أعفتنا إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، من مؤونة وعبء الانتظار الطويل، لمعرفة بوصلة توجهاتها الخارجية، خصوصًا حيال منطقة الشرق الأوسط المثقلة بأزمات وأوجاع ومخاطر، لا يلزمها سوى شرارة صغيرة لتندلع وتتناثر شظاياها يمينًا ويسارًا، فها هي، بعد 34 يومًا من تسلمها السلطة، تُظهر وجهها الخشن، وتقول بدون مواربة ولا حياء إن واشنطن لن تكون مرنة ومتفهمة في سياساتها الخارجية، وإنها ستمضي قدمًا في مدرستها التقليدية بممارسة الضغوط والضرب تحت الحزام وفوقه، لخدمة أغراضها ومصالحها. ذلك الاستنتاج الوجه الخشن مبني على مقدمات ومؤشرات آنية وجيهة تعضده، منها الغارة التي شنها الطيران الأمريكي الأسبوع الفائت داخل الأراضي السورية على ميليشيا تابعة لإيران، وسعي واشنطن لابتزاز السعودية بورقة مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، والتلويح بفرض عقوبات على الرياض، وإعادة تقييم العلاقات الأمريكية السعودية في ضوء تقرير المخابرات الأمريكية عن مقتل خاشقجي، الذي لم يقدم أدلة متماسكة ويعتد بها، وإعلان نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب، اعتزام الكونجرس سن تشريعات تتضمن معاقبة من تصفهم بمرتكبي انتهاكات بحق الصحفيين، وأحاديث أن بايدن وإدارته لن يصمتا على مخالفات المنتهكين لحقوق الإنسان وحرية التعبير. المشهد بهذه الكيفية بدا عبثيًا وغير مبشر بالمرة، لأن الولاياتالمتحدة تتصرف من موقع "شرطي العالم" المكلف بضمان انضباط الدول وتقويم سلوكها، والتدخل في الشئون الداخلية للآخرين بحجج وأعذار، لو فحصناها بجدية وتجرد سنصل إلى أنه من الأولى والأوفق لواشنطن النظر للداخل لديها وتطبيق ما تنصح به عليه، قبل دعوتها لغير مواطنيها بتنفيذها، والتهديد بأنها ستعاقب من تراه خارجًا عن خطوطها ومعاييرها المرسومة، فالثابت أن فاقد الشيء لا يعطيه. ألم يكن حريًا بأمريكا راعية حقوق الإنسان والديمقراطية أن تبدي احترامها لمؤسسات الدول الحليفة لها، مثل السعودية التي لم تنكر ارتكاب بعض المنخرطين في أجهزتها الأمنية جريمة مقتل خاشقجي البشعة، والتحقيق معهم وصدور أحكام قضائية ضدهم، لماذا تشكك واشنطن في نزاهة ومصداقية المؤسسات القضائية والتشريعية والأمنية للدول الأخرى، وتغذي بتشكيكها وإثارة اللغط حولها المناهضين والمتآمرين ضد مفهوم الدولة الوطنية، والجماعات المتطرفة والمتشددة الرافضة لمسارات البناء والتحديث والإصلاح الشامل؟ ألم تجرب أمريكا قبل أسابيع قليلة ما يتمخض عن استباحة مؤسسات الدولة والاستهانة بها وبقيمتها، عندما دنست أقدام الغوغاء من مؤيدي الرئيس السابق دونالد ترامب، الكونجرس، وروعوا نوابه، وستظل مشاهد اقتحام "الكابيتول" نقطة سوداء في التاريخ الأمريكي المعاصر لن يمحوها الزمن، فلمصلحة مَنْ تسهم في إضعاف المؤسسات الوطنية للدول، ولماذا لا تتذكر القيادات الأمريكية درس جريمتها العظمى في العراق التي قصمت من خلالها العمود الفقري لمفهوم الدولة الوطنية ومزقته إربا، وتحولت بلاد الرافدين لمرتع للميليشيات والطوائف المسلحة، والإرهابيين، وكان تنظيم داعش الإرهابي أحد الأبناء الشرعيين لسياسة واشنطن بهذا البلد العربي المهم، ولا تزال بغداد تحصد ومعها المنطقة الثمار المرة لتلك السياسة الشيطانية غير الحصيفة وغير الحريصة على الدولة الوطنية، التي أدت لاختلالات وتهديدات أمنية مرعبة. وإذا أمعنا النظر قليلا، فإن الولاياتالمتحدة غير مكترثة بالصورة التي تبديها بملفات حقوق الإنسان والديمقراطية والحريات العامة، فهي بضاعة وسلعة براقة معدة للتصدير الفوري وموظفة لتحقيق مآرب إستراتيجية أخري. من بين هذه المآرب أن واشنطن قلقة من انسحاب البساط من تحت قدميها كقوة عظمى بالسنوات الماضية، وقفز قوى عتيدة ومثابرة لمنافستها بحدة وكسب أرض ونفوذ أكثر، فعلتها روسيا، والصين، وإيران، وفرنسا، وبايدن وفريقه يودون التأكيد على أن أمريكًا حاضرة وستبقى قوة عظمى من الطراز الأول، وضربتها الجوية الأخيرة في سوريا موجهة لإيران ومعها الحليف الروسي لدمشق. كذلك، فإن واشنطن تريد البقاء كقوة لا تستغني عنها الدول المنتشرة فيها قواتها العسكرية، لأن ذلك يحقق لها مزايا إستراتيجية وأمنية واقتصادية ومالية لا تعد ولا تحصى، ولا ترغب في تبدل موازين القوة بالشرق الأوسط مع سعي بعض دوله لتعظيم وتوسيع قدراتها الذاتية في إنتاج احتياجاتها من الأسلحة والتكنولوجيا العسكرية المتقدمة، وتنويع مصادر تسليحها، بحيث لا تبقى أسيرة دولة بعينها، وهذا وضع لا يريح الإدارة الأمريكية ولا لوبي الصناعات العسكرية المشارك في تمويل الحملات الانتخابية الرئاسية وللكونجرس. ولكن يتسنى للولايات المتحدة عرقلة وإعاقة التوجه السابق لقوى بعينها في الشرق الأوسط، فإنها ستبحث عن وسائل ومنافذ للضغط والمقايضة بها عند الحاجة، كملف حقوق الإنسان ونشطاء المجتمع المدني، وبقية القائمة معلومة للجميع من كثرة وتكرار استخدامها من جانب الإدارات الأمريكية المتعاقبة التي لا تريد أحدًا خارج مظلتها، وتحارب بضراوة المحافظين على استقلال قراراتهم وحماية السيادة الوطنية، ومراعاة مصالح أوطانهم، وليس ما يُغضب أو يُسعد أمريكا، أو غيرها. ونحسب أن أمريكا مطالبة بإعادة التفكير في خطواتها المستقبلية تجاه الشرق الأوسط، وأن تعلم أنها إذا تابعت سياسة الوجه الخشن فإنها ستخسر الكثير، وستحرق أصابعها طواعية، جراء سماحها لتنظيمات إرهابية كجماعة الإخوان النفاذ إلى دوائر صناعة القرار لديها لتنفيذ خططها الهدامة والتخريبية ضد دولها، وإن خضعت لمطالبهم ودعواتهم المشبوهة، سيزداد الإرهاب وأخطاره، وستفقد مزيدًا من الحلفاء، لذا فعليها الانتباه جيدًا لما تدبره وتعده بمطبخها السياسي والأمني.