة قامت باحتجاجات جماهيرية متعددة في قلب القاهرة ولم يتعرض لها الأمن بالرغم من حدوث تجاوزات متعددة من بعد أدت إلي منعهم حفاظا علي الأمن العام. وقد أثارت بعض التعديلات الدستورية اعتراضات شتي من قبل أحزاب المعارضة وخصوصا المادة76, والتي اعتبر أنها وضعت شروطا تعجيزية تمنع المستقلين من الترشح لمنصب رئيس الجمهورية وكذلك المادة التي تعطي رئيس الجمهورية الحق في أن يحكم بدون سقف زمني محدد. ويمكن القول إن الاتجاه السائد في مصر الآن, هو السعي للانتقال التام من السلطوية الي الليبرالية الكاملة. وتقف دون ذلك في الواقع عقبات شتي أبرزها رفض بعض عناصر الحزب الوطني الديموقراطي الحاكم للتحول الكامل إلي الليبرالية لأسباب متعددة, وضعف أحزاب المعارضة السياسية, وتدني الثقافة الديموقراطية في البلاد. غير أنه يمكن القول إن المزاج العام السائد في البلاد يميل الي التغير الليبرالي, ويرنو إلي تعددية سياسية حقيقية,تؤدي ولو في المدي الطويل إلي تداول السلطة. هذا هو المناخ السياسي الذي ظهر فيه الدكتور البرادعي بتصريحاته الغامضة أولا,ثم بتحركاته بعد ذلك والتي وصلت ذراها بتكوين الجمعية الوطنية للتغيير برئاسته, والتي تشكلت بناء علي ضغوط شديدة من قبل مجموعة من النشطاء السياسيين الذين لاتجمعهم وحدة إيديولوجية واحدة,بل يتوزعون بين اليمين والوسط واليسار, وهم خليط من الشخصيات السياسية, بعضهم شخصيات معروفة, وبعضهم الآخر لايزيدون علي كونهم نكرات سياسية ليس لهم أي ماض سياسي معروف, ولكن غرتهم فكرة الظهور المتكرر في وسائل الإعلام وشغل مناصب وهمية في جمعية التغيير. دعوة الدكتور البرادعي للتغيير لم تكن جديدة, بل لقد كانت شعار كل القوي السياسية في مصر قبل وصوله للقاهرة, ولكن وجوده وتصريحاته أعطت زخما لاشك فيه لشعارات التغيير, بالرغم من زعم بعض أنصاره أنه بمثابة المسيح المخلص الذي سيحل اللغز السلطوي وينقل البلاد الي ضفاف الليبرالية الكاملة! وسرعان ماتبينت الحقيقة وهي أن البرادعي ليس إلا عابر سبيل سياسي إن صح التعبير لأنه ليس لديه وقت يعطيه لتحقيق تجربة سياسية متكاملة يشارك فيها الجماهير عملية التغيير التي بشر بها. وعبر مسيرة متعثرة سادتها التصريحات المراوغة للبرادعي التي مالت مرة إلي اليمين ومرة أخري إلي اليسار, انفجرت الجمعية الوطنية للتغيير بعد رفض البرادعي تأجيل سفرياته والبقاء في القاهرة, للإشراف علي ثورة التغيير التي بشر بها. واستقال المنسق العام والمتحدث الإعلامي إعلانا عن نهاية الجمعية,ثم مالبثا أن عادا من جديد, بعد تصريحات مبناها أن الجمعية الوطنية للتغيير ستستمر بغير البرادعي. وبدأ البرادعي مسيرته بطريقته منفردا بعد تخلصه من عبء أنصاره الذين كانوا يريدون منه التزاما واضحا وخطة محددة. وقرر بدون مقدمات الارتماء في أحضان الإخوان المسلمين, وهكذا تحول فجأة من الليبرالية, إلي الإيديولوجية المتطرفة لجماعة الاخوان المسلمين والتي تتعارض تعارضا واضحا مع الليبرالية لأن مشروعها يقوم أساسا علي إقامة الدولة الدينية, والتي تقوم علي الفتوي وليس علي التشريع, في إطار الدولة المدنية التي يحكمها دستور وضعي. والحق أن منظر البرادعي في زيارته للفيوم كان طريفا بعد أن انفض عنه أنصاره الذين تلاعب بهم وراوغهم فترة طويلة, ورفض فرع الجمعية الوطنية في الفيوم استقباله. غير أنه بناء علي اتفاق سري عقده مع جماعة الإخوان المسلمين قاموا بتنظيم حشد لاستقباله لايقل عن ثلاثة آلاف شخص, وهتفوا له وكأنه المرشد العام للإخوان المسلمين! وهكذا انتهت فجأة المسيرة الليبرالية المعلنة للدكتور البرادعي, والذي بالرغم من أنه منذ البداية غازل جماعة الإخوان المسلمين وادعي أنهم أكبر حزب في البلاد, إلا أنه لم يتوقع أحد أن يتحالف معهم رسميا ويزورهم في مقرهم للتنسيق. والسؤال التنسيق حول ماذا؟ هل حول المشروع السياسي للإخوان المسلمين الذي سبق أن أعلنوه من قبل, وهو إقامة دولة دينية في مصر عن طريق تشكيل مجلس أعلي للفقهاء تعرض عليه قرارات رئيس الجمهورية وقرارات المجالس النيابية؟ سؤال سيظل معلقا لأن الدكتور البرادعي الذي حير الناس بمواقفه المتقلبة له خطة وهي التجول بين الأحزاب السياسية المصرية, وإطلاق تصريحات مراوغة لاتكشف بالقدر الكافي عن هويته السياسية الحقيقية! والحق أن مغامرة الدكتور البرادعي التي لم تكتمل فصولا, هي فصل من فصول أعاجيب السياسة المصرية المعاصرة!