"اليوم توقفت المطابع وجفّ الحبر وقريبًا لن يُصدر الورق حفيفًا"، بهذه العبارة أنهت صحيفة الإندبندنت البريطانية إصدارها الورقي والاكتفاء بإصدار رقمي بعد أن انخفضت نسبة توزيعها من 450 ألف نسخة في اليوم إلى 40 ألفًا فقط. وقد نشر صحفيون ب"الإندبندنت" التي تأسست قبل نحو 300 عام صورًا على مواقع التواصل الاجتماعي تظهر العاملين يقرعون على الطاولات وهو تقليد يستخدم لتوجيه التحية عند رحيل أحد الزملاء، ولم يكن هذا الأمر بالسهل علي محرري الصحيفة العريقة. لا شك أن الصحافة الورقية قطعت شوطًا طويلا وبنجاح في مجال الإعلام لأكثر من ثلاثة قرون ولكن يبدو أن شرعيتها التاريخية لن تشفع لها في أن تستمر على ممر السباق، وذلك لعدة أسباب ظهرت علي السطح الإعلامي تنافس وبقوة. أصبحت الشاشات تنافس الأوراق والأحبار، ودخل معها متسابق جديد منذ فترة ليست ببعيدة في نطاق التنافس وهي المواقع الإلكترونية. في البداية كان النداء المشهور في الشوارع هو نداء بائع الصحف (أخبار- أهرام- جمهورية) ومع الوقت أصبح المنادي مضطرًا أن يزيد بعض الأسماء إلى العمالقة الثلاثة وبدأ الصراع الورقي-الورقي. ففي نهاية التسعينات وما بعدها بدأت تظهر صحف خاصة يومية وأسبوعية تنافس الصحف القومية ولم تكن منافسة بمعني الكلمة فقد كانت تجربة أقرب من أن تكون منافسة، ومع الوقت شجع ظهور مثل هذه التجارب صحفًا أخرى لخوض التجربة، وبدأت فكرة التحول من الصحف الأسبوعية إلى يومية تنتشر شيئا فشيئا، حتى أصبح أمامنا طابور هائل من الصحف حتى بلغت -بحسب إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء حتى 2013 - 80 صحيفة فى مقابل 81 صحيفة لعام 2012 بنسبة انخفاض قدرها 1.2%، وبلغ عدد النسخ الموزعة للصحف داخليا وخارجيا 758.2 مليون نسخة لنفس العام مقابل 646.4 مليون نسخة لعام 2012 بزيادة قدرها 17.3%. وبعد أن كانت المنافسة بين الصحف منافسة ورقية -ورقية دخلت عناصر أخرى في مضمار التنافس مما أثر بشكل كبير علي شكل ومحتوى وانتشار الصحافة الورقية، فقد دخلت الفضائيات وبقوة إلى عالم المنافسة وشاركها أيضا المواقع الالكترونية فأصبحت المنافسة (ورقية- فضائية- إلكترونية). يري البعض أن نزيف الصحافة الورقية لم يقتصر على مصر فقط، ولكنها أصبحت مشكلة عالمية. فعلي سبيل المثال في أمريكا قل الإنفاق على الصحف بشكل كبير بعد أن قلت الإعلانات التي تحصل عليها الصحف من 46 مليون دولار عام 2003 ل 23 مليون دولار عام 2011. الصحفي الفرنسي برنار بوليه ألف كتابًا بعنوان "نهاية الصحف ومستقبل الإعلام" وصدر في 221 صفحة متوسطة القطع . وفي تلخيص للعوامل التي ذكرها برنار بوليه وقال إنها تضر بالإعلام الورقي تزايد في سلطة الانترنت. *انخفاض في الميزانيات الإعلانية للصحف التقليدية واتجاهها نحو وسائل الإعلام الإلكترونية. *عدم اهتمام جمهور الشباب بالمطبوع، وتغير أنماط التفكير والقراءة لدى مجتمع المعرفة. * انتصار ثقافة الحصول المجاني على كل شيء، وهذه هي الثورة التي تعصف بالصحافة المكتوبة في كل مكان. وأوضح برنار بوليه قائلا "أما ديمقراطية الإنترنت فقد فرضت فرزا للإعلام من جهة معلومات غنية للأغنياء منتقاة ومنظمة ومحققة ومن الجهة الأخرى معلومات فقيرة للفقراء مجانية وسريعة ومكررة لكنها آلية وخاضعة للعمليات الحسابية لأباطرة الإنترنت الذين يقدمون خدمات مجانية تسمح لهم بتسجيل بيانات كل مستخدم للشبكة وتستشف ما يبحثون عنه ومن ثم تحقيق المكاسب. تفاعلات جذرية جمة يمر بها عالم الإعلام الذي يتغير نحو آفاق أخرى قد تصيب بالذعر." فيما يقول الخبير العالمي روس داوسون المعروف بتخصصه في تقديم قراءات استشرافية للمستقبل أن الصحافة الورقية على سبيل المثال سوف تنقرض أو على أقل تقدير سوف تفقد قيمتها في المستقبل، وبنسب وأطر زمنية متفاوتة حيث توقع أن تكون الولاياتالمتحدةالأمريكية هي أول دول العالم التي تتحقق فيها هذه النبوءة بحلول العام 2017 . وأضاف "أما عن بريطانيا فستبدأ الصحافة في الاختفاء تدريجيًا بحلول عام 2019 وفي عام 2020 ستختفي من ايرلندا والنرويج وفي فرنسا وبسبب الدعم الحكومي فالصحافة الورقية ستصمد حتى عام 2029 وستبدأ في الاختفاء من ألمانيا بحلول عام 2030" وتابع "أما عن الدول العربية فيتوقع داوسون أن دولة الإمارات ستكون من أولى الدول العربية التي ستتخلى فيها الصحافة الورقية التقليدية عن مكانتها لصالح الإلكترونية بحلول العام 2028، وذلك نتيجة لمجموعة من العوامل من بينها الاستخدام الهائل للإنترنت في الدولة وتزايد أعداد مستخدميها بالنسبة لعدد لسكانها تتبعها المملكة العربية السعودية بفارق ست سنوات أي في العام 2034 بينما تنبأ أن تفقد الصحافة المطبوعة قيمتها وتأخذ طريقها نحو الانقراض الكلي في أغلب دول العالم اعتباراً من العام 2040". ويعتبر وقف صحيفة "لويدز ليست" البريطانية مؤثر علي غروب الصحافة الورقية، والتي تبعها عدة صحف أخرى بريطانية كان آخرها "الإندبندنت". "لويدز ليست" التي تأسست عام 1734 وبعد 280 عامًا من الصدور اكتفت الصحيفة في العام 2013 بإصدار الكتروني لها وإلغاء النسخة الورقية بعد هذه السنوات الطوال . وإن كانت بعض الإصدارات الورقية لم تتحول إلى الكترونية إلا أنها قامت بتقليص أرقام توزيعها وإلغاء آلاف الوظائف وتسريح عدد كبير من العاملين فيها بينها صحف واسعة الانتشار مثل "شيكاجو تربيون" و"بوسطن جلوب" و"لوس أنجلوس تايمز" وحتى مجلة "تايم" الأمريكية الشهيرة طالتها التغييرات أيضاً. وعلق الدكتور صفوت العالم أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة وعضو لجنة التشريعات الصحفية والإعلام عن مدي تأثير المواقع الإلكترونية والفضائيات علي الصحف الورقية، قائلاً إنه في السنوات الأخيرة اتجهت الكثير من المؤسسات الصحفية الحكومية منها والخاص إلى إنشاء مواقع إلكترونية لتغطية الأحداث إلي جانب مطبوعاتها الورقية لتواكب المستجدات علي الساحة الإعلامية، وحتى لا تكون بمنأى عن تطورات نقل الأخبار. ويري "العالم" أن تكلفة إنشاء المواقع الالكترونية اقل من تكلفة إنتاج الصحف سواء من حيث إنتاج المطبوعة أو من حيث تكلفة الإعلانات بها وهو من اقتصاديات التشغيل الأسرع والأنسب في هذا الوقت كما أن تأثير المواقع الالكترونية أصبح أكبر من تأثير الصحف الورقية وذلك من خلال استخدام أنشطة الفيديو والفيديو التفاعلي والصور الحي في وقت الحدث ما اثر بالسلب بنسبة كبيرة ليس علي مصداقية الصحف ولكن علي سرعة انتقال المعلومة نفسها. وأشار إلي أن كل ذلك يؤكد "أننا في مرحلة تحول بطىء وليس معناه أن الصحافة الورقية في طريقها للانقراض لأنه ما زالت نسبة من القراء تعتاد علي شراء الصحف الورقية وبالتالي فهو ليس تحولًا نهائيًا إلى الاعتماد الكلي علي المواقع الإلكترونية فقط واستئثارها بالخبر" وأضاف " أن الصحف الورقية تفتقد للموضوعات التفاعلية كما الكثير من الموضوعات الصحفية على الإنترنت، ولم يعد القارئ ينتظر من الصحف الورقية أن تجيب عن الأسئلة الستة المشهورة (من و ماذا و متى و أين و لماذا و كيف) فالقارئ اليوم يحتاج إلي موضوعات أكثر تشويقا وأعمق تحليلا وأضخم إبهارا.