اشتعلت النار في بوعزيزي فاشتعلت بعدها الثورة في تونس.. لتحرق هشيم 23 عامًا، هي عمر حكم زين العابدين بن علي، ومات بو عزيزي لتدخل من بعده تونس مرحلة جديدة في تاريخها. لكن كان الهشيم مستعصيا على النار وغير قابل للاشتعال في كثير من البلاد الأخرى، ولم يجن المحترقون بعد بو عزيزي سوى الخيبة والفضيحة أو الموت بوصمة الجحود المؤدي للكفر. الناربعد بوعزيزي، لم تعد حلا، لأن كثيرا من الأنظمة سارعت بتعاطي المصل المضاد للفيروس التونسي الذي بدأ خلال أيام في الانتشار، فأصاب 5 في الجزائر و4 في مصر وواحد في موريتانيا، وفيما يبدو أن الخوف أصبح فقط، من أن يتحور الفيروس لوسائل أخرى للتعبير عن الاحتجاج. والملاحظ أنه لم تعد فئة بعينها هي التي تحاول الانتحار حرقًا فالعاطل والمحامي والموظف والشاب ومتوسط العمر والكهل بل ومن هو ع المعاش. اختلف الاشخاص في أعمارهم ومهنهم، واتفقوا في طريقة الاحتجاج وهي إشعال النيران في أجسادهم تعبيرًا عن أوجاعهم في ظل ظروف المعيشة، مما جعلنا نطرح تساؤلات علي الخبراء السياسيين والاجتماعيين والاقتصاديين والقانونيين لتفسير هذه الطريقة الاحتجاجية. الدكتور مصطفي علوي رئيس قسم العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية، يؤكد أن حوادث إشعال الأفراد النار في أنفسهم شئ غير إيجابي، مشيرًا إلي احتمال تأثرهم بما حدث في تونس وهو ما لا يستطيع أحد أن ينفيه -علي حد قوله- خصوصا وأنه حدث بعدها في أكثر من بلد عربي. وتساءل علوي" هل يتحول الإشعال في النفس إلي نمط من أنماط التعبير؟" وتابع قائلا: إن تكرار هذه المحاولات لابد وأن يستخدم في اتجاه مراجعة مهمة لمجمل السياسات الاقتصادية والاجتماعية وما يرتبط منها بتحقيق العدالة الإجتماعية بما يقود في النهاية إلي تعديلات في هذه القوانين. وقال علوي - وهو أيضا عضو لجنة السياسات بالحزب الوطني-: رغم اختلاف حالة مصر عن تونس، إلا أنه علي الجميع الاعتراف بوجود مشكلة اجتماعية تمثل مسئولية لابد من حلها، في الوقت الذي لا يشعر فيه المواطن بالتحسن في معدلات النمو، وأشدد هنا علي ضرورة أخذ الموضوع بعين الاعتبار وبجدية من قبل الباحثين والسياسيين. وقال الدكتور علي لبن، أستاذ علم الإجتماع بجامعة عين شمس محللا: إن المرحلة السابقة عن الانتحار مباشرة هي مرحلة تضيق فيها كل السبل أمام المقدم عليه، فيجد المنتحر نفسه في لحظة يوازن فيها بين شيئين، إما الحياة بكل ضغوطها، أو الموت، فيختار الأسهل بالنسبة له ويهرب من الضغوط الواقعة عليه بالموت. وتوقع لبن تكرار حالات الانتحار حرقا خلال المرحلة المقبلة، بسبب ضيق الأحوال الاقتصادية، وقال: يمر الإنسان لفترات طويلة تحت ضغوط الفقر وضيق الحال ولكن في وقت سابق كان هناك تراحم بين الناس ولم نكن نسمع عمن لا يستطيع الحصول علي رغيف العيش. واعتبر لبن، تجربة بوعزيزي في تونس ملهمة لكثيرين وإشارة للشرائح التي تعيش ضغوطًا اقتصادية في عدد من الدول، لاختيار الموت والهرب به من ضغوط الحياة. وفي المقابل يقول محمد منيب رئيس المنظمة المصرية لحقوق الانسان السابق: إن إشعال المواطن النار في نفسه (كما يراه) ليس جريمة، طالما أنه لم يلحق الضرر بأي شئ حوله، مثل أن يحرق شخصا آخر أو أن يحرق سيارة مثلا!. على الجانب الاقتصادي، يعلق الدكتور إبراهيم العيسوي الخبير الاقتصادي قائلا: إن تأثير هذه الأحداث علي الاقتصاد المصري وقتي، كرد فعل للأحداث من جانب المتعاملين في البورصة (مشيرًا إلى الهبوط الذي أصاب تعاملات البورصة في القاهرة) للتخوف من ردود فعل قد تحدث، وطبيعي أن يحدث هروب من السوق المصرية أو السوق المالية لأسواق أكثر أمنا، لكن هو تأثير قصير الأجل لن يمتد لفترة طويلة وإن كان يصعب تحديد تلك المدة. أما الباحث السياسي الدكتور عمار علي حسن فيعلق على القضية قائلا: طبعًا ما أقدم عليه محمد بوعزيزي لم يعد يخصه وفارق جسده، ليصبح رمزًا لنوع جديد من المقاومة المدنية، أما الذي قد حدث اليوم وأمس في قيام شخصين بإحراق نفسهما نتيجة لشعور الناس بأن الثورة التونسية بدأت بإشعال بوعزيزي النار في نفسه، فينظر إلى ذلك السلوك بأنه طلب للثورة وليس بالضرورة أن يؤدي بالنتيجة ذاتها. وشدد حسن، على ضرورة التعامل مع هذا السلوك بشيء من الجدية وقال: هذا الأمر يجب أن ينُظر إليه بتدبر شديد، باعتبار أن هناك قطاعات عديدة تلح في طلب الثورة، فوصول الإنسان إلى هذه المرحلة من التضحية وهو أن يجود بذاته، هي أعلى مراحل التضحية، وقد لا يؤدي قيام هؤلاء بإحراق أنفسهم إلى ثورة لكنه سيؤثر بالإيجاب - دون شك- لافتا إلى حالة غبن واحتقان لدى الجمهور، وستلفت نظر الحكومة أن هناك احتجاجا قد يؤدي إلى ثورة لكن بشرارة أخرى غير التي أشعلت ثورة الياسمين. واتفق معه الروائي إبراهيم عبد المجيد في مسألة أخذ الأمر بشكل جاد، وطالب الحكومة بضرورة الالتفات إلى تلك الظاهرة "الخطيرة" للحد منها "فالشعب كل ما يريده هو أن تنصلح أحواله"، وقال: شيء مؤلم جدًا ما حدث بالأمس واليوم، ما حدث يشير إلى أن الناس قد بلغت مدى طاقتها النفسية، وأقدموا على حرق أنفسهم ظانين أنه حلًا للتغيير، لكن هناك طرقًا أخرى كثيرة للتغيير غير تلك، وليس من الضروري أبدًا أن ما قام به بوعزيزي يصلح لأن يتم تطبيقه هنا. وأضاف: بالطبع قد ضاقت بالناس مشاكلهم الاجتماعية والشخصية، لكني أدعو الله ألا يستمر ذلك، وأتمنى ألا يستمر الناس في هدر أرواحهم فذلك ليس حلا على الإطلاق. وانتهى كلام الخبراء والمثقفين المقتضب حول الحالة العامة والحالات الخاصة ولكن وسط أجواء يخيم عليها القلق والانتظار مما حدث أو قد يحدث!.