في ذكرى ميلاد نجيب محفوظ، التي تحمل رقم 103، ينشر "المقهى الثقافي" بعض شهادات كتّاب ومبدعين حول أديب نوبل. القاصة رحاب إبراهيم تقول في شهادتها التي تحمل عنوان "فتنة أن تطوي الحياة في ورقتين": منذ قرأتها وأنا مفتونة بها.. تمر السنوات وتزداد هي قربًا من النفس والذاكرة.. يخيل إلي أحيانًا أن نجيب محفوظ كتبها ليعطي لي درسًا خاصًا في الصبر والتأمل. مجموعة "الفجر الكاذب"، التي قرأتها كلها دفعة واحدة ذات صيف في مكتبة قصر التذوق بالإسكندرية، أصبحت فاتنتي التي أتذكرها فجأة فأشعر بما يشبه وخزة في الروح. نحن لا نتعلم إلا في النهاية حتى وإن كنا نعلم منذ البداية، لكنه الفرق بين أن تعلم وأن تتعلم. هذه هي القصة الأولى - التي حملت المجموعة عنوانها – فنحن القراء نعلم منذ البداية أن الراوي يعاني خللًا نفسيًا ما، يعلمه كذلك المحيطون به، أما هو فيستمر في الحديث بحسب منطقه هو. المنطق الذي يتمادى في الابتعاد تدريجياً عن الواقع حتى يصطدم به اصطدامًا يجعل الاستسلام للعلاج أمراً لا مفر منه. هكذا ببساطة نستطيع أن نطبق الرمز على الحياة بشكل عام. التأرجح بين الهرب منها والاصطدام بها أو الاستسلام لها. تعتمد المجموعة كلها في الغالب على الرمز، وهو وإن بدا واضحاً فإنه غير فج ولا تقريري. أنت تفهمه ببساطة وتهز رأسك قائلاً: نعم هذه هي الحياة. الحياة التي اختصرها في القصة الثانية "نصف يوم"، فبدت فعلًا يومًا أو بعض يوم. منذ اللحظة التي يضطر فيها الصغير لترك الملاذ الآمن في البيت ويذهب للمدرسة، يسأل أباه في وجل: لماذا المدرسة؟ لن أفعل ما يضايقك أبدًا، فيضحك الأب: أنا لا أعاقبك..المدرسة ليست عقاباً ولكنها المصنع الذي يخلق من الأولاد رجالًا نافعين. "كن رجلاً..اليوم تبدأ الحياة حقًا.. ستجدني في انتظارك وقت الانصراف". يدخل الولد المدرسة/الحياة فيكتشف بعد الفزع أن هناك أوجها للسرور واللعب والعلم والموسيقى والصداقة "لم أتصور قط أن المدرسة تموج بهذا الثراء كله.. لعبنا شتى الألعاب من أرجوحة وحصان وكرة.. ثم يكتشف جانباً آخر من المدرسة"، المسألة ليست لهوًا ولعبًا.. ثمة منافسة قد تورث ألما وكراهية.. والسيدة كما تبتسم أحياناً تقطب كثيرًا وتزجر". لكن لا يكون أمامه إلا الصبر والاستمرار، فلا سبيل للتراجع حيث الملاذ الآمن مرة أخرى، ليخرج آخر النهار فلا يجد الشوارع والبيوت كما تركها.. يفاجأ بسيل سريع من السيارات فيقف مرتبكًا ليبادره صبي الكواء بقوله: يا حاج.. دعني أوصلك. وعن الحظ والانتظار والصبر والفرص الضائعة والأمل الذي لابد أن تستمر في التشبث به تدور قصة "المرة القادمة" حيث تستعد الأسرة كلها لزيارة ضيف مهم وعدهم بالمجيء ولم يحدد الوقت.. يقضون الوقت في الاستعداد والانتظار حتى يمر النهار بلا جدوى.. يحتجّ أصغر الأبناء رافضاً لفكرة خسارة البهجة المضمونة في انتظار بهجة غامضة، لكن الأب يؤنبه وينصحه بالصبر: "في انتظار نعمة كبرى ضيعنا النعمة المتاحة.. تنهره الأم: هذا هو الهذيان". ينفضّ الأبناء كل إلى ما يشغله ثم ينام الجميع ليستقبل الأب في الصباح اتصالاً يفيد بأن الضيف وقت قدومه وجد الجميع نائمين فانصرف.. يشعر الأب بالعار وتبكي الأم بينما الولد يصيح: ليس علينا ملامة لقد فعلنا الواجب وزيادة، فيرد الأب: بل لم نصبر بما فيه الكفاية". ثم يواسي الوالدان نفسيهما بأن هناك لابد مرة قادمة سوف يعدهم فيها بالزيارة. أما في قصة "الميدان والمقهى" تمر الحياة كلها أيضًا في يوم.. تبدأ بالصباح المشرق والسماء الصافية وصوت أم كلثوم والشاي الأخضر على المقهى حيث يجلس الراوي "مستمتعًا بالصحة والأمل وأحلام الشباب". ثم ينتصف النهار ويشتد الزحام وتبدأ المعارك والمشاحنات وتشتد الضوضاء ثم تغيب الشمس فينفض الجمع ويختفي الناس واحدًا تلو الآخر حتى يخلو الميدان إلا منه هو وصديقه الذي يسأله في حيرة عما حدث؟ ليجيب هو بنفاد صبر: ما حدث قد حدث، لكن ماذا عما لم يحدث بعد؟ إنها الرؤية الشاملة المتأملة التي فتنت بها في هذه المجموعة تحديدًا.. بدا فيها محفوظ وكأنه يجلس فوق سنوات عمره الفائتة يراقب الأيام ويبتسم بدهشة، لكن بلا ندم. لمزيد من التفاصيل إقرأ أيضًا :