الأخطار والتهديدات المحدقة بالأمن القومي للدول، تتفاوت وتتنوع مصادرها ما بين تقليدي وغير تقليدي، وأسهم التقدم التكنولوجي المتواصل والشامل في زيادتها وتوسيع رقعتها، وباتت الحكومات مجبرة على ملاحقة الأشكال المتجددة للمخاطر غير التقليدية، وتحملها أعباء إضافية ومرهقة لمجابهتها ومنعها من إلحاق أضرار جسيمة بالأمن القومي للبلاد. وتحتم على حكومات العالم إدخال تعديلات على إستراتيجياتها الأمنية على وجه السرعة، بحيث تعزز قدراتها وتمكنها من مقاومة وهزيمة عدو مجهول قابع خلف جهاز كمبيوتر في بقعة ما ويشن بلا هوادة هجمات إلكترونية على مؤسسات وهيئات حكومية وخاصة، وبعض المؤسسات المستهدفة تتسم بالحساسية والخطورة، لارتباطها الوثيق مثلا بالترسانة النووية للقوى الكبرى، وجهات ووزارات سيادية، ويمثل مجرد اختراقها كارثة أمنية بكل المقاييس والمعايير المتعارف عليها. وخلال الأسبوع الماضي، كشفت الولاياتالمتحدة عن تعرضها لأخطر وأوسع هجوم إلكتروني في تاريخها، ووصفه نواب بالكونجرس الأمريكي بأنه عمل حربي يلزم الرد عليه، وتوعد الرئيس المنتخب جون بايدن، منفذي الهجمات الإلكترونية بعقاب أليم وموجع، متعهدًا بأن الأمن الإلكتروني سيكون له أولوية قصوى من جهة إدارته، وأنه لن يقف مكتوف الأيدي إزاء استهداف القوة العظمى رقم واحد بعمليات قرصنة إلكترونية غير مسبوقة. حالة الاستنفار الأمني لم تقتصر على أمريكا بمفردها، لكنها امتدت لبقاع أخرى من العالم تعرضت بدورها لهجمات مشابهة مجهولة المصدر، ودخلت الأممالمتحدة على خط المواجهة والتحذير بدعوتها الدول الأعضاء فيها للمحافظة على أمنها الإلكتروني، والدعوة الأممية تظهر أن الأمر جد خطير ولا يقبل التهاون تجاهه، أو الصمت عنه وعن مخاطره الآن ومستقبلًا. ما جرى من قرصنة إلكترونية ولا يزال في أمريكا وأوروبا يبرز عددًا من الحقائق التي يجب أن تكون تحت الأنظار عند إعداد ورسم السياسات والتوجهات، منها أن حروب المستقبل المنظور ستكون في معظمها خفية وسلاحها الفتاك المدمر سينحصر في أشخاص أذكياء على مستوى عال من الكفاءة والتدريب ومزودين بكمبيوتر متطور ينفذون بواسطته لأعماق دوائر صنع القرار السياسي والعسكري والاقتصادي في أي مكان يتم اختياره كهدف لاختراقه والتجسس عليه. وإن نظرنا لما هو أبعد من الحدث الماثل أمامنا سنصل إلى أنه لن يكون هناك احتياج ماس قريبًا جدًا للدفع بقوات ومعدات ثقيلة وطائرات مقاتلة، وتكبيد خزائن الدول مليارات الدولارات، وسقوط قتلى وجرحى، لخوض حرب تقليدية مع أي دولة، فالجيش الإلكتروني سيصبح البديل الآمن لكل ما سلف، لأنه قادر على إحداث خسائر فادحة وأضرار غير محدودة ومؤلمة للمصنفين ضمن خانة الأعداء، وكيف لا يفعل ذلك وهو يوجه أسلحته بدقة لمناطق العصب، كشركات التكنولوجيا، ومراكز الأبحاث العاملة في قطاعات الأدوية وغيرها، ووزارات الدفاع والخارجية والتجارة.. إلخ؟. مما لا شك فيه أن الولاياتالمتحدة تقوم حاليًا بجهد جبار وخارق لوضع حد للهجوم الإلكتروني الكاسح، وحصر ما سببه منفذو القرصنة الإلكترونية من ضرر بالغ لمؤسساتها ومصالحها الإستراتيجية العليا، وسيتعين عليها إنفاق ملايين الدولارات بحثًا عنهم وعمن يحركهم على شبكة الإنترنت مترامية الأطراف، بالإضافة لملايين أخرى ستنفق لتطوير برامج تحمي أسرارها على أجهزة الكمبيوتر، وتغيير مخططاتها وإستراتيجياتها الأمنية، خصوصًا وأن الهجمات الإلكترونية الأخيرة كشفت بجلاء مدى هشاشة وضعف أنظمة الحماية التي تستخدمها، مما يستدعي إعادة النظر الكامل فيها، والتجهيز لرد الصاع صاعين للدول أو الجهات المدبرة لتلك الهجمات العنيفة التي ستوضع في الاعتبار لدى صانع القرار وسيترتب عليها تحولات سنعلم مداها لاحقًا. وما لا نستطيع تجاهله، أو إغفاله أن صراعات الكبار على الساحة الدولية أصبحت تدور "أونلاين" وليست بآليات ووسائل الحرب الباردة المعتمدة على الشد والجذب، فتصفية الحسابات والخلافات تتم عبر الإنترنت، ومن الظاهر أن معارك الأونلاين مريحة ومحببة للقوى العظمى وأجهزتها الأمنية، لأنه ليس من السهل العثور على بصماتها فيها، والنفي حاضر وجاهز عند توجيه أصابع الاتهام إليها. فما إن اتهمت واشنطنموسكو بتدبير الهجمات الإلكترونية ضدها، حتى بادرت روسيا للنفي، وأنه لا صلة لها بهذه الهجمات، مع أن الواقع العملي يؤكد أن روسيا ومعها الصين وكوريا الشمالية من أبرز الدول صاحبة الخبرات العريضة والطويلة في مجال القرصنة الإلكترونية. نستخلص مما شهدته أمريكا ضرورة تحديث الدول للمفاهيم والأسس المرتكز إليها الأمن القومي وأبعاده والمصادر المهددة له، وذلك من خلال ضم القرصنة الإلكترونية لقائمة التهديدات المحتملة، وبناء عليه لابد من صياغة إستراتيجية واضحة للحرب الإلكترونية، وامتلاك وسائل الردع اللازمة لمواجهتها والانتصار فيها عند خوضها، ويتصدرها إنشاء هيئة تتولى التنسيق بين الجهات المعنية، وتدريب الكوادر البشرية على طرق التصدي للحروب الإلكترونية، وأن تتكاتف الأسرة الدولية لتصنيف الهجمات الإلكترونية كشكل من أشكال الإرهاب الواجب مجابهته ومعاقبة من يثبت انخراطه فيه من الأفراد، أو الدول، أو المؤسسات.