د. خالد قنديل كان طبيعيا أن ينتبه العالم أجمع إلى كلماتٍ قليلة ومكثفة جاءت على لسان الرئيس القائد عبدالفتاح السيسي على هامش افتتاح أحد المشاريع القومية بالعاصمة الإدارية الجديدة، وقد أوضح بما لا يدع مجالا للمراوغة، أن هناك تعنتًا لا تزال إثيوبيا وهي بلد شقيق بحكم جيرة القارة تحاول فرضه بسياسة الأمر الواقع فيما يتعلق بأزمة سد النهضة، الذي شرعت في بنائه وعن طيب خاطر من مصر لأنها لا تقف في وجه مسار أي تنمية في أي من دول القارة.
وبعد أن نفذت الملء الأول للسد، فإن إثيوبيا تتعنت في مسألة الإصرار على الملء الثاني دون الرجوع إلى أي عهدٍ أو اتفاق ملزم بنواحٍ فنية لقواعد الملء والتشغيل، ما يهدد بمخاطر تمس الأمن المائي ومن ثم الأمن القومي، وقد أشار الرئيس إلى ارتفاع حجم التكلفة التي تترتب على أي مواجهة أو صراعٍ في هذا الصدد، وهو أمرٌ قطعًا لا تريده مصر المعروفة في التاريخ بأنها داعية السلام في الأرض، كما أنها داعيةٌ دائمًا وخصوصًا في الوقت الراهن، إلى التنمية والتحضر للمنطقة وللعالم أجمع، لذا فقد احترمت رغبة إثيوبيا في التنمية عبر المتاح لديها من مياه النيل، شريطة عدم المساس بمصالح مصر المائية.
وكان أمرًا بليغا وكاشفًا للنيات الطيبة في الدعم والتعاون، حين وجه الرئيس خطابه للشعب الإثيوبي ب"أشقائنا" في إثيوبيا، ولكن هل يليق بالشقيق أن يمس أمن شقيقه ويجعله على فوهة الخطر؟ لذا أيضًا كان التحذير الواضح من مغبة المساس بحصة مصر من مياه النيل، مؤكدًا أنه لا يجب الوصول لمرحلة "أنك تمس نقطة مياه من مصر"، مشيرًا إلى انفتاح مصر على كل الخيارات.
ومؤكدَا أن التعاون والاتفاق أفضل بكثير من أي عمل آخر، في الوقت الذي تنسق فيه مصر مع السودان الجارة والشقيقة عبر التاريخ، للتحرك في إطار عدالة قضية البلدين معًا، وفي إطار القانون الدولي المنظم لحركة المياه عبر المجاري الدولية.
وكانت إثيوبيا قد بدأت بناء سد النهضة عام 2011 دون اتفاق مسبق مع مصر والسودان، مشيرة وقتها إلى أن هدفها من بناء السد هو توليد الكهرباء لأغراض التنمية، وقد كان هناك ترحيب مصري وسوداني في ظل عدم تأثير السد على انتظام تدفق المياه إلى الأراضي السودانية بما يؤثر على سدودها وقدرتها على توليد الكهرباء، أو التأثير على حصة مصر من المياه البالغة 55.5 مليار متر مكعب سنويًا تحصل على أغلبها من النيل الأزرق.
وانتهت إثيوبيا في الصيف الماضي من الملء الأول لخزان السد دون التوصل لاتفاق مع مصر والسودان بوصفهما دولتي المصب، ولا تزال مصر والسودان تطالبان بالتوصل لاتفاق ملزم حول قواعد ملء وتشغيل السد قبل إتمام عملية الملء الثاني الذي تصر إثيوبيا عليه منتهجة أسلوب المراوغة والمماطلة في تعنت لا يمتلك المقومات الكافية.
وكان الملء الأول للسد قد وصل إلى حوالي 5 مليارات متر مكعب، ومن الممكن أن يصل الثاني إلى 15 مليار متر مكعب، مما يشكل خطورة كبيرة، ما أثار حفيظة الرأي العام المصري، وأثار غضبًا طبيعيًا لدى شعب مصر، لأن مصر لم ولن تتهاون في حقوقها المائية، أو فيما يمس أمنها القومي، لذا ومع لغة العقل والصبر الذي طال بما فيه الكفاية تتوجه مصر للشركاء الدوليين بالتدخل للتوصل لاتفاق ملزم بعيدًا عن الحيادية، لأن الحياد في هذا التوقيت غير مفيد فالأمر يضر بدولتي المصب، مصر والسودان، ويهدد حياة شعبيهما.
وتذكرنا رسالة الرئيس السيسي الأخيرة في هذا الشأن، بتصريحاته إبان الأزمة الليبية منذ عام، حيث صرح وقتها بأن خط (سرت - الجفرة) خطر أحمر بالنسبة لمصر، لا يمكن الاقتراب منه، وهنا نلحظ هذه اللغة السياسية الحكيمة في المقام الأول، والتي تعي قيمة ومعنى أن لكل حدثٍ حديثًا.
وفي لفتة طيبة وضرورية ومهمة نجد الأصوات العربية المتضامنة والداعمة والمساندة لشقيتهم، حيث أصدرت دول عربية عدة سلسلة بيانات أعلنت خلالها تأييد موقف مصر في أزمة سد النهضة، فرأينا بيان الخارجية السعودية أبن المملكة تؤكد دعمها ومساندتها لجمهورية مصر العربية وجمهورية السودان، وتؤكد أن أمنهما المائي جزء لا يتجزأ من الأمن العربي، مؤكدة دعمها ومساندتها لأي مساعٍ تسهم في إنهاء ملف سد النهضة وتراعي مصالح كل الأطراف، وتشدد على ضرورة استمرار المفاوضات بحسن نية للوصول إلى اتفاق عادل وملزم بهذا الخصوص، وكذلك الخارجية العمانية في بيان لها أن هذه الجهود تأتي بما يحقق الاستقرار للمنطقة ويحفظ مصالح جميع الأطراف"، وأصدرت الحكومة اليمنية بيانا أعربت خلاله عن تضامنها ووقوفها مع جمهورية مصر العربية في سعيها لإيجاد حل عادل لملف سد النهضة ودعم جهودها المخلصة لتحقيق السلم والاستقرار الإقليمي، كما أعربت مملكة البحرين عن تضامنها مع مصر في الحفاظ على أمنها القومي وأمنها المائي، وحماية مصالح شعبها وحقها المشروع في الحياة، وجهودها المخلصة لتحقيق السلم والاستقرار الإقليمي.
إلى أن دخلت الولاياتالمتحدة على خط الأزمة سد النهضة، وحذرت الخارجية الأمريكية من أي خطوات أحادية في أزمة سد النهضة، كما حثت الخارجية الأمريكية الأطراف الثلاثة إلى مواصلة التفاوض حتى التوصل إلى حل، غير أن إثيوبيا أبلغت الولاياتالمتحدةالأمريكية، بتمسكها برعاية الاتحاد الإفريقي لمفاوضات سدها، في مرواغة جديدة ومستمرة تؤكد أن رئيس الوزراء الإثيوبي يريد استخدام أزمة سد النهضة لتحقيق مكاسب سياسية، ولكن هناك انقسامات في الداخل الإثيوبي حول التعامل مع هذه القضية، ومن المتوقع أن الضغوط الدولية ستتوالى على أديس أبابا لأن القوى الدولية التي لها مصالح بالمنطقة ستدرك أنه حال استمرار الأزمة، فإن مصالحها عرضة للضرر وليس الدول الثلاث فقط.
وفي النهاية يجدر بنا أن نثق في قوة مصر التي تستمدها من حضارتها وترسيخها الدائم للسلم في العالم أجمع، وقد شهد هذا العالم عبر مصر أعظم حضارة في التاريخ كانت على ضفاف هذا النهر الأعرق الذي حرص الأجداد واللاحقون على استمرار تدفقه النيل بالخير للعالمين.