في سبتمر من العام الماضي رحلت نجفة أبوالحسن صويني أم أمير شعراء الرفض الشاعر أمل دنقل 1940م-1983م لتستقر بجوار قبر وليدها بمقبرته بقرية القلعة بقنا لتتغير الصورة للأبد من أم تتلفح ب"الحبرة" والسواد زي نساء الصعيد وهي تقرأ الفواتح لأم مكلومة حزينة تخاطب قبر وليدها لأم تجاور قبر الجنوبي في صمت. القبر الذي تحدث عنه أمل دنقل في قصيدته الجنوبي "مات أبي نازفاً أتذكر.. هذا الطريق إلى قبره أتذكر" كان العلامة المميزة لأم شاعر لم تتلق تهنئة بأعياد الأم لا في حياتها المديدة كعادة الصعايدة القدامي ولا بعد موتها التي اختزلتها الصورة فقط كأم شاعر كانت تقبع أمام قبره وتقرأ له القرآن في صورة منتشرة علي المواقع الإليكترونية. أنس دنقل الأبن الأصغر كشف ل"بوابة الأهرام" أنه كان سبباً مباشراً في قيام والد الشاعر عبدالرحمن الأبنودي رفيق وصديق شقيقه أمل دنقل بأن يأخذ علقة كبيرة بعد قيامه بفضح سرهما أنهما يشربان السجائر في سينما فريال بقنا التي أصبحت مهجورة الآن. يقول أنس: "والدتي لم تعاقب أمل رغم تأكيدي لها أنه يدخن السجائر مع صديقه الأبنودي فقط قالت له وهي غاضبة متعملش حاجه في السر لوكنت مقتنع بحاجه أعملها في العلن وأمام الناس وهو ما آمن به طوال حياته حتي مماته". يؤكد دنقل أن والدته وتربيتها في أسرة من قرية العويضات كانت ديمقراطية لأبعد الحدود فالأخوال الذين كان منهم اليساري الذي تم اعتقاله أيام الملكية ومنهم الديني المتشدد الذي تم اعتقاله أيام جمال عبدالناصر ومنهم الليبرالي عضو مجلس الشيوخ، لافتاً إلى أن أشقاء الوالدة وأخوالها كانوا يمثلون أسرة تعرف معني الاختلاف خلاف أسرة الأب التي تنتمي تاريخياً للصحابي الجليل عمر بن الخطاب والتي كان من عادتها أنها تناصر الحكومة ظالمة أو مظلومة مشيراً إلى أن تربية والدته في أسرتها جعلتها تتقبل تمرد أمل دنقل الحاد والمعلن. توفي زوجها وكان عمر أكبر أبنائها أمل دنقل 10 سنوات فقط بينما كان عمرها 28 عاما المسافة القليلة بين عمرها وبين عمر وليدها جعلها أقرب لأخت بالإضافة إلى دورها كأم ترعي أيتاماً. رفضت أن تبيع ميراث زوجها الذي كان يبلغ 15 فداناً رغم إيجارات الإصلاح الزراعي الذي كان لا يطعم ولايغني من جوع كانت تفتح منزلها الطيني المكون من دورين وهو المنزل الذي أعطاه الجد كثير الزواج والذي انجب أكثر من 10 أبناء لوليده الأزهري المستنير الذي كان يكتب قصائد في مناصرة الفلاح المصري وقضاياه. يضيف أنس أن الوالدة التي كانت تحفظ القرآن الكريم والذي تعلمت علي يد زوجها الذي ارتحل بها للقاهرة كانت تمتاز بالجلد والصبر وعدم الكشف عن ما يخالجها من مشاعر وأحزان تلك الأحزان التي رافقتها في موت زوجها الشاب البالغ من العمر الأربعين عاما ثم حزنها علي فلذة كبد أخرجته للحياة شاعراً ومات صغيراً كوالده بمرض السرطان القاتل. في الغرفة 8 التي تحولت لعلامة بارزة في مسارات الشعر العربي الحديث كان عليها أن تواجه وليدها المريض وجهاً لوجه لم تدخل عليه منهارة وهي تنوح، كانت تحدثه وتهمس له دون بكاء لتعود للصعيد ثم تنتظر جثمانه ليقبع في قبره الذي كانت تذهب إليه لتلتقط كاميرا المخرجة عطيات الأبنودي صورتها علي حين غفلة منها وهي الصورة التي تبدو محفورة في التاريخ حتي حين تبدلت الصورة من أم تحدث الوليد وترحل منه إلي أم تستقر بين الوليد غير راحلة لمنزل كانت تستضيف فيه رفقاء شعره وحياته. جئت إليك مثخناً بالطعنات والدماء "مقطع قصيدة من البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" القصيدة التي كانت تهواها الأم من ابنها "هذا ما يؤكده الأخ الأصغر عن عشق الأم لشعر وليدها لافتاً أن الأم التي كانت تصمم علي قراءة مجلة صباح الخير لتتطلع علي شعر صلاح عبدالصبور وصلاح جاهين والأبنودي وابنها كانت تؤكد أنها كانت تهوي هذه القصيدة الرائعة لأسباب لم يذكرها لنا كثيراً وربما يكون لاكتمال الصورة التي ستذهب لها في القبر" جئت إليك مثخناً بالطعنات" كأنها كانت تناديه ويناديها. يضيف دنقل أن الأم التي كانت تعد الفطور لأبنها أمل وصديقه عبدالرحمن الأبنودي لم تقف أمام الشعر فهي كانت تناصر الشعر للأبد ربما المناصرة للشعر هي التي هيئت لوليدها أن يكون من أهم شعراء مصر والعالم العربي في العصر الحديث مشيراً إلي أن قدرها كان عليها أن ترتبط بزوج شاعر وتنجب شاعرا. الأم نجفة هي الوحيدة التي كانت تعرف عمق تدين وليدها أمل دنقل وكانت تسخر ممن يتهمونه أنه غير متدين فهي الأم التي كانت تعد له لباسه الأبيض قبل أن يتهيأ لخطبة الجمعة في مسجد القرية وهو الابن الذي كان يعلن كرهه للتدين المزيف في كل جلساته مثل والده الأزهري المستنير وهي "نجفة" التي تفرغت للصلاة سنوات طويلة قبل أن ترتاح بجوار قبره الذي كان يرتاده المحبون والرفاق والأصدقاء قبل أن تقوم باستضافتهم حين يصممون علي مقابلتها كالشاعر عبدالرحمن الأبنودي. كانت تعلم بقصة حبه الأولي التي كانت عميقه والتي جمعته بفتاة من المنصورة كان والدها يعمل معلماً للموسيقي في مدارس قنا إلا أنها لم تنهره أو تغضبه بل لم تحدثه إطلاقاً في هذا الحب الذي جعله يردد أغاني العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ فهي كانت تهوي الحرية وأن يكون الإنسان مسئولاً عن اختياراته في الحياة. حين تسأل أنس عن آخر وصاياها في حياته؟ يجيب لم توص بشىء إطلاقاً فهي كانت مثل النساء الصعيديات حين يبلغن الكبر من العمر لا يوصين فالأم التي عاشت حياة مديدة كي تعلم دون أن تثبت للجميع أنها تعلم غيرت كل زوايا الصورة عنها من أم تجلس بقرب قبر وليدها ثم ترحل إلي منزلها لتكون في استقبال رفقاء ابنها الشاعر إلي أم استقرت للأبد بجوار قبر وليدها لتحدثه بصمت "جئت إليك مثخناً بالطعنات".