في قلب مصر، تحت سماء القرن التاسع عشر المُثقلة بالأحداث، وُلد إسماعيل صديق، المُلقب ب"المفتش"، في عزبة أبيه بأسيوط عام1830م، كان ابنًا ل"دونالى مصطفى أغا باشا"، أحد قادة الجيش، وأمه كانت وصيفة القصر وصديقة وثيقة لخوشيار هانم، والدة الخديو إسماعيل، هذا الرابط العائلي الوثيق، الذي نسجته أيام الرضاعة، سيرسم مسار حياة إسماعيل ويجعله أخًا في الرضاعة للخديو نفسه. موضوعات مقترحة جديد المكتبة التاريخية.. صدور موسوعة الثغور الإسلامية في 6 أجزاء بتوقيع الدكتور عبد الحميد حمودة إسماعيل المفتش.. رحلة سقوط الخديو الصغير من قمة السلطة إلى قاع النيل «عائلة تيودور».. أهم الأحداث التاريخية في بريطانيا خلال القرن السادس عشر بدايات متواضعة وصعود سريع لم يكن إسماعيل مجرد ابنا لوصيفة القصر؛ فقد بدأ حياته المهنية متواضعًا، يشرف على اسطبلات الوالي عباس باشا ك"مسيّر الركائب"، لكن طموحه وقربه من القصر سرعان ما رفعاه إلى مناصب أعلى. انتقل إلى تفتيش الدائرة السنية في الشرقية، ثم إلى مدينة السنطة، وأخيرًا أصبح مفتشًا لعموم الدائرة السنية بحلول مارس 1863م، في تلك الفترة، امتلك أراضٍ شاسعة بلغت 805 أفدنة، ونال رتبة الباشوية والنيشان العثماني. مع تولي أخيه في الرضاعة، الخديو إسماعيل حكم مصر، بدأ نجم إسماعيل المفتش يتألق فعُيّن مفتشًا للأقاليم البحرية، حيث أبدع في تنظيم الكشوف المالية بطريقة أثارت إعجاب الخديو، فصارت نموذجًا يُحتذى به في الوجه القبلي. لقب "المفتش" التصق به، محا اسمه الأصلي "صديق"، وأصبح رمزًا لسلطته المتزايدة، منح الخديو إسماعيل المفتش صلاحيات واسعة، من تعيين وفصل الموظفين إلى توزيع الأراضي على الأهالي في الشرقية ودمياط، متحديًا الأوامر السابقة التي كانت تحمي تلك الأراضي من البوار. لم يكتفِ بذلك، بل نظّم أملاك الأوروبيين، ومنع تشغيل وابورات حلج الأقطان دون ترخيص، حاميًا الأهالي من الحرائق والروائح الكريهة. إصلاحات وطموح كان إسماعيل المفتش رجل رؤية، أشرف على إنشاء سكة حديد بنها-قليوب ومحطة كفر حمزة، ونظم عمليات السخرة بعناية، مستبعدًا الشيوخ وصغار السن والحرفيين، ليخفف عن كاهل الأهالي، تصدى لتمردات العربان بنزع أسلحتهم ومنحهم أراضٍ، فأعاد توطينهم وأمن طرقاتهم. أسس المفتش مصنعًا للورق ليغني مصر عن الاستيراد، بل وصدر إنتاجه إلى الخارج، واهتم بالتعليم، فجمع التبرعات لإنشاء المدارس، مستغلاً سلطته ليحل المصريين محل الأتراك في الوظائف الحكومية. نظارة المالية وذروة المجد في أبريل 1868م، أمسك إسماعيل المفتش بزمام نظارة المالية، ليصبح الرجل الثاني في الدولة، بل لُقّب ب"الخديوي الصغير" لمدة ثماني سنوات، جمع بين مناصب المالية، الداخلية، والدائرة السنية، وأصبح عضوًا في المجلس الخصوصي، لكن الرياح لا تجري دائمًا كما تشتهي السفن. الوجه المظلم مع تباشير الإفلاس الذي ألم بالدولة في عصر إسماعيل، توقفت البنوك الأوروبية عن إقراض الخديو، هنا تحولت الأنظار إلى جيوب الفلاحين المصريين، فانقض إسماعيل المفتش على أموال الأهالي بسياسات وصفتها الروايات بأنها لا تقل انحطاطًا عن ألاعيب "لاعبي الثلاث ورقات"، فباع المحاصيل وهي لا تزال خضراء للمرابين الأجانب، ثم أعاد بيعها لتجار آخرين، معوضًا الأجانب بسخاء عند شكواهم. ابتكر "قانون المقابلة"، مطالبًا الفلاحين بدفع ضرائب ست سنوات مقدمًا مقابل إعفاءات وهمية، ولم يتورع عن استخدام القمع لإجبارهم على الدفع. لكن أعظم جرائمه، كما يروي المؤرخ جمال بدوي، كانت دوره في بيع نصيب مصر في أسهم قناة السويس – حوالي 50% – مقابل أربعة ملايين جنيه فقط، وهو من فاوض القنصل البريطاني، ووضع خاتمه على الصفقة، لتنتقل الأسهم إلى لندن، ضاربًا مصالح مصر في مقتل. النهاية المأساوية مع تشكيل الحكومة المختلطة برئاسة نوبار باشا، وفرض الرقابة الثنائية الإنجليزية-الفرنسية، بدأ نجم المفتش يأفل، الرقيب الإنجليزي "جوشن"، الذي كان يكرهه، قلب الدفاتر واكتشف فوضى المالية، واصفًا الدولة بأنها "ضيعة خاصة" للخديو وأخيه. طالب جوشن بإزاحة المفتش، لكن الخديو تردد، خائفًا من كشف جرائمهما المشتركة، لكن عندما هدد الإنجليز بمحاكمة المفتش بتهمة اختلاس 40 مليون جنيه، فقرر الخديو التضحية بأخيه من الرضاعة والمشرف على سياساته المالية. في صباح يوم مشؤوم في نوفمبر 1876م، دعا الخديو إسماعيل المفتش لنزهة على ضفاف النيل، انطلقت السيارة الخديوية نحو قصر الجزيرة، لكن عند البوابة، ألقى الحرس القبض على المفتش. صدر قرار من المجلس المخصوص بإبعاده إلى دنقلة في السودان على متن سفينة نيلية، كان مصطفى باشا فهمي، محافظ القاهرة، يراقب تنفيذ الحكم. تقدم إسحق بك، الجلاد التركي، وقبض بيديه الفولاذيتين على المفتش، مختنقًا إياه في دقائق، لكن المفتش في لحظاته الأخيرة، قضم إصبع إسحق بك، منتقمًا قبل أن يسقط، ووضعت جثته في جوال مع أحجار ثقيلة، وألقيت في قاع النيل قبالة المعادي. الخديعة الأخيرة واصلت السفينة رحلتها إلى السودان، ترسل برقيات كاذبة عن حالة المفتش، زاعمة أنه غارق في البكاء والخمر، وبعد أسبوع، كتب طبيب إنجليزي تقريرًا مزيفًا يدّعي وفاة المفتش بانفجار الزائدة الدودية. نشرت الصحف الخبر، والناس، كما يروي المؤرخ، "قرأوا وابتسموا"، في زمن نادرًا ما عرفت قيه الابتسامة. هكذا انتهت حياة إسماعيل المفتش، الرجل الذي صعد من ابن وصيفة إلى "الخديو الصغير"، ثم سقط ضحية طموحه وخيانة أخيه في الرضاعة، ليصبح ذكراه درسًا في تقلبات السلطة ومآسيها. الدكتور سليمان عباس البياضي عضو اتحاد المؤرخين العرب