"التأثير والتأثر" بين الدول والحضارات علاقة أخذ ورد على مر العصور، فمنذ فكر الإنسان ونشأ يحاول شاء أم أبى أن ينشر فكرًا أو يُؤثر أو يتأثر بالآخر، وفي تاريخ الشعوب اشتهر الاحتلال الفرنسي برغبته في "احتلال الآخر" أو السيطرة عليه وتوجيه فكره، مختلفًا في ذلك عن نظائره من المحتلين الذين كانوا شغوفين بنهب خيرات تلك الشعوب.. لذا فالاحتلال الفرنسي، برغم مساوئ الاحتلال في ذاته، يطوي بعدًا تنويريًا، حتى لو كنا رافضين لفكرة إحلال ثقافة محل أخرى. وإذا كان الاحتلال الفرنسي قد مر سريعًا بمصر، إلا أنه أحدث ما يمكننا أن نسميه إفاقة لشعب عانى ويلات الظلام العثماني، والآن ونحن بصدد زيارة الرئيس السيسي لباريس، نعيد قراءة ما كان من تواصل ثقافي بين العاصمتين المصرية والفرنسية في الماضي، ونتلمس ما أثمره ذلك التعاون الثقافي بين عاصمتي النور في الواقت الراهن. يعد صراع الحضارات آفة الأمم والشعوب، لكن في مجالات التواصل قد يكون المحتل أو الساعي للاحتلال هو المهزوم أمام الدول التى احتلها. حين جاءت الحملة الفرنسية طامعة في كنوز الشرق وخيراته تأثر الجنود والمحتلون بالحضارة الفرعونية، وفي المقابل كانت الحملة الفرنسية بمثابة هزة للمصريين، حيث رأوا أشياءً من الحياة شعروا خلالها أنهم عاجزون، حتى ظنوا أنها سحر من فعل الجن، ثم بعد ذلك أفرزت الحملة العلماء والمؤرخين الذين رافقوا الحملات الاستشكافية، فكانت بمثابة فتح للعلم وزلزال للناس من السبات العميق إلى الدهشة التي دفعتهم إلى الرغبة في المعرفة والعلم. لذا فقد كانت عيون الوالي محمد علي ومن جاء بعده من نسله مفتوحة على المؤسسات العلمية والمعاهد والجامعات الفرنسية، لتحصيل العلم الذي لديها نقص فيه، فكانت بعثة رفاعة الطهطاوي ومشاهداته وكتبه، ك"تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، واضعًا المناهج ونظم المدارس، منشئًا جماعة للترجمة وهو بذلك أخذ العلم وعمل على نشره لإفادة بني وطنه. من بعده تعددت البعثات العلمية إلى أوروبا تحصيلا للعلم الحديث ولحاقا بركب التقدم والحضارة، ثم جاء طه حسين وبعثته إلى فرنسا وتأثيره في الجامعة الفرنسية والحركة العلمية في مصر، ونرى أن طه حسين أحدث ضجة وتحريكا للحياة الثقافية بكتابيه "حديث الأربعاء"، و"الشعر الجاهلي"، وساهم فى وضع المناهج في الجامعة المصرية وعمل على نشر العلم وجعله "كالماء والهواء". وتوالت البعثات العلمية للدول طلبا للعلم وأيضا البعثات العلمية لمصر لتعلم علوم العربية بالأزهر الشريف، وانتشار بعض الكلمات الفرنسية في اللغة المصرية وشيوع وذيوع بعض الكلمات العربية في اللغة الفرنسية، وهناك أيضا حركة الترجمة التي كانت تساعد المحتل على فهم لغة أهل الأرض المحتلة وكانت تسبق غزو البلاد حيث يقوم علماء في جميع المجالات لكي يؤثروا ويستطيعوا فهم الدول التي يسعون لاحتلالها. لكن لا ننكر أن هناك من العلماء من أحب العلم وقدم دراسات خدمت الدول المهزومة، ومنهم من اعتنقوا فكر هؤلاء الدول وانخرطوا فيها وذابوا في نسيجها، ولقرب المسافة بين الدول لتطور وسائل النقل والمواصلات ووجود الإنترنت، الذي تستطيع من خلاله ان تتواصل مع الآخرين صوتا وصورة فإننا أصبحنا في عالم واحد تلاشت فيه المسافات فزاد التأثير والتأثر، وزادت الوسائل المساعدة من التواصل الفكري مما يعد خطرا على الدول الفقيرة فكريا مما يسهل اختراقها، والتأثير على أجيالها بأفكار تخدم فكر المستعمر وتحقق أغراضه. وليس أمام الدول الفقيرة سوى التحصن بالقيم والثبات في وجه الموجات التي تضر بها.